مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/06/2008

تكريم الله للإنسان وعاقبة ذلك

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


عجيب شأن ابن آدم مع مولاه وخالقه عز وجل، متعه الله سبحانه وتعالى بسلسلة من المكرمات وهو معرض عنها وعن شكر الله سبحانه وتعالى عليها، عاكف على الاستجابة لرغائبه وأهوائه إلا من رحم ربك، خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه كما قال في محكم تبيانه، أسجد له ملائكته أجمع، بثَّ فيه الروح التي نسبها إلى ذاته العلية، أعلن عن إكرام الله سبحانه وتعالى له وعن تميزه عن سائر المخلوقات بهذا التكريم المعلن عنه وصدق الله إذ قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].


سخر له المكونات التي من حولها وجعلها خدماً لمصالحه ورغائبه، ثم إنه فوق ذلك كله سما به إلى مستوى أهلية الخطاب له فخاطبه عز من قائل بكلام الله، بكلامه الذي أنزله إليه عن طريق الرسل والأنبياء فماذا كانت عاقبة هذه السلسلة من المكرمات التي أغدقها الله على هذا المخلوق الإنسان وماذا كان موقفه من الإله الذي كرمه بها وأنعم بها عليه؟ إنه بقي عاكفاً على رغائبه معرضاً عن ذكره منصرفاً عن شكر نعمائه ناسياً وصاياه وأوامره التي يخاطبه بها، ومرة أخرى أقول: إلا من رحم ربك، إنما يصدق هذا على الكثرة التي قال الله عز وجل عنهم: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103].


يهيب الله عز وجل به بعد هذا التكريم كله أن يذكره ولا ينساه، أن يشكر نعمه التي أغدقها عليه، أن يستجيب لوصاياه التي يخاطبه بها، يخاطبه بذلك متحبباً آناً ومنذراً ومهدداً آناً ومع ذلك فإن هذا الإنسان العجيب في شأنه يظل عاكفاً على رغائبه معانقاً أهواءه وشهواته، منصرفاً عن وصايا الله وأوامره، يخاطبه الله متحبباً يقول: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة:151-152].


ولكن الإنسان يظل معرضاً، يخاطبه مهدداً ومنذراً، يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طـه: 126]، أليس عجيباً شأن هذا الإنسان يا عباد الله؟! وإنك لتنظر بالمقابل إلى الجمادات بأنواعها وإلى النباتات على اختلافها وإلى الحيوانات المتنوعة التي تسيح في أرض الله أو الطيور التي تسبح في فضاء الله سبحانه وتعالى فتجد كلاً عاكفاً على صلاته وتسبيحه، تجد كلاً منصرفاً إلى تسبيح الله وحمده وإلى العكوف على الوظيفة التي أقامه الله عز وجل عليها وصدق الله القائل ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]  وصدق الله القائل: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: 41].


ذلكم هو شأن الإنسان المكرم عند الله وهذا هو شأن الجمادات والنباتات والحيوانات التي سخرها الله خادماً لبني الإنسان، أليس في هذا يا عباد الله ما يخجل؟ أليس في هذا يا عباد الله ما يثير العجب الذي أحدثكم عنه؟! ولا يقولن فيكم قائل جمادات وتسبح بحمد الله! جمادات لا تعي وتعبد الله! نباتات، حيوانات عجماوات تقول إنها عاكفة على تسبيح الله! نعم صدق الله الذي أعلن عن ذلك وكذب من خالف، أيها الإخوة إنها حقيقة علمية قبل أن تكون حقيقة دينية تلك التي ألْفِتُ أنظاركم إليها، خلق الله الإنسان وأمره بشكره وذكره والتحقق بالعبودية له وجعل وسيلته إلى ذلك هذا العقل والفكر اللذين جهزه الله بهما فلا يتخيلن أحد أن كل المخلوقات الأخرى لابد لكي تعرف مولاها وخالقها ولكي تدين له بالعبودية من أن تتمتع بهذه الوسيلة ذاتها، وسيلة العقل وسيلةٌ شاءها الله للإنسان أما الجمادات الخاضعة لسلطان الله والعاكفة على تسبيح الله عز وجل فلها إلى ذلك أداة أخرى إلى جانب العقل الذي ميَّزَنَا الله به، النباتات، الحيوانات الماضية على تنفيذ وظائفها التي خُلِقَتْ لأدائها العاكفة على تسبيح الله سبحانه وتعالى لها إلى ذلك وسيلة أخرى غير وسيلة العقل والنطق اللذين متعنا الله سبحانه وتعالى بهما.


ألم تقرؤوا في الصحيح، في صحيح البخاري نبأ خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا اليوم؟ أقبلت إليه امرأة، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مستنداً إلى جذعٍ مثبت في جدار المسجد، أقبلت تستأذنه في أن تصنع له منبراً عن طريق غلام لها نجار فقال لها: إن شئت، وبعد أيام وُضِعَ لرسول الله منبر ذو ثلاث درجات، أقصي ذلك الجذع إلى مكان بعيد في المسجد، وذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب سمع كل من في المسجد أزيزاً ينبعث من جوف ذلك الجذع كأنه صوت الناقة العشراء أي الحامل التي أوشكت أن تضع مولودها، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر ومضى إلى ذلك الجذع فاستلمه وعانقه إلى أن هدأ ما به وكل من في المسجد كانوا شهوداً على ذلك، أتقولون إنه جذع جامد لا يعي ولا يفقه؟ من قال هذا؟ ربما كان الإنسان أقسى قلباً من كثير من النباتات والحيوانات، وصدق الله القائل  ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74].


أجل يا عباد الله إنه لشيء مخجل يطوف هذا الخجل شعوراً في كياني ينبغي أن يطوف خجلاً بكيان كل واحدٍ منكم، أقول لكم شيئاً آخر لا أنقله عن طريق شهادة أناس بل أنا الشاهد على ذلك، أمام غرفة نومي في المنـزل الذي أسكن فيه شجرة كبيرة، صباح كل يوم بعد الفجر تتجمع بين أغصان هذه الشجرة طيورٌ بأعداد كبيرة وكثيرة تؤدي وردها في ترنيمة جماعية عجيبة لا تفتأ إلى أن تشرق الشمس، فإذا أشرقت الشمس وانتشرت أشعتها في الآفاق تفرقت هذه الطيور ما بين يمين وشمال كل إلى شأنه، أنظر إلى هذه الوظيفة، إلى هذا الورد، إلى هذه العبادة التي تلتقي إليها هذه الحيوانات فوق هذه الشجرة التي أراها أمامي بعد بزوغ الفجر إلى طلوع الشمس وألتفت يميناً وشمالاً فأرى ابن آدم ما بين راقد يغط في رقاده وما بين إنسان ساهر الليل طويلاً على شهواته وأهوائه وأمام إنسان يتقلب في رغائبه ورعوناته.


يا هذا أنت الإنسان المكرم عند الله! أنت الإنسان المبجل على عين الله! أنت الإنسان الذي ميزك الله بخطابه تعرض عنه! وتتناسى فضله! لا عندما يتحبب إليك تستجيب لتحببه ولا عندما ينذر ويحذر تستجيب خائفاً لإنذاره، ما هذه القسوة، قارن بين وضعك وبين هذه الحيوانات التي تراها، عباد الله آية في كتاب الله ينبغي لكل منكم إذا قرأها أن يذوب خجلاً من الله سبحانه وتعالى وهي آية سجدة سنقرأها ونسبح الله سبحانه وتعالى على أعقابها ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ﴾ [الحج: 18]  ثم قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾  [الحج: 18].


رددوا هذه الآية، لا حظوا كيف أن الله عز وجل أعلن أن كل الكائنات تسجد لله عز وجل سجود عبادة، سجود تقديس، سجود تسبيح، كل؛ النجوم الجبال الشجر الدواب كلها، لما وصل إلى هذا المخلوق الإنسان قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: 18] لماذا؟ ألأن الله عز وجل ابتلاك بما ابتلاك به من شهوات وأهواء ولكنه قبل ذلك غرس بين جوانحك فطرة الإيمان به، فطرة الحنين إليه، فطرة الحب له ثم إنه خاطبك وبَيَّنَ لك السبيل الذي به تستطيع أن تتعالى فوق رعوناتك وتستطيع أن تتحرر عن شهواتك وأهوائك فأبيت إلا استجابة للشيطان الذي طرده الله عز وجل من رحمته في سبيلك!


اللهم إنا نسألك أن تجذبنا إليك بجاذب الحب وأن تأخذنا إليك من أنفسنا، نسألك اللهم أن تستلبنا من رعوناتنا وأن تستلبنا من أهوائنا وشهواتنا، وأن لا تجعل نعمك التي أغدقتها علينا حجاباً بيننا وبينك يا رب العالمين، أيها الإخوة زبدة هذا الكلام الذي أقوله لكم أن نرجع الآن بعد هذا اللقاء، بعد هذا المجلس في هذا اليوم الأغر المبارك وقد جددنا العهد مع الله على كل المستويات بالنسبة لكل الفئات، جددنا العهد مع الله أن نكون أكثر استجابة لنداء الله من الحيوانات في أدغالها ومن الطيور في أعشاشها وعلى أغصانها، أن نكون أكثر استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى من النباتات والجمادات لعل الله يصلح شأننا.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي