مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 06/06/2008

تعظيم خطاب الله عز وجل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مواطن من عامة الناس طرق باب داره طارق فخرج لينظر وإذا به رسول رئيس الدولة جاءه برسالة منه، كيف يتلقى هذا المواطن هذه الرسالة يا عباد الله؟ إنه يفضها بيد مضطربة ويحملق فيها تحدوه إلى قراءتها أطياف من المشاعر مختلفة، شعور تعظيم ومهابة، شعور أمل وفرحة، شعور خوف، هكذا يتلقى هذا المواطن من عامة الناس رسالة من عبد مثله ولكنه يتبوأ مكان رئيس الدولة، ولقد تلقى الإنسان مثل هذه الرسالة ولكن من خالق الكون كله، تلقاها ممن بيده الأمر والخلق، أنفذ إليه هذه الرسالة يخاطبه فيها، وما أعلم أن مكرمة أكرم الله عز وجل بها الإنسان أجل وأعظم من تلك المكرمة التي أهَّلَه الله عز وجل من خلالها لخطابه، أهَّلَه الله عز وجل من خلالها لهذه الرسالة التي خاطبه فيها قائلاً: ﴿يَا عِبَادِيَ﴾  [العنكبوت: 56]، كيف تلقى الإنسان هذه الرسالة؟ وأنا أتحدث عن المسلمين في هذا العصر، لا أتحدث عن العهود الغابرة ولا عن السلف الصالح، خاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان لافتاً نظره إلى رسالته الهابطة إليه من عند الله عز وجل يقول: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [صّ: 29]، يقول: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ [الكهف: 27]، يقول مقرعاً: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، هذه التذكرة بألوانها المتنوعة تصك أسماعنا وتسري إلى قلوبنا فأين هي الاستجابة التي رأيناها في شخص ذلك المواطن إذ يتلقى رسالة من رئيس الدولة.


جل المسلمين يا عباد الله عن خطاب الله عز وجل معرضون، جل المسلمين عن هذه الرسالة الربانية الهابطة إليهم من عند الله تائهون، يلاحقهم بيان الله عز وجل، يعرفهم على ذاته العلية، يتحبب إليهم بآلائه ونعمه وهم عن هذا كله معرضون وبدنياهم وأهوائهم منشغلون، يحدثهم الله عز وجل عن المهمة التي خلقوا من أجلها وعن المآل الذي هم صائرون إليه وهم عن هذا النداء وهذا التنبيه معرضون غافلون.


ويأتي بيان الله سبحانه وتعالى يجسد حالة المسلمين هذه ويبينها وكأنها آيات نزلت في هذا العصر يا عباد الله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ [الفرقان: 30]، هذا قول صيغ بصيغة الماضي لكنه سيقوله لربه يوم القيامة عنا، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [صّ:67-68]، ويزيد البيان الإلهي حديثه إلينا ونحن تائهون عاكفون على إعراضنا وغفلتنا ينبهنا إلى القسوة التي منيت بها أفئدتنا، يقول: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21] أي لو أنا وجهنا خطابنا هذا لا إلى بني الإنسان الذي أوتي قلباً نابضاً بالمشاعر الإنسانية بل إلى جبل جامد لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ولكن ها هو ذا الإنسان في هذا العصر يبرهن على أن له قلباً أقسى من الحجارة وصدق الله القائل: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 74].


هذا بيان الله سبحانه وتعالى يصك أسماعنا فهل من مستيقظٍ عن هذه الغفلة يا عباد الله؟ هل من عائد إلى كتاب الله يتأمله وقد سما بنا ربنا إلى مستوى خطابه؟ عباد الله مصيبة المسلمين اليوم أنهم، بل جلهم ولا أقول كلهم، لا يتعرفون على كتاب الله، دعوكم من شباب نذروا أنفسهم لدراسة دين الله وحفظ كتاب الله، ضعوا هؤلاء جانباً، دعوكم من أناس يستأنسون ويستبشرون بقراءة آيات من كتاب الله ما بين كل حين وآخر لكن تعالوا ننظر إلى السواد الأعظم من المسلمين في هذا العصر، تعالوا ننظر إلى السواد الأعظم على اختلاف فئاتهم وعلى اختلاف رتبهم هل فيهم من يتعرف على كتاب الله ويفرق بينه وبين كلام من سنة رسول الله؟ هل فيهم من يجلس في صباح أو مساء ليقف على شيء من كتاب الله يتأمله ويتدبره وإنها لرسالة هبطت إلينا من علياء الربوبية، من مولانا وخالقنا سبحانه وتعالى؟ كلكم يعلم الجواب.


وليت أن المسلمين إذ أعرضوا في هذا العصر هذا الإعراض المخجل عن كتاب مولاهم وخالقهم ليت أنهم إذا أعرضوا هذا الإعراض وقفوا عند حدود الإعراض ولكنكم تعلمون أن الكثيرين منهم أضافوا إلى هذا الإعراض الاستهانة بكتاب الله عز وجل، الاستخفاف برسالة الله الهابطة إلينا، إنهم اتخذوا كتاب الله بوقاً للإعلان عن مصيبة الموت التي وقعت في بيت من البيوت، إنهم يتخذونه اليوم ترنيمات أثناء سير الجنازة إلى مقرها الأخير، إن فيهم من أصبح يجعل من كتاب الله سبحانه وتعالى ينبوع رزق بوسائل شتى لا داعي إلى الحديث عنها، حتى إنكم لتعلمون أن في الناس من أصبح يستوحش من كتاب الله عز وجل إذا سمع آياتٍ تتلى في المنـزل ولربما قال قائلهم ما هذا أهنالك مصيبة قد حلَّت بالدار؟!


كم وكم سمعنا مثل هذا، وربنا سبحانه وتعالى هو المطلع، صاحب هذا الخطاب الذي سما ثم سما بنا إلى رتبة لسنا أهلاً لها لولا فضل الله عز وجل وعظيم إحسانه، يرى هذا الذي فعلناه من الاستهانة، من الاستخفاف بكتاب الله سبحانه وتعالى، ألا ليت أن الغيارى على كتاب الله من القائمين على أمور هذه الأمة يمنعون هؤلاء الناس من هذه الاستهانة التي بلغت إلى أدنى درجات الاستخفاف بكتاب الله عز وجل، ألا ليت أنهم يصدرون صكوكاً بالمنع تحت طائلة العقوبة لكل من يريد أن يجعل من القرآن بوقاً للإعلان عن موت وقع في دار، لكل من يريد أن يجعل من القرآن ترنيمات تتلى أثناء سير الجنازة إلى مقرها الأخير، هذا أضعف الإيمان يا عباد الله، وهذ الذي يتم اليوم، يتم اليوم بالنسبة لماذا؟ بالنسبة لكتاب صدق الله عز وجل في وصفه إذ قال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21].


كم وكم في كتاب الله عز وجل من مشاهد لو تأملناها يا عباد الله لذابت منا الحشاشة خجلاً من الله عز وجل، كم في القرآن من مشاهد لو تلوناها ووقفنا عندها بتدبر لفاضت أفئدتنا حباً وعشقاً لهذا الإله، كم وكم في القرآن من مشاهد لو تأملناها لفاضت أفئدتنا مهابةً وتعظيماً لهذا الإله، تعالوا فتأملوا في هذا المشهد الذي يخجل الإنسان إن كانت فيه ذرة من بقايا الإنسانية: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: 50] هل تأملتم في هذا العتاب الرقيق، كرمتكم وأمرت ملائكتي بالسجود لكم في شخص أبيكم آدم وكان فيهم إبليس، استكبر إبليس وأبى، طردته من ساحة رحمتي من أجلكم واليوم تعرضون عني وتتخذون من هذا الذي استكبر عليكم وآلى على نفسه أن يعاديكم إلى قيام الساعة، تتخذونه ولياً لكم من دوني وتعرضون عني!


كم وكم قرأت هذا البيان الإلهي وتأملته ورددته، كل إنسان إذا تلا هذا الكلام لابد أن تذوب منه الحشاشة خجلاً من الله ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾  [الكهف: 50]  أقول لا يا رب ما اتخذنا الشيطان ولياً من دونك، حاشى، لكنه الضعف ربما ساقنا إلى ما لا ينبغي أن نساق إليه، هكذا ينبغي أن نقف أمام كتاب الله، أعرضنا، لم نعد نتبين فيه شيئاً من هذه المشاهد، جعلناه أداة ومناديل للتعبير بها عن أحزاننا.


انظروا إلى هذا المشهد الثاني، كلمات، آية مختصرة: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 61]، يا عبادي هل جزاء الإحسان الهابط إليكم من عندي نعماً وآلاءً وحماية إلا أن تقابلوا إحساني الهابط إليكم بإحسان منكم يصعد إلي، هذا هو المعنى الأول، المعنى الثاني يا عبادي هل جزاء الإحسان الذي يتعالى منكم إلي التزاماً بأمري وانقياداً لوصاياي ونصائحي، هل جزاء الإحسان الصاعد إلي منكم إلا أن أكرمكم بمثل هذا الإحسان، الآية محبوكة من طرفيها، هل جزاء الإحسان الهابط من العبد إلا الإحسان الصاعد من العبد إلى الله وهل جزاء الإحسان الصاعد من العبد إلى الله إلا أن يكرم الله بالمقابل إحساناً يهبط من الله عز وجل إلى الإنسان، ألا نخجل، ألا نستحي من أن نجعل هذا الكلام الرباني أداة نعلن به عن مصائبنا، ترانيم في سير الجنائز إلى المقابر، ترى ما الموقف الذي سنقفه غداً يوم القيامة إذا أخذنا بالنواصي وحاسبنا على هذا يا عباد الله؟


انظروا وتأملوا في قول الله سبحانه وتعالى وهو الذي يتحبب إلينا: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] يعطيني ربي المال ويملأ بيتي بالنعم والعطاء ثم يقول لي ألا تقرضني شيئاً من مالك، أعدك أنني سأوفيك مقابل ما تقرضني أضعاف أضعاف ذلك، يا رب أنت الذي أعطيتني المال ثم أنت الذي تطلب مني أن أقرضك هذا المال، انظروا إلى هذا التحبب من مولانا وخالقنا سبحانه وتعالى إلينا، هذا الكلام كله مشهد وراء مشهد وراء مشهد، مئات المشاهد في كتاب الله عز وجل مطوية عن بصائرنا، مطوية عن آذاننا، أصبحنا نستخدم كتاب الله عز وجل أداة لاستثمار المال، أصبحنا نستخدم كتاب الله عز وجل لما تعلمون حتى أصبح كثير من الناس يتشائمون من الإصغاء إلى كلام الله عز جل في البيوت،


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي