مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/06/2008

حقيقة العبودية وجوهرها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن أول واجب ينبغي للإنسان أن ينهض به هو التعرف على ذاته وهويته، ومن المعلوم أن هوية الإنسان تتمثل في كونه عبداً لمن قد خلقه وأنشأه في أحسن تقويم، فإذا عرف الإنسان هويته عبداً مملوكاً لله عز وجل فالمرحلة الثانية هي أن يتبين وظيفته في هذه الحياة الدنيا، وإنما الوظيفة التي أقام الله عز وجل الإنسان عليها تتلخص في أن يمارس عبوديته لله عز وجل بسلوكه الاختياري كما قد فُطِرَ عبداً له بواقعه الاضطراري، تلك هي وظيفة الإنسان وهي منبثقة عن هويته التي ينبغي أن يتبينها ويتعرف عليها، ولكن كيف ينهض الإنسان بممارسة عبوديته لله عز وجل بسلوكه الاختياري؟ الجواب عن هذا يا عباد الله أن هذه الممارسة تتلخص في أمرين اثنين لا ثالث لهما هما الصبر عند الابتلاء وشكر الله سبحانه وتعالى عند الرخاء، بهما يرقى الإنسان إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وبهما يحقق الإنسان هويته ويمارس عبوديته لله سبحانه وتعالى بسلوكه الاختياري.


ولنتأمل يا عباد الله كيف يركز بيان الله سبحانه وتعالى كثيراً على هذين الأمرين اللذين يؤول إليهما ممارسة عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، يقول عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]  ويقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 90] ويقول: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127] وهذا الكلام، الدعوة إلى الصبر، مكرور في كتاب الله عز وجل بمناسبات شتى.


أما الشكر فلنصغ إلى نماذج من ذلك في بيان الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة:151-152] ويقول في مكان آخر: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سـبأ: 13]  ويقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [ابراهيم: 7] هما إذاً صبر وشكر بهما يحقق الإنسان هويته وبالنهوض بهما يتحقق بالوظيفة التي أقامه الله عز وجل عليها وهي ممارسة العبودية لله عز وجل بعمله وسلوكه الاختياري كما قد خُلِقَ عبداً له بواقعه الاضطراري.


من هنا يا عباد الله شاء الله عز وجل أن تكون الحياة التي يتقلب الإنسان في غمارها مزيجاً من الشدة والرخاء، مزيجاً من المصائب والنعم، لماذا؟ لأن المناخ الذي يتجلى فيه صبر الإنسان ويتجلى فيه شكره لله سبحانه وتعالى لابد أن يكون فيه أسباب لهذا الصبر وأن تكون فيه أسباب للشكر أيضاً، فلو أن الحياة التي نعيشها اليوم كانت نعيماً لا توجد شوائب فيه إذاً لما كان هنالك معنى للصبر الذي هو أحد المظهرين لممارسة العبودية لله، ولو كانت هذه الحياة ابتلاءات وسلسلة من المصائب فقط لما كان هنالك مناخ لظهور الشكر أيضاً.


ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يعاني الإنسان في حياته الدنيا هذه مرة آلام المصائب والمحن وأن يتلقى آناً آخر والمنح والنعم من الله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى قوله عز وجل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35] ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ [الفرقان: 20]، ينبغي أن نتبين هذا يا عباد الله بين يدي النتيجة التي سنصل إليها، ولأمر ما شاء الله عز وجل أن يكون أجر الصابرين متميزاً عن أجر الشاكرين وشاء الله سبحانه وتعالى أن يعد الصابرين في هذه الحياة الدنيا أن ينالوا أجرهم بدون حساب، وأنتم تعلمون أن من نوقش الحساب عُذِّبَ يوم القيام  ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] لماذا؟ ما السبب في هذا التفاوت بين الصبر والشكر؟


السبب يا عباد الله أنه لا يتأتى الشكر لله عز وجل إلا على أساس من الصبر، بدون الصبر لا يتحقق الشكر، أما الصبر عند الابتلاءات فمن الممكن أن ينفرد الصبر عن الشكر، يوجد الصبر عن الابتلاء ويغيب الشكر، أما الصبر فلا بد أن يكون موجوداً في الحالين، ولعلكم تتصورون أن الشكر الذي ينبغي أن يصطبغ به الإنسان هو الكلمات التقليدية التي يرددها بعض الناس على أفواههم، نحمد الله، نشكر الله إلى آخر ما هنالك من هذه الكلمات التقليدية التي ينطق بها الناس في المناسبات، لا أيها الإخوة، الشكر ليس كذلك، ولو كان الشكر كلمات تتردد على الألسن لما قال الله عز وجل: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.


الشكر الذي أمرنا الله به والذي به يتحقق جانب من جانبي عبودية الإنسان لله عز وجل هو أن يوظف الإنسان النعم التي أغدقها الله عز وجل عليه للوظيفة التي خُلِقَ من أجلها، هذا هو الشكر، متعك الله بالعافية، الشكر على العافية أن تجند عافيتك وتوظفها للمهمة التي خُلِقْتَ من أجلها، أكرمك الله بالمال الوفير، أكرمك الله سبحانه وتعالى بالدار العامرة وبالنعم البازخة، شكر الله عز وجل على ذلك أن تجند المال وأن تجند سائر النعم الملحقة به للوظيفة التي خلقت من أجلها، ولا يتأتى لك أن تنهض بالشكر بهذا المعنى إلا على أساسٍ من الصبر، الإنسان الذي أكرمه الله عز وجل بنعمة المال الوفير يجد أبواباً كثيرة قد تفتحت أمامه إلى المتع وإلى قطف الشهوات والأهواء المختلفة، بوسعه أن يسلك هذه الأبواب كلها إلى متعه المتنوعة ولكن خطاب الله عز وجل يقول له لا ينبغي لك أن تدخل إلى متعك من هذه الأبواب كلها، لك إلى ذلك باب واحد هو هذا الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.


إذاً فشكري لله عز وجل على نعمة المال يقتضيني أن أصوم عن المتع المحرمة والتي أستطيع أن أصل إليها بالمال، شكري لله عز وجل على نعمة المال يقتضيني أن أبتعد عن ألوان من الرفاهية وألوان من المبتغيات والشهوات كلها يمنعني الله سبحانه وتعالى من الوصول إليها ويفتح إلى متعتي باباً واحداً هو الباب الذي شرعه الله عز وجل لي، كذلكم نعمة العافية، كذلكم سائر النعم، نعمة المناصب والرتب لا يمكن للإنسان أن يشكر الله سبحانه وتعالى عليها إلا على أساسٍ أو إلى دهليز من الصبر الذي ينبغي أن يمارسه، ومن هنا كان لابد للإنسان من الصبر بين يدي الشكر وكان لابد للإنسان من الصبر أمام الابتلاءات المختلفة التي قد يبتلينا الله سبحانه وتعالى بها، الشيء الأخير الذي ينبغي أن أصل إليه وهو المحور في حديثي إليكم هو أن الإنسان يعود إلى نفسه وقد كُلِّفَ بالصبر فيجد نفسه ضعيفة، أنى له أن يصبر وهو المخلوق الذي وصفه الله عز وجل بقوله: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 28]، ويأتي بيان الله متناغماً مع هذا الشعور الذي يشعر به الإنسان إذ يقول له: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: 127]. 


أترون أن بين هاتين الجملتين تناقضاً؟ معاذ الله، يقول الله لي ﴿وَاصْبِرْ﴾، ثم إن الله عز وجل يؤيد شعوري الذي أتجه به إلى مولاي وخالقي، أنا ضعيف لا يتأتى مني الصبر فيقول لي: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ أجل ولكن هل التجأت إلى من بيده صبرك؟ هل طرقت باب من بيده تحويلك من مستوى الضعف والعجز إلى مستوى القوة والقدرة؟ هل طرقت باب الله سبحانه وتعالى واستنجدت به فلم ينجدك؟ هذا معنى  قوله عز وجل: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، هنا يا عباد الله يصل الإنسان إلى روح العبودية بل إلى جوهر العبودية لله سبحانه وتعالى، جوهر العبودية أن يشعر الإنسان أنه لا شيء، جوهر العبودية أن يشعر الإنسان أنه ضعيف لا يتأتى منه شيء إن هو اعتمد على ذاته ومن ثم فإن ضعفه لابد أن يسوقه إلى باب مولاه وخالقه، لابد أن يسوقه للالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، يقول له يا رب أمرتني وأنا عاجز ونهيتني وأنا عاجز وأمرتني بالسير إلى مرضاتك وأنا لا أستطيع أن أخطو خطوة إلى هذه الغاية فهلا أنجدتني، هلا أبدلت ضعفي قوة يا رب العالمين، عند هذا الالتجاء تأتيه النجدة من الله سبحانه وتعالى.


عباد الله الإنسان عندما يعود إلى ذاته هو اللاشيء بكل معنى الكلمة، فإذا التجأ إلى الله وإذا جعل من التجائه إلى الله ورداً يتكرر تحول من اللاشيء وأصبح كل شيء بمعونة الله عز جل، أصبح كل شيء بمنحة من الله سبحانه وتعالى تستمر، أصبح كل شيء بالقدرة التي يمتعك الله سبحانه وتعالى بها، هذا هو جوهر العبودية التي ينبغي أن يصطبغ به كلٌ منا وانظروا يا عباد الله كيف يكرر الإنسان هذا المعنى الذي هو روح العبودية وجوهرها كل يوم خمس مرات إذ يقف بين يدي الله عز وجل يخاطبه قائلاً: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾  عزمٌ وعهد من العبد لله، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾  إعلان عن العجز، إعلان عن الضعف وإعلان للحاجة التي تقود الإنسان إلى رحاب الله عز وجل، أنا أستعين بك يا رب، ها أنذا عاهدتك على أن أسير على النهج الذي أمرت وأن أطبق كل ما شرعت وأن أنتهي عن كل ما قد حذرت ولكن أنَّى لي ذلك إن لم تُعِنِّي ومن ثم فأنا أستعين بك يا رب العالمين.


الثمرة التي أريد أن أنتهي إليها يا عباد الله من هذه الرحلة المتسلسلة إلى هذه الغاية هي أننا قد ننظر فنجد أن عقبات كثيرة تقف بيننا وبين بلوغ مرضاة الله عز وجل، عقبات متنوعة يضيق المقام عن ذكرها، قد نتبين ونحن نلتفت يميناً ويساراً أن هنالك مصائب تطوف من حولنا، أن هنالك ابتلاءات مادية اقتصادية أخلاقية متنوعة، هنالك ضغوطات تمارس علينا ولعلنا نسمع الشكوى منها صباح مساء، هذا هو شأن الإنسان عندما يعود إلى ذاته محجوباً عن مولاه وخالقه، ما السبيل إلى تذويب هذه العقبات؟ ما السبيل إلى الترفع على هذه المصائب المتنوعة المختلفة؟ ما الطريق الذي يجعلنا نترفع فوق هذه التحديات؟ ألا فلتعلموا أنه سبيل واحد هو الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، قولوها للمسلمين جميعاً، قولوها لكل من وقف أمام مرآة هويته وعرف نفسه عبداً مملوكاً لله سبحانه وتعالى على اختلاف مستوياتهم، قولوا التجئوا إلى الله بانكسار وبذل واجعلوا من التجائكم ورداً دائماً تعبرون به عن عبوديتكم بل تغذون بذلك عبوديتكم لله سبحانه وتعالى وانظروا كيف تزول العقبات وكيف تضمحل المصائب وكيف تزول التحديات كلها، ربنا سبحانه وتعالى موجود وهو الذي يقول لك استنجد به أنجدك، التجئ إلي أحقق لك ما تبغي.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي