مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/05/2008

عوامل النهضة والانحدار

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن في كتاب الله سبحانه وتعالى سنناً وقوانين يبين لنا الله عز وجل من خلالها عوامل نهضة الأمم والأشخاص والحضارات في مدارج الرقي والتقدم، ويبين من خلال هذه السنن عوامل انحدار الأمم والأشخاص والحضارات إلى مهاوي التخلف والهلاك، يرد البيان الإلهي من خلال هذه السنن على من يتصور اليوم أن للحضارات والدول أعماراً كأعمار الأشخاص فهي تبدأ من ضعف كضعف الطفل ثم تتحول إلى قوة فقوة متزايدة ثم تتراجع ثم تذبل ثم تنطفئ جذوة تلك الحضارة والحياة، أي أنها عوامل طبيعية لا علاقة لها بسلوك الأشخاص بأخطائهم أو انحرافاتهم، ولكن البيان الإلهي يرد على هذا التصور من خلال هذه السنن التي نتبينها في كتاب الله.


ولقد جسد البيان الإلهي هذه السنن من خلال قصة شخصٍ بين لنا تنقله وإقباله إلى الحياة متمتعاً بمقومات البقاء ثم بين لنا تراجعه إلى الذبول فالضعف فالهلاك من خلال هذا القانون الذي يحدثنا البيان الإلهي عنه، إن هذا الشخص هو قارون، وكم يمر في المجتمعات الإنسانية ورثة لقارون هذا وإنهم لجميعاً ينطبق عليهم قانون الله سبحانه وتعالى وسنته.


فتأملوا في هذا الذي يقوله لنا الله سبحانه وتعالى: )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ[ [القصص: 76]، هذه هي المرحلة الأولى من حياة قارون هذا الذي يجسد لنا البيان الإلهي في شخصه مظهراً لقانونه هذا؛ )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ[ [القصص: 76] والبغي يا عباد الله أشد أنواع الظلم، البغي هو اجتماع الاستكبار مع العتو والظلم، وهكذا كان قارون.


ولكأن فيكم من يسأل: فإذا كان قارون قد وصل به الظلم والعتو إلى هذه الدرجة فلماذا أكرمه الله عز وجل بالكنوز وقال: )وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ[ [القصص: 76]؟ لماذا متعه الله بهذا الزخم الكبير من الغنى، ذلك الغنى الذي بلغ إلى درجة أن مفاتيح كنوزه لا تكاد العصبة تستطيع أن تحمله؟ ما الجواب عن هذا يا عباد الله؟ الجواب هو ما يقوله المنطق أن الإنسان إذا وقع لا يمكن أن يقع من على الحصير وإنما يقع من على العرش أو السرير، إذا كان الإنسان على أرض مستوية فلا معنى لوقوعه منها وإنما يرتفع ثم يرتفع ثم إنه يهوي من حالق، هذا المنطق هو الجواب، اقتصت سنة الله سبحانه وتعالى أن يرفع الطغاة الباغين الذي جمعوا إلى الظلم العتو والاستكبار، اقتضت سنة الله عز وجل أن يمد لهم في الرخاء وأن يرفعهم إلى شأوٍ فوق شأوٍ فوق شأو لكي يأتي الهوي بعد ذلك له معناه المهلك يا عباد الله، تلك سنة أخرى في كتاب الله عز وجل، ألم تقرؤوا قوله: )ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[ [الحجر: 3]، وقد كرر البيان الإلهي هذه السنة، وهكذا سما الله عز وجل بحياة هذا الطاغية صُعُدَا بين يدي الإهلاك الذي ينتظره والذي حاق به.


ولكن أيضاً اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى إذا استدرج الظالم الباغي أن يرسل إليه من ينصحه، أن يرسل إليه من يعظه، من يحذره وينذره، وهكذا أنبأنا بيان الله عز وجل، أرسل إليه من يقول له: )لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ[ [القصص: 76]، لا تفرح الفرح الذي يبعث على الطغيان، )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[ [القصص: 77]، نصائح جامعة بعثها الله سبحانه وتعالى إليه من خلال رسل ومن خلال صالحين ناصحين، )تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ[، والفساد هي الكلمة الجامعة التي تحوي كل أنواع الشرور، )تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ[، الظلم لون من أشد ألوان الفساد، تجريد الناس من حقوقهم وممتلكاتهم وأوطانهم من أشد أنواع الفساد، العبث بالحرث والنسل وإفساد البيئة من أشد أنواع الفساد، )وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[.


انظروا إلى المرحلة الأخرى من حياة قارون، إنها سنة ماضية في عباد الله عز وجل تبينت لنا في التاريخ القصي المدبر وفي واقعنا الحالي وفي مستقبل الأيام الآتية، قال: )قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي[ [القصص: 78]، هي الكلمة التي يقولها العتاة والطغاة دائماً، إنها القدرة، إنها المُكْنَةُ العلمية، إنها التكنولوجيا، إنها مفاتيح أوتيتها بقوةٍ مني، بعرق جبيني، ليس في الكون من قد تفضل عليَّ بشيءٍ مما قد أوتيته؛ )قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي[، ويأتي الجواب )أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون[ [القصص: 78]، هذه السنة أيها الإخوة نقرؤها في كتاب الله ونجد مصداقها في حياتنا اليوم في عالمنا القريب والقصي.


ثم إن الباري سبحانه وتعالى يضعنا أمام هذه الصورة الأخرى، صورة افتتان الناس بمظهر هذا الغنى، هذا الإقبال الحضاري الخلبي الكاذب؛ )فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي[ [القصص: 79] يستعرض قوته )زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[ [القصص: 80]؛ أوتوا العلم، لم يقل: أوتوا الإيمان، )وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ[ [ القصص: 80]، لماذ قال )وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[ ألم يكن أولى أن يقول وقال الذين أوتوا الإيمان؟


وضَعَنَا بيان الله عز وجل أمام المعين، ما هو معين الإيمان يا عباد الله؟ إنه العلم، ما من إنسان أسلم عقله لموازين العلم بصدق إلا وهداه العلم إلى الإيمان بالله عز وجل، ما من إنسان تشرَّبَ عقله حقائق العلم واستعمل مصباحه في الطريق الذي يسير فيه إلا وهداه العلم إلى هويته عبداً مملوكاً ذليلاً لله سبحانه وتعالى، وما من إنسان تنكَّبَ عن طريق العلم إلا وتاه في منعرجات الحياة ثم زجته هذه المنعرجات في الشقاء الوبيل، )وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ[ [القصص: 80].


ما هي المرحلة الأخيرة في قصة هذا الإنسان بل في هذه السنة الربانية التي يجسدها لنا الله عز وجل من خلال هذا الإنسان؟ )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَمِنَ الْمُنْتَصِرِينَ[، )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ[ تأملوا في مظهر جلال الربوبية في هذا الكلام؛ عبد مثلي ومثلكم يقول فخسفنا به وبداره الأرض؟! إنسان من الناس وليكن نبياً أو رسولاً يتأتى له أن يقول له هذا الكلام؟! إنما يقول هذا الكلام من كانت ناصية الدنيا بيده، إنما يقول هذا الكلام من يتحرك الناس في قبضته ويتقلبون في مملكته، إنه الله سبحانه وتعالى، الذي يقول هذا الكلام هو ذاك الذي يقول: )أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ[، )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ[، ما الذي قضى به إلى هذه النهاية؟ إنه العتو والطغيان وليست الطبيعة التي جعلت عمر الأشخاص والحضارات أشبه بعمر المولود الذي يولد، لا، إنه العتو والطغيان، ولو لم يسلم نفسه إلى هذا العتو لجمع الله له بين سعادتي الدنيا والآخرة، )وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[.


هذه هي سنة رب العالمين جسدها لنا الله عز وجل في هذه القصة، وكم مرَّ بمعبر التاريخ أناس من أمثال قارون فحاق بهم ما حاق بقارون، وكم في الناس اليوم من ورث من قارون كبرياءه وطغيانه فحاق بهم أو سيحيق بهم هذا الذي حاق بقارون، ثم تأملوا في عصارة هذه القصة بل في عصارة هذه السنة؛ )تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[، أتريد أن تمسك بمفتاح حضارة تظل في مستوى شبابها وألقها خلافاً لما يقوله شبنجلر وأمثاله؟ كن متمسكاً بهذه النصيحة التي يقولها بيان الله )تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا[.ما من أمة اصطبغت بهذا النصح، ما من أمة اصطبغ أفرادها قادة وشعوباً بذل العبودية لله سبحانه وتعالى إلا ومد الله لهم من عمر الحضارات قرناً إثر قرن إثر قرن، نعم، هذه حقيقة يضعها الله سبحانه وتعالى أمام أبصارنا )تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا[.


ما الذي يريده ربنا منا؟ يريد ألا نفسد، يريد ألا يطغى بعضنا على بعض، يريد ربنا سبحانه وتعالى إذا أردنا أن نأخذ حظنا من الحياة ألا نجعل حظنا من الحياة هيمنة على عباد الله الآخرين، يريد الله عز وجل منا أن نأخذ حظنا من الحياة ولكن على أن نسير في مناكب الأرض وما أوسعها لا نظلم، لا نسلب حقوقاً لأصحابها، لا نأخذ ممتلكات لأصحابها، لا نكون كالناس الذين حدَّث عنهم رسول الله قائلاً: )لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانيا ولو كان له ثانٍ لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب[، حذار يا عباد الله أن نجعل تراب الموت هو الذي يوقظنا من رقاد، هو الذي يوقظنا من ظلم الآخرين، حذار فإن تلك الساعة التي توقظنا فيها رائحة الموت ممزوجة بتراب القبر، تلك الندامة لا تغني آنذاك يا عباد الله.


بقي أن أقول هل هذا الذي جسده لنا بيان الله في قصة قارون كان بدعاً من التاريخ والزمن؟ تأملوا يا عباد الله تجدونها سنة نافذة، تصوروا وأغمضوا أعينكم وتذكروا تجدون أمثالاً وأمثالاً لقارون، ألا تذكرون ذلك الطاغية الذي لا يزال اليوم يعيش ولكن في يمٍّ من النسيان، لا يعلم اليوم ذاته ولا يعلم من هو بل هو نسيان أشبه بالجنون منه بالرقاد، إنه ذاك الذي قاد الولايات المتحدة ردحاً من الزمن، ألا تذكرون طاغية إسرائيل الذي يعيش اليوم سجيناً معلقاً بين حالتي الموت والحياة، لا هو ينال حظاً من الحياة يتنفس بها الصعداء ولا هو يستريح مع الموتى الذين أراحهم الموت، ألا تتذكرون أولئك الطغاة الذين أعلنوا عن ظعيانهم في عُرْضِ البحر قبل سنوات كيف قضى الله سبحانه وتعالى بأن تتفتح قيعان البحر أفواهاً فاغرة لتبتلعهم وتبتلع قواعدهم العسكرية؟!


اذكروا ذلك أيها الإخوة لتعلموا أن سنن الله ماضيةٌ في عباده، والعبرة التي ينبغي أن نقطفها من هذا الكلام لأنفسنا أن نتفيأ ظلال العدل وأن نقف أمام مرآة الذات جميعاً فنعلم أننا عبيد لله وأننا مملوكون بقبضة الله وأن نواصينا بيد الله سبحانه وتعالى وأن مآلنا مهما فعلنا ومهما صعدنا أو هبطنا، مآلنا إلى الوقوف بين يدي الله)  إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا،  لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا،  وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي