مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/06/2008

فطرة الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يروي عن ربه سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ﴾ أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل عن ربه خبراً لا يلحقه خُلْفٌ، ما من إنسان وُلِدَ فوق هذه الأرض إلا وقد غُرِسَ في كيانه الإيمان بالله عز وجل، إلا وقد غُرِسَتْ في طوايا عقله حقائق العبودية لله سبحانه وتعالى، ولكن جاءت شياطين الإنس والجن، جاءت الأهواء المختلفة، جاءت التربيات الجانحة، جاءت العصبيات التي تهيمن على قرار العقل والقلب فاجتالتهم أي أبعدتهم عن هذه العقيدة التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، على أنها تظل باقية بين جوانحهم، قد ترقد ولكنها لا تموت، قد ترقد ولكنها لا تُجْتَث من كياناتهم. تعالوا يا عباد الله أضعكم أمام تجسيد لهذا الذي يخبر به بيان الله عز وجل.


إنها قصة يرويها مفكر إسلامي ذائع الصيت عاش في أوائل القرن الماضي، يقول: أبحرت من مرسيليا إلى الإسكندرية وفي الطريق كانت السفينة تسير على هينتها وتسير مستقيمة والناس الذين فيها أخلاط من مذاهب شتى، من أديان وفلسفات واتجاهات وأعراق مختلفة كل الاختلاف، وفيما نحن كذلك إذ أقبلت سحبٌ داكنة سرعان ما تلبدت فوق سماء السفينة وإذا بريح عاصف تطوف من حولنا، وإذا بالأمواج العاتية تعلو عن يمين السفينة ويسارها، وإذا بالسفينة تحولت إلى ما يشبه أرجوحة بين يدي هذه الأمواج العاتية التي كانت من حولنا، وأيقنا أننا قد أصبحنا بين شقي الموت والهلاك.


ونظرت وإذا بالناس الذين كانت تزدحم بهم هذه السفينة – أولئك الذين كانوا أخلاطاً من مذاهب وأديان وفلسفات وأعراق شتى – إذا بهم جميعاً يحدقون بي – وكان لهذا الرجل مظهره الذي يدل على أنه له ارتباطاً بالدين – أحدق الكل بي وأصروا على أن علينا أن نتجه إلى الله جميعاً بدعاء ضارع أن ينقذنا من الهلاك الذي قد أحاط بنا. نظرت وإذا بالفوارق الكثيرة التي كانت بين هؤلاء جميعاً قد ذابت وامَّحَتْ، وإذا بالكل يهتف بنداء واحد يسأل الله، يقول: يا الله، كلٌّ بلغته. دَعَوْنَا والتجأنا، وكان الناس الذين من حولي ما بين باكٍ وما بين مُؤَمِّن وما بين إنسان يصرخ ويستغفر كلٌّ بلغته، ما هي إلا ساعة حتى رأينا أن الغمة قد انقشعت وأن السفينة عادت شيئاً فشيئاً إلى سَنَنِهَا الطبيعي واطمأن الكل إلى أن الخطر قد زال، ونظرت وإذا بالقوم رجع كلٌّ إلى شأنه، وإذا بالفوارق التي امَّحَتْ عندما أطلت علينا عوامل الهلاك إذا بهذه الفوارق عادت لتهيمن عليهم كما كانت، وصدق الله القائل: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً، أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً، أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ [الإسراء : 67-69].


تلك هي صورة الواقع الذي ترويه شخصية إسلامية يعلمها كلٌّ منكم، وهذا هو مصداق ذلك يرسمه البيان الإلهي في هذه الجمل البليغة العجيبة يا عباد الله.


والآن، ما الذي يجعل الإنسان يُحْجَبُ عن عقيدته التي متعه الله بها، ما الذي يجعل الإنسان يُحْجَبُ عن هذا الكنز الذي أودعه الله عز وجل في كيانه منذ فجر نشأته؟ لماذا يُحْجَب؟ رأيتم كيف يُحْجَبُ الإنسان عند الأمن والطمأنينة ثم كيف يعود إلى هذا الكنز الذي في كيانه عندما تطوف به المحن أو تطل عليه الأخطار، لماذا؟


أيها الإخوة: أرجو أن يكون الجواب عن هذا السؤال درساً نتلقاه لنعتبر به، لكي نحافظ على هذا الكنز الذي أكرمنا الله به منذ فجر نشأتنا.


الذي يجعل الإنسان يُحْجَبُ عن هذه العقيدة بل هذا الكنز الذي غرسه الله عز وجل في كينونته إنما هي الأهواء، الشهوات التي تثور ثم تثور ثم تهيمن على العقل وعلى الكيان، العصبية التي تقود الإنسان إلى إشباعها على حساب العقل وعلى حساب المنطق، العرق، الانتماء، المصالح العابرة الشخصية التي تجعلنا نؤثرها على قرار العقل وحكمه، هذه هي التي تجعل الإنسان يُحْجَبُ عن قلبه الذي هو مركز هذا الكنز الرباني وصدق الله القائل: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ﴾


هذا كلام الله سبحانه وتعالى، هذا كلام ربنا سبحانه وتعالى عندما يحذرنا من أن نلتفت إلى العصبيات والأهواء وغير ذلك يحذرنا قائلاً: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24].


لكن لماذا يَحُولُ؟ ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ لأنه يعرض عن هذا الكنز وسبل حمايته ويستسلم كما قلت لكم لأهوائه، لرغباته، لشهواته، للعصبية التي تقوده، إلى آخر ما هنالك مما تعلمون.


والمطلوب من الإنسان – وقد علم أنه يسير في رحلة إلى الله، إن لم يكن قد حانت هذه الرحلة اليوم فلسوف تحين غداً، وإن لم يكن ذلك في الغد القريب فبعد أشهر أو بعد أعوام – دعونا يا عباد الله إذا رحلنا إلى الله عز وجل نرحل وهذا الكنز عامر بين جوانحنا، موجود، لم يتحول من الرقاد إلى الموت، كيف يكون ذلك؟ بأن نتحرر من العصبيات، بأن نتحرر من ردود الفعل، بأن نتحرر من الأهواء والرغائب والشهوات والمصالح العابرة الآنية. وهذا هو داؤنا الذي نعاني اليوم يا عباد الله.


ألا ترون كيف أننا نرى الحق ناصعاً بيِّنَاً يعلن عنه بيان الله عز وجل وننظر فنجد إخوةً لنا يعيشون بين ظهرانينا يعرضون عن بيان الله، يعرضون عن وصايا الله، يعرضون عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أريد أن أفصل، لا أريد أن أذكركم بوصايا رسول الله في مثل هذا المنعطف الخطير الذي نمر فيه وكيف أن إخوة لنا مؤمنين، مسلمين يعرضون باشمئزاز – أجل باشمئزاز – عن وصايا رسول الله.


ما أكثر الآيات التي تنبهنا إلى أن لا نخطئ وألا تزل بنا القدم في هذا المنعطف الخطير، تلوناها وذكرناها وذكَّرْنَا بها ولكننا وجدنا إخوة لنا يعيشون بين ظهرانينا مسلمين يعرضون عن هذا الذي يخاطبنا به الله. بل الأمر وصل إلى القمة التي لا يمكن للعقل أن يتصورها. جهادٌ في سبيل الله يعلن تحت عَلَمٍ أمريكي، جهاد في سبيل الله عز وجل يقوده السفير الأمريكي، جهادٌ في سبيل الله سبحانه وتعالى يخطط له السفير الأمريكي ثم يصر إلى أن يكون هو المشرف على التنفيذ ونسميه جهاداً، يقول لنا ربنا: ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ [الممتحنة : 13]. ونقول بلسان الحال: بل سنتولاهم، نحن أعلم. يقول لنا الله عز وجل: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1].


ويقول قائلهم: لا بل نحن أعلم، سنتخذهم أولياء ولسوف يقودوننا. حسناً، يقودونكم إلى ماذا؟ إلى معركة؟ لا، يقودوننا إلى الجهاد في سبيل الله. فيا عجباً، جهاد في سبيل الله يقوده السفير الأمريكي!


هذا هو البلاء وذلك هو الدواء.


كلنا أيها الإخوة يتمتع بالكنز الذي أعلنه رسول الله في الحديث القدسي: ﴿إني خلقت عبادي حنفاء كلهم﴾. فكيف السبيل إلى المحافظة على هذا الكنز الذي كم نحن بحاجة إليه عند رحيلنا إلى الله. إذا رحلنا إلى الله وهذا الكنز حيٌّ بين جوانحنا فلسوف يغفر الله لنا زلاتنا ولن يحاسبنا على أخطائنا، نعم، لكن المهم أن نرحل إلى الله وهذا الكنز حيٌّ نابض لم يمت. سبيل ذلك أن نتحرر من عصبياتنا، أن نتحرر من عوامل الثأر الجاهلي الذي أنقذنا الإسلام منه، سبيل ذلك أن نتحرر من مصالحنا الجزئية الآنية وأن نلحق وراء المصلحة الكلية التي يدعونا بيان الله سبحانه وتعالى إليها، دواؤنا أن نتحرر من الأهواء والشهوات الجانحة،


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.. 

تحميل



تشغيل

صوتي