مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/05/2008

الموت والحياة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


سُئِلْتُ أكثر من مرة لماذا قدَّم البيان الإلهي الموت على الحياة في قوله عز وجل: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: 2] وقد علمنا أن الحياة متقدمة في الرتبة والوجود على الموت فما الجواب عن هذا السؤال يا عباد الله؟


الجواب هو أن الحياة فعلاً متقدمة في الوجود على الموت ولكن الموت هو كابح الحياة، والكابح وإن متأخراً في الوجود والظهور ولكنه دائماً متقدم في الاعتبار وأخذ الحيطة، أداة الانطلاق في العربة مقدمة على كابحها ولكن السائق لابد أن يضع نصب عينيه الكابح قبل أن يستعمل أداة الانطلاق، هذه الحقيقة هي باختصار الجواب عن هذا السؤال الذي قد يطوف بذهن كثير من الناس، شاء الله سبحانه وتعالى بلطفه وحكمته ورحمته وقد بسط أسباب العيش لعباده في هذه الحياة الدنيا، شاء أن يضع بين أيديهم الكابح الذي يمنعهم من أن تطغيهم معايشها والذي يمنعهم من أن تسكرهم متعها ولذائذها، فما هو هذا الكابح الذي يمكن أن يؤدي في حياة عباد الله عز وجل هذه المهمة؟


إنه الموت، إنه الكفة الثانية، ومن هنا كان لابد من تقديم الكابح على انطلاقة الإنسان في فجاج الحياة الدنيا يتقلب في رغدها ونعيمها كما يشاء، ومن ثم فإن علينا أيها الإخوة أن نتبين حالتين اثنتين للإنسان وأن نتبين كيف يتجلى هذا الذي أحدثكم عنه من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، أما الإنسان الذي أقبل إلى هذه الحياة الدنيا يتقلب في نعيمها ويذوق من لذائذها وقد نسي أو تناسى هذا الكابح، نسي الموت الذي يتربص به ومضى يعكف على لذائذ الدنيا ومتعها فإن الشأن بالنسبة لهذا الإنسان أن يُقْبِلَ إلى الدنيا إقبال المتعشق لها، إقبال المتعلق بها، كلما ازداد تذوقاً للذة من لذائذها ازداد سكراً بها وازداد عكوفاً عليها بل ازداد ظمأً إليها، إنه يعاني من ظمئٍ يُخَيِّلُ إليه أن بحار الدنيا كلها لا تستطيع أن تروي ظمأه والسر في ذلك أنه أقبل منطلقاً إلى الحياة الدنيا ناسياً الكابح الذي وضعه الله عز وجل في الاعتبار الأول أمامه.


وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يصور لنا هذا المعنى في حديثه المتفق عليه: ﴿لو كان للإنسان وادٍ من مال لابتغى إليه ثانيا ولو كان للإنسان واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب﴾، أي لا يوقفه عند حد ولا يشعره بشبع إلا تذكره الموت، عبَّر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم وكنَّى عنه بالتراب، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، هذا الإنسان الذي نسي الموت وخُيِّلَ إليه أنه مخلد يقبل كما قلت لكم إلى الدنيا رغدها، أموالها، متعها، إقبال العاشق لها، يغامر في سبيلها مستأثراً وقد نسي الإيثار، يغامر في سبيلها ظالماً وقد نسي العدل وحقوق الآخرين، يغامر في سبيل متعه وأهوائه وقد خُيِّلَ إليه أنه الوحيد الذي وُضِعَتْ مائدة الدنيا كلُّها أمامه ليأكل منها ما لذَّ وطاب دون حدٍّ لشبع ودون حدٍّ لري.


وأما الإنسان الآخر الذي أقبل إلى هذه الحياة الدنيا وقد وضع نصب عينيه الكابح الذي نبَّه إليه بيان الله سبحانه وتعالى، علم أن الموت يتربص به وأنه يقف من بوابة الموت في طابور لا يعلم كما قلت أكثر من مرة أهو يقف في مقدمة الطابور أم في نهايته أم في وسطه دون أن يكون أثراً في هذا لشيخوخة أو لشباب أو طفولة وضع نصب عينيه هذا ومن ثم فهو يقبل إلى الدنيا ويتقلب في رغدها ولكنه يقبل إليها إقبال الموظف كُلِّفَ بالقيام بمهمة، يقبل إليها إقبال من كُلِّفَ بعمارة هذه الأرض على النحو الذي يشاء مالك هذه الأرض ومالك الكون كله، يقبل إلى الدنيا وهو يصغي إلى بيان الله القائل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]  ويصغي إلى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، كلفكم بمهمةٍ تتمثل في عمارتها العمارة المادية والعمارة الحضارية.


يصغي هذا الإنسان إلى خطاب الله فيقول لبيك يا ربي ها أنذا أنهض لأداء الوظيفة التي كلفتني بها، يتمتع موظفاً عند الله، يتقلب في رغد العيش، يبني المصانع، يبني المؤسسات التجارية ولكنه يشعر في كل ساعة بل في كل دقيقة أنه موظف في هذا يؤدي مهمة كلفه الله سبحانه وتعالى بها ومن ثم فإن هذا الكابح يصده عن الشطط، يصده عن المغامرة والدخول فيما حرمه الله عز وجل، كابح الموت يمنعه من أن يظلم الآخرين، كابح الموت الذي ينتظره يمنعه من أن يلتهم حقوق الآخرين ليملأ جيبه وليملئ رصيده بأموال الآخرين وحقوقهم، هذا الإنسان الذي يضع كابح الموت نصب عينيه لا يمكن أن يستلب وطناً لعبادٍ من عباد الله عز وجل، لا يمكن أن يجردهم من حقوق، لا يمكن أن يتلاعب عليهم من أن أجل أن يستَجِرَّهم إلى عرش يريد أن يتربع فوقه على حسابهم وظلم لحقوقهم، هذا هو الفارق ما بين الإنسانَيْنِ يا عباد الله.


أرأيتم إلى الموت ووظيفته، أرأيتم إلى الموت كم هو رحمة خفية من رحمات الله سبحانه وتعالى بعباده، ولكن ينبغي أن أستدرك أيها الإخوة لأقول لكم إن الذي يضع الموت نصب عينيه فريقان من الناس، أنا أتحدث عن الفريق الذي عرَفَ هويته وعرف ربه وأدرك أن الموت بوابة ينفذ منها إلى لقاء الله، إلى لقاء خالقه الذي أحبه واشتاق إلى رؤيته، عن هذا الفريق أتحدث، هذا الإنسان إن امتدت به الحياة سَعِدَ بالدنيا وأَسْعَدَ بها وإن عاجله الموت رقصت الفرحة بين جوانحه لأنه يستبشر بأنه على موعد قريب من لقاء الله سبحانه وتعالى وصدق رسول الله القائل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة يا رسول الله أهو الموت فكلنا يكره الموت، قال ليس ذاك ولكن العبد إذا وفاه الموت وبُشِّرَ برحمة الله ولقائه لم يكن شيءٌ أحبَّ إليه من لقاء الله وإذا بُشِّرَ العبد بسخط الله سبحانه وتعالى وعقابه لم يكن شيءٌ أشد وأصعب عليه من لقاء الله سبحانه وتعالى.


الإنسان الذي عرف حقيقة الموت وأدرك أنه ليس عبارة عن عدم وإنما هو انتقال عبر بوابة من حياة إلى حياة أخرى أرسخ قوة من هذه الحياة هي الحياة التي يلقى فيها العبد ربه سبحانه وتعالى، أما الذي عرف الموت ولكنه لم يدرك معناه، عرف الموت متوهماً أنه عدم بعد وجود وأنه الغلاف الأخير لقصة هذه الحياة التي يعيشها، هذا الإنسان من شأنه أن يسير في طريقه إلى هذه النهاية تماماً كإنسان يسير في نفق ذي اتجاه واحد وهو يعلم أن نهايته سدٌّ لا يُخْتَرَق، كلما أوغل في هذا النفق كلما شعر بالوحشة تأخذ بخناقه، كلما أوغل وأوغل ودنا إلى السد شعر أنه يكاد أن يختنق، تلك هي قصة الإنسان الذي عرف الموت ولكن ظن أنه عدم بعد وجود.


عباد الله أنا أحمد الله واحمدوا معي مولكم جل جلاله أن بصرنا بحقيقة الموت، أنه بيَّن لنا أنهما كفتان موت وحياة وكل منهما ضبط للآخر، نحمد الله عز وجل على أنه أكَّد لنا أن الموت بوابة نرحل منها إلى لقائه، ألستم في شوقٍ شديد إلى لقاء الله، إنكم تسألون الله صباح مساء، تجأرون إليه بالشكوى والضراعة، تتنـزل عليكم نعمه من كل حدب وصوب ولكنكم لا ترونه، ألم تتشوقوا إلى هذا الذي يأتيكم منائحه ولما تروه بعد، الموت هو الذي يرفع الحجاب بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، الموت هو الذي يُشْعِرُنا بالأنس الذي شعر به بلال وهو يجود بنفسه إذ قال: واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، هذه نعمة لا أجلَّ منها ولا أعظم، ومن مظاهر هذه النعمة أنها تضطبنا بسير مستقيم لرغد العيش، نتمتع بنعيم الدنيا، نتقلب في رغدها لكن ضمن ضوابط لا مثل ذلك الذي يقبل إليها عاشقاً قد سكر بمتعها يستأثر بها عن الآخرين، لا، نقبل إلى الدنيا ولكننا نتقاسمها مع إخواننا تحت مظلة العدل، نقبل إلى الدنيا ولكننا لا نظلم أحداً حقه، نقبل إلى الدنيا ولا نستأثر بها بل نؤثر ولا نستأثر، بهذا يوحي الموت الذي هو بوابة الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من الموت هذا الكابح لنا وأن يجعلنا مطبقين ومنفذين لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ﴿أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذكر في كثير، أي من المعاصي، إلا قلَّلَه وما ذكر في قليلٍ، أي من الطاعات، إلا كثَّره﴾.


أسأل الله عز وجل أن يجعل تعاملنا مع الموت قبل أن يصل إلينا سبباً في ألا نقع في الندامة التي سيقع فيها من نسوا أو تناسوا الموت حتى إذا فوجئوا به هيمنت حرقة من الندم على قلوبهم لا يمكن أن تخمد بشكل من الأشكال، ألم تتصوروا هذه الندامة التي يجسدها بيان الله عز وجل في قول : ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ [المؤمنون: 100]، ألم تقفوا على قوله عز وجل وهو يجسد هذا المعنى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة:12]؟!


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي