مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/05/2008

مقاصد الشريعة الإسلامية ووحدة الصف

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن هذا الدين الذي شرفنا الله عز وجل به، في ضرورياته الكلية التي لا تقبل اختلافاً ولا اجتهاداً، وفي حاجياته المنبثقة منها، وفي تحسينياته الكثيرة الخاضعة للاختلاف والاجتهاد، أشبه ما يكون بشجرة، أما جذعها الواحد فضروريات هذا الدين، وأما فروعها الغليظة المنبثقة من الجذع فحاجياته، وأما أغصانها الرقيقة الكثيرة الظاهرة في أعلى الشجرة فهي التحسينيات الكثيرة الخاضعة للاجتهاد والاختلاف، وقد أجمع علماء الشريعة الإسلامية على أن ضروريات الدين هي الكليات الراسخة فيه لا تقبل خلافاً ولا تقبل اجتهاداً، ولقد أجمعوا على أن تعارضاً إذا وقع بين هذه الضروريات وبعض الحاجيات وجبت التضحية بالحاجيات في سبيل الإبقاء على الضروريات، وإذا قام تعارض ما بين التحسينيات وهذه الضروريات أو الحاجيات وجبت التضحية بالتحسينيات في سبيل الإبقاء على الحاجيات وعلى الضروريات.


ولنعلم -يا عباد الله- أنه لا توجد ضرورة من ضروريات الدين في هذا العصر أخطر ولا أهم من الوقوف في وجه الإعلان على الحرب المتسلسلة الدائمة ضد الإسلام، لا يمكن أن نعثر على ضرورة لا يجوز الاختلاف فيها ولا يجوز تجاوزها أو الاجتهاد في أمرها أهم من الوقوف في وجه هذا العدوان المعلن على الإسلام، وفي وجه الخطط الرامية إلى تحقيق هذا الهدف الخطير، ولعلكم تعلمون -يا عباد الله- أن الحرب على الإسلام كانت إلى الأمس القريب همساً يسري بين أفواه قادة الغرب البريطاني والأمريكي وآذانهم، ولكن هذا الهمس اليوم تحول إلى قرار معلن، تحول إلى قرارٍ مستعلن بوسع العالم العربي والإسلامي أن يسمعه في كل يوم، والوثائق الكثيرة لا تعجز أحداً الوقوف عليها بشكل من الأشكال يا عباد الله، ونحن نعلم أن الغرب الأمريكي والبريطاني، إذ جعل قراره هذا معلنا على الأسماع بقدر كبير من التحدي، دأبه أن يغطي هذا الهدف بأغطية متنوعة شتى، وبأسباب مختلفة كثيرة، كالحديث عن الإرهاب، وكالحديث عن حماية إسرائيل وكوقوفها اليوم في وجه حرية واستقلال هذا البلد المجاور لنا لبنان، ينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن هنالك وثائق تنص على أن إسرائيل ماضيةٌ في تحقيق هدف يتمثل في جعل لبنان بوابة تدخل منها إلى العالم العربي والإسلامي لتبسط عليه سلطانها السياسي وسلطانها الاقتصادي، بل وربما سلطانها العسكري أيضاً، كل ذلك أغطية وأسباب شتى، والهدف البعيد منها هو اجتثاث الإسلام والقضاء على الإسلام.    


هذا الواقع الذي نراه يمثل أمامنا ضرورة من ضروريات هذا الدين لا يجوز إطلاقاً الاجتهاد فيه، ضروريات تقتضينا أن نطوي أمامها كل الفوارق المذهبية، تقتضينا أن نطوي أمامها كل الاختلافات العرقية والاجتهادية المتنوعة، ضرورة تدعونا إلى الوقوف، الوقوف بإصغاءٍ ثم باصطباغٍ بذل العبودية لله عز وجل أما قوله سبحانه وتعالى: )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[ [الصف: 4] ومعنى قوله عز وجل: )صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[ أي يحبهم مجتمعين وقد سُدَّت مما بينهم ثغرات الاختلاف، يحبهم مجتمعين متلاصقين، وقد تساقطت مما بينهم الفوراق المذهبية المختلفة، هي موجودة، وليس المطلوب أن تُذَوَّبَ، ولكن المطلوب أن تطوى أمام هذه الضرورة التي لا اختلاف فيها ولا اجتهاد فيها بشكل من الأشكال، ألم نقل: إن الحاجيات إذا تعارضت مع الضروريات يجب التضحية بالحاجيات في سبيل الضروريات؟ هذا ما ينادينا إليه كتاب الله، هذا هو النداء الذي يصك أسماع قادة المسلمين وشعوبهم يا عباد الله.


    حسناً وما الواقع الذي نعاني منه في العصر يا عباد الله؟ ننظر ونتأمل فنجد ظاهرة من الذل ما أحسب أنّا مررنا بمثلها في تاريخنا الإسلامي الأغر، جُلُّ، ولا أقول كل، جُلُّ قادة المسلمين منهمكون في الإبقاء على كراسيهم، منهمكون في الالتصاق بعروشهم، وهم في سبيل ذلك يبسطون أكف البيعة لا إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن إلى العدو المشترك الذي يعلن اليوم دون هوادة قراره المتخذ للقضاء على الإسلام، العدوِّ الوحيدِ الذي بقي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قادةُ المسلمين أو أكثرهم يرون الخطط الماكرة التي تتربص بهذا الدين، والتي تتربص بالمسلمين على اختلاف مذاهبهم ومستوياتهم، وهم خاضعون يطأطئون الرأس انقياداً لما يريده هذا العدو الأرعن، يريدهم أن يختلفوا، إذن هم مختلفون، يريدهم أن يعرضوا عن نداء الله عز وجل وعن نداء إخوانهم الذين يُقَتَّلون ويُشَرَّدون إذاً فليستجيوا لما يريد هذا العدو، والغريب أن هذا العدو مع ذلك يجردهم من حقوقهم ويعريهم من ممتلكاتهم ويحيل أغنياءهم إلى فقراء، وهو ماضٍ في هذا المخطط، ومع ذلك فهم ماضون أيضاً في هذا الخضوع الذليل المهين، يناديهم الله عز وجل قائلاً: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ[ [الممتحنة: 1] ولكن لسان حالهم يقول: إننا عن هذا النداء معرضون وإنا لفي شغل شاغل عنه؛ لأن مصالحنا الآنية تقتضينا أن نلقي هذا النداء وراءنا ظهرياً، يتبعهم بيان الله ويلاحقهم قائلاً: )إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ[ [الممتحنة:2] ولكنهم إلى الوجهة التي قرروا أن يتجهوا إليها ماضون، وعن نداء الله معرضون، يلاحقهم نداء الله عز وجل قائلاً: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[  [آل عمران: 118] ولكن جُل قادتنا في العالم العربي والإسلامي عن هذه الوصية معرضون، هذا النداء الذي يلاحقهم به الله عز وجل يلقونه وراءهم ظهرياً.


     هذا هو واقع المسلمين اليوم -يا عباد الله- وإني كلما عدت إلى تلك الصفحة السوداء التي سجلها تاريخنا الإسلامي لملوك الطوائف في الأندلس، هذه الصفحة التي تذيب الإنسان خجلاً من المهانة، خجلاً من الذل، أولئك الذين قسموا فردوس دولة الإسلام في الأندلس إلى مِزَقٍ ورُقَعٍ من الأرض، واستأثر كل واحدٍ منهم ببقعةٍ فيها جعل منها عرشه القابع فيه، ثم إنهم لم يكتفوا بذلك، بل استعانوا بالجيش الإسباني، استعان كل منهم بالجيش الإسباني لكي يكون نصيراً له على أخيه، وهكذا تمزق ذلك الفردوس بين ماضغي الفرنجة، وسلم أولئك الناس ذلك الفردوس إلى أعدائهم وأعداء دين الله عز وجل، عندما أعود إلى هذا الواقع يكاد دوار يطوف برأسي من الألم من هذا الذل، ألقي هذه الصفحة ورائي ظهريّاً وأقول؛: فلأتناساها ولكني أفاجأ بهذه الصفحة ماثلة أمامي مرة أخرى في الصورة ذاتها، وما أشبه الليلة بالبارحة.


   عباد الله، هذا واقعنا، وإني لأنادي من هذا المقام آملاً أن يبلغ ندائي هذا كل أخٍ يعتز ببقية باقية من الارتباط بالله عز وجل، ومن الدينونة لسلطان الله عز وجل أقول لهم: إن عز عليكم أن تلتفتوا إلى بيان الله عز وجل، وأن تعودوا مرة أخرى فتجددوا البيعة مع الله وتنفذوا وصاياه، فأمامكم علاج بسيط بوسعكم إن أخذتم أنفسكم به أن تعود إليكم عزتكم القعساء، وأن يزول هذا الذل الذي ضرب بأطنابه على كياناتكم، التجئوا إلى الله، التجئوا بقدر جادٍ من الذل والمسكنة إلى باب الله عز وجل، وقفوا أمام محراب العبودية المتجسد في قوله سبحانه وتعالى: )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور[ [البقرة: 257]، قولوا: ها نحن مؤمنون يا مولانا يا رب العالمين، ها نحن قد جددنا صبغة العبودية في كياناتنا لك، أنت ولينا، لا ولي لنا سواك، وها نحن عدنا إليك فاقبل عودة العائدين إلى رحابك يا رب العالمين، التجئوا إلى الله، واصدقوا في الانكسار على باب الله عز وجل، وانظروا كيف تستيقظ في كياناتكم مشاعر العزة، عزة العبودية لله عز وجل، وانظروا كيف تعودون إخوة متحابين متوائمين تنفذون قول الله عز وجل القائل: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[ [الحجرات: 10]، التجئوا إلى الله بصدق ومارسوها علاجاً مستمراً، مارسوا ذلك علاجاً مستمراً تجدوا أن الله سبحانه وتعالى قد بعث في قلوب أعدائكم رهبة منكم، وبعث في قلوبكم الاعتزاز بالله سبحانه وتعالى ولسوف تجدون أنفسكم أمام مصداق قول الله عز وجل: )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[ [الصف: 4]  أتجه بهذا النداء إلى نفسي أولاً، وإلى كل قادة المسلمين في بلاد الله ثانياً ليتخذوا من هذا الدواء علاجاً لهم، هذا أقصر علاج، وأنجع علاج وانظروا كيف تكون النتائج،


أقول قولي هذا، وأستغفر الله. 

تحميل



تشغيل

صوتي