مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/05/2008

هل يكون الحب داءً ودواءً بآن واحد؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن السر في صلاح المجتمعات التي صَلُحَتْ إنما هو الحب والسر في فساد المجتمعات التي فَسَدَتْ وشقيت إنما هو الحب، بالحب يتحول الإنسان إلى ملك يمشي على الأرض، بالحب يتحول إلى غيريٍّ ينسى حظوظ نفسه ويؤثر الآخرين عليها بدلاً من أن يستأثر بها، وبالحب يتحول الإنسان إلى مجرم سفاك للدماء يأخذ الحقوق من أصحابها ويستلب الأوطان من ذويها ويستمرئ الظلم في الأرض، وهكذا دل التاريخ ودلت حقائق الكون على هذا الذي ينبغي ألا نتيه عنه، ولكن كيف يتم ذلك؟


كيف يكون الحب داءً ودواءً بآن واحد؟ كيف يكون الحب سلماً للرقي وأداةً للهبوط والسقوط في وقت واحد؟ إليكم الجواب عن هذا السؤال يا عباد الله، لا شك أن قلب الإنسان ملك لبارئه وخالقه فإذا توجه القلب، قلب الإنسان، بالحب إلى من فطره وسواه وأبدعه في أحسن تقويم، إذا توجه قلب الإنسان بالحب إلى الإله الذي كرمه وفضله على كثير من المخلوقات كما قال في محكم تبيانه، إذا توجه قلب الإنسان بالحب إلى هذا الذي فطر هذا الكون وسخره لخدمة الإنسان، إذا وجه الإنسان قلبه لحب هذا الإله نسي هذا المحب ذاته في ضرام محبته لله عز وجل ومن ثم نسي حظوظه، نسي شهواته وأهواءه، نسي عصبياته واستكباره، نسي الأنا التي تهتاج بين جوانحه والتي تتحقق منها الكبرياء المهلكة، نسي ذلك كله في غمار حبه لمن أبدعه وسواه وأخرجه في أحسن تقويم، فإذا رَبَّى هذا الحب الإنسانَ هذه التربية أصبح مؤثراً للآخرين على نفسه بدلاً من أن يكون مستأثراً، أصبح خادماً لعباد الله عز وجل بدلاً من أن يستخدمهم ويستغلهم، أصبح هذا الإنسان أداة خير لعباد الله عز وجل جميعاً، أصبح هذا الإنسان مضحياً بحظوظه مضحياً برغائبه وشهواته في سبيل الإله الذي أحبه، في سبيل الإله الذي مَحَضَهُ وده، في سبيل الإله الذي ينبض قلبه حباً خالصاً له لا لغيره ولا لأي شيءٍ سواه ومن ثم يصبح الإنسان أداة سعادة لنفسه وأداة سعادة لإخوانه الذين يعيش بين ظهرانيهم.


أما إذا توجه قلب الإنسان بالحب لذاته، بالحب للأنا أو الأنانية الكامنة بين جوانحه فإن هذا الحب يوقظ مشاعر العصبية في كيانه، يوقظ مشاعر الاستكبار في نفسه، يوقظ مشاعر العرقية ومشاعر الأنانية التي لها أنواع مختلفة شتى ومن ثم يصبح مستأثراً لنفسه بدلاً من أن يؤثر الآخرين، يصبح أنانياً بدلاً من أن يصبح غيرياً ومن ثم يضحي بكل شيء في سبيل حظوظ نفسه، يضحي بمصالح الآخرين في سبيل أهوائه، في سبيل شهواته ورغائبه، وهكذا يا عباد الله، حب يصعد بالإنسان إلى قمة السعادة والخير وحب آخر يهبط بالإنسان وبالمجتمع الإنساني إلى أسوء دركات الشقاء، هذا هو الجواب عن السؤال الذي قد يخطر في البال، ومن هنا نبَّهَنَا بيان الله عز وجل إلى أن الإيمان العقلاني لا فائدة منه إن لم يتوج بالحب، لمن؟ لبارئ هذا الكون، لصاحب هذا القلب، لمالك الإنسان ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾.


ومن هنا أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يتكامل إيمانه إلا إذا كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، ألم يقل ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، كم وكم تساءل سائلون: لماذا هذه الشدة وهذا الاشتراط العسير لكي يبلغ الإنسان ذروة الإيمان، أن يحب الله ورسوله أكثر مما يحب نفسه، نعم لأنك إن لم تحب الله عز وجل أكثر مما تحب نفسك فلسوف تضحي بإيمانك وبحبك لله في سبيل نفسك، في سبيل حظوظها، في سبيل استكبارك، في سبيل شهواتك وأهوائك وهذا ما يجري اليوم في الكون.


إذاً لابد لكي يكون الإنسان مؤمناً بالله عز وجل الإيمان الذي يرقى به فرداً ومجتمعاً إلى قمة السعادة أن يوجه قلبه بالحب إلى بارئه الذي فطره، إلى مولاه الذي خلقه سؤال آخر قد يقفز إلى ذهن كثير منكم عندما يسمع هذا الكلام، قد يقول أفلا يكفي إدراك الحقيقة، ومكان ذلك الدماغ والعقل، سائقاً للإنسان إلى درب السعادة وقمة الهداية والتوفيق؟


لا يا عباد الله، الإدراك العقلاني مهما قوي ومهما وصل إلى ذروة اليقين لا يقود صاحبه إلى سلوك، إذاً ما فائدة الإيمان؟ دور الإيمان كدور المصباح المثبت في مقدمة العربة، أرأيتم إلى المصباح الذي يشع في الليل المظلم في مقدمة العربة التي تسوقها ما هو دوره؟ دور هذا المصباح أنه يريك الطريق كما هو معوجاً معبداً أو غير معبد مستقيماً أو غير مستقيم ثم إن دور المصباح يقف عند هذا الحد، المصباح لا يحرك العربة ولا يقودها، إن الذي يحرك العربة إنما هو الوقود الذي في داخلها، الذي يحركك في الطريق إلى مرضاة الله إنما هو وقود الحب، والذي يقودك في الطريق إلى مرضاة الشيطان والنفس والهوى إنما هو الحب أيضاً،


أما العقيدة الجاثمة في الرأس مهما كانت صحيحة ودقيقة فإن دورها أنها تريك الطريق السليم سليماً، تريك الحق حقاً وتريك الضلالة ضلالة، ثم إنك لابد من وقود يحركك إلى ما تريد، هذا هو الجواب عن هذا السؤال يا عباد الله، ألا ترون في فجاج الكون كم وكم يعج بمستشرقين، بأناس عرفوا الله كما عرفناه لكنهم لم يحركوا ساكناً إلى مرضاة الله لأن الوقود الذي بين جوانحهم إنما يخدم رغائبهم إنما يخدم شهواتهم، لأن الحب الموجود بين جوانحهم حب هابط وليس حباً صاعداً إلى الله سبحانه وتعالى.


هذا المعنى الذي ينبغي أن أقوله لكم وينبغي أن أكرره على مسامعي ومسامعكم ينبغي أن يَحْفِزَنَا إلى البحث عن وقود هذا الحب إلامَ يتجه؟ أفيتجه إلى أهوائنا وشهواتنا ورغائبنا أم يتجه إلى الله، إلى صاحب هذا القلب، يتجه إلى الإله الذي كرمنا، إلى الإله الذي أغرقنا في بحارٍ من النعم التي لا تتوقف؟ أغلب الظن أنا إن تساءلنا هذا السؤال فلسوف نعلم الجواب المخيب والمؤلم، الجواب هو أن حبنا في أغلب الأحيان وبالنسبة لأكثر الناس إنما هو متمحض لرغائبنا وشهواتنا وأهوائنا فهو ذلك الحب الهابط الذي يزج المجتمعات إلى الشقاء إلى ضرام الفساد، وإذا عرفنا أننا نعاني من هذا الداء فتعالوا نسرع ونبادر إلى استعمال الدواء، لا سبيل يا عباد الله لصلاح المجتمعات الإسلامية، وأنا أتحدث عن المجتمعات الإسلامية، إلا إذا طَهُرَتْ قلوبُ من فيها من قادة وشعوب من شوائب الحب للذات، من شوائب الحب للأهواء والشهوات واتجهت بالحب إلى بارئنا، إلى خالقنا، إلى من كرمنا، إلى من لا تنقطع نعمه عنا ولا لحظة واحدة، فإذا عالجنا أنفسنا وإذا طهرنا قلوبنا من محبة الأغيار وجعلنا محبة الله هي المتغلبة صلحت مجتمعاتنا ولا داعي إلى كثير من الفلسفة والتخطيطات النظرية التي يتجادل حولها الناس.


وكأني بكم تسألون: فما السبيل إلى أن نطهر أوعية قلوبنا من المحبة المهلكة والمفسدة للفرد والمجتمع ونتوجه بها إلى مولانا وخالقنا فنمحضه حبنا؟ كيف السبيل إلى ذلك؟ السبيل إلى ذلك ميسور يا عباد الله ولعلي أشرت إلى ذلك في خطبة مرت، تقول القاعدة الإنسانية التي لا شذوذ فيها: جُبِلَتْ النفوس على حب من أحسن إليها فاسألوا أنفسكم من هو المحسن الأوحد في الكون؟ من الذي ينيمك إذا تمددت مساءً على فراشك للرقاد؟ من الذي يوقظك إذا أخذت حظك الكافي من الرقاد؟ من الذي يطهرك من السموم عندما تدخل الحمام؟ من الذي أرسل إليك هذا الماء نقياً طاهراً مطهرا؟ من الذي أكرمك عندما تجلس على مائدة الطعام بهذه الألوان من الأطعمة التي جعلها الله مناسبة لكيانك، إن هي إلا نتيجة سماء أمطرت وأرضٍ أنبتت وأنعام سخرها الله لك لحوماً وألبانا؟ إذا نظرت إلى نفسك في المرآة ورأيت العافية تتضرج في كيانك سائل نفسك من الذي يكرمك بالعافية من فرقك إلى قدمك؟ سائل نفسك من الذي جَمَّلَ وجهك بالفكر المهيمن في كيانك، ولو أن الفكر غاب عن الإنسان لأصبح جماله مظهراً من مظاهر القبح أمام الآخرين، سل نفسك وأنت تسير في طريقك من الذي يجعل قامتك معتدلة لا تترنح ذات اليمين ولا ذات اليسار؟ ستعلم الجواب أنه الله، أنه المنعم الأوحد، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾، إذا علمت هذا تفجرت ينابيع محبة الله عز وجل بين جوانحك، ثم إن هذا الحب بذوره موجودة في قلب المؤمن والفاجر، في قلب المؤمن والملحد، بذور هذا الحب موجودة منذ أن فطرنا الله سبحانه وتعالى وأخرجنا من بطون أمهاتنا، فإما أن تتعهد هذه البذور بالسقيا فتنبت وتهيمن وإما أن تعرض عنها فتكون أنت المسؤول عما قد فعلته بنفسك، هذا هو الجواب عن هذا السؤال أيها الإخوة.


فإذا شكونا بعد اليوم من السوء الذي يسري وينتشر في مجتمعاتنا، ومظاهر السوء كثيرة وأنواع الفساد شتى، فلتعلموا أن سبب ذلك الحب، الحب الهابط، الحب الذي يسقط بالإنسان من علياء الفطرة الإيمانية الإنسانية إلى درك الشقاء، فلنبادر إلى الدواء، فلنعالج الحب الداء بالحب الدواء، فلنعالج حب أهوائنا وشهواتنا بالحب الذي ينبغي أن يتغلب عليه ألا وهو حب مولانا وخالقنا سبحانه، الناس الذين يدخلون في كل يومٍ ذرافات ووحداناً إلى دين الله في ربوع الغرب ما الذي يقودهم؟ أتظنون أن الذي يقودهم إلى الإيمان هو العقل الهادي؟ لا، عقولهم أدركت الحقائق منذ أمدٍ بعيد إنما الذي يقودهم ويوجههم إلى الإيمان هو الحب، حب الله عز وجل الذي أعتقهم من حب السوى، من حب الأغيار، وصدق عليهم قوله الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم 

تحميل



تشغيل

صوتي