مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/04/2008

شجرة الإسلام

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن الإسلام الذي شرَّفنا الله سبحانه وتعالى به بدءاً من فجر هذه الخليقة أشبه ما يكون بشجرة باسقة، أما جذورها فتتمثل في مشاعر العبودية الواجفة لله سبحانه وتعالى، وأما جذعها الظاهر وأغصانها الظاهرة فيتمثل ذلك كلُّه في الانقياد لأوامر الله سبحانه وتعالى من عبادات وأوامر ونواهيَ عامة، وأما ثمارها فتتمثل في السعادة التي قيضها الله سبحانه وتعالى لهذه الشجرة متمثلة في سعادة الفرد والمجتمع، متمثلة في القوة بعد الضعف والنصر بعد الهزيمة والغنى بعد الفقر والاتحاد بعد التشرذم والتفرق، وانظروا إلى هذا المثال كيف يبرزه ويجسده لنا كتاب الله سبحانه وتعالى إذ يقول ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [ابراهيم:25].


إذاً فالإسلام جذورٌ من العبودية الواجفة لله وجذع ثم أغصانٌ من الانضباط بأوامر الله سبحانه وتعالى كلها وثمرة من السعادة وعد الله سبحانه وتعالى بها المسلمين الذين يمثلون هذه الشجرة، ونحن يا عباد الله عندما نتأمل في معنى العبادة والعبودية قد نتساءل عن الفرق بينهما، ما الفرق بين العبودية والعبادة لله عز وجل؟ أما العبودية فحالٌ يصطبغ بها الإنسان شعوراً تتمثل في أقصى درجات الذل، ولكن لمن، لقيوم السموات والأرض، تتمثل في المشاعر الربانية إذ تهيمن على فؤاد الإنسان، فالعبودية إذاً حالٌ خفيةٌ ضاربةٌ بجذورها في الفؤاد، أما العبادة فسلوك اختياري يمارسه الإنسان انقياداً لأوامر الله سبحانه وتعالى وانقياداً للنواهي التي حذره الله سبحانه وتعالى منها، هذا هو باختصار فرق ما بين العبودية والعبادة، إذا عرفنا يا عباد الله هذا الفرق بينهما فقد آن لنا أن نعلم أن العبادة الحقيقية المقربة إلى الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت موصولة بجذور من العبودية ضاربةٍ بها في باطن القلب، أما عندما تكون العبادة في كيان الإنسان منفصلة عن هذه العبودية التي هي جذور هذه الشجرة فإن مظاهر العبادة لا يمكن أن تقرب أصحابها إلى الله شروى نقير، ولقد وقفت يا عباد الله على آيات ينعت فيها ربنا سبحانه وتعالى رسوله بالعبودية وتساءلت هلا نعته بالرسالة التي ابتعثه الله عز وجل بها، هلا نعته الله عز وجل بالنبوة التي ميَّزَه الله عز وجل بها؟ ولكني رأيته كلما أراد أن ينوه بمكانة حبيبه المصطفى نعته بوصف العبودية ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان:1] ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء:1] ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]


ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته لا ينتشي إذ يصف نفسه بوصف إلا عندما يصف ذاته بالعبودية لله عز وجل، ومهما تلقى من الله عز وجل مظاهر النصر والتأييد فإنه يزداد تطامناً واصطباغاً بهذه الحال يا عباد الله، حال العبودية لله سبحانه وتعالى، ألا تذكرون يوم فتح الله سبحانه وتعالى عليه مكة وطاف بالبيت الحرام سبعاً ثم وقف يخطب الناس بعد أن أثنى على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله قائلاً: الحمد لله الذي نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، نصر عبده، لم يقل نصر رسوله، عباد الله حدثتكم بهذه المقدمة من أجل أن نتلمس جميعاً مكان هذه الجذور من هذه الشجرة المقدسة الباسقة من قلوبنا، التربة التي ينبغي أن تضرب جذور العبودية في أقصاها إنما هي تربة القلب.


أين هي مشاعر العبودية، ولا أقول العبادة السلوكية، لله سبحانه وتعالى بين جوانحنا؟ أرجو أن أكون مخطئاً إن قلت لكم أكثرنا يعاني من قلوبٍ فارغة، وأكثرنا يتمثل الإسلام في حياته كما لو كان شجرة قد أثبتت على ظاهر من الأرض ليس فيها جذور تمخر عباب الأرض، هل يُنتظَرُ بهذه الشجرة إلا الذبول ثم الانمحاق؟ هذه هي حالنا إن لم نتدارك هذا النقص ونكمل شجرة الإسلام التي متَّعَنَا الله سبحانه وتعالى بها، أرأيتم إلى الازدواج الذي تعاني منه مجتمعاتنا الإسلامية ولا يبرأ منها إلا قلةٌ فيما أحسب؟ إن سبب هذا الازدواج فقد جذور هذه الشجرة الإيمانية في القلوب، تنظر إلى المصلين في المساجد وإذا هم كثرة، بل لعلهم يتكاثرون مع الأيام، وتتأمل في مظاهر الصيام في موسمه الرمضاني فتجد مظاهره متألقة في الأسواق وفي المساجد وربما في البيوت أيضاً، وتنظر إلى الحجيج وإذا بأعداده يتكاثر عاماً إثر عام.


ولكن تأمل في الإسلام الذي ينبغي أن يهيمن على الأسواق وإذا هو غائب، تأمل في الإسلام الذي ينبغي أن يهيمن على العلاقات الشخصية بين الإنسان وأخيه الإنسان وإذا الإسلام عن هذه العلاقة غائب، تأملوا في حياة الأسرة أفرادها بعضهم مع بعض وإذا الإسلام في أكثر الأحيان عن هذه الأسرة غائب، وإذا كنتم في شك مما أقول فانظروا إلى المشكلات التي يفور بها قصر العدل، هي مشكلات بين مسلمين ومسلمين، ولربما بحثت عن هؤلاء المسلمين فلم تجدهم إلا في المساجد، ولربما تتبعت سيرة الواحد منهم فوجدته يغشى مجالس الذكر ومجالس العلم وما إلى ذلك، يا سبحان الله من أين جاء هذا الازدواج وقد علمنا أن الإسلام ليس محصوراً في صلاة وصومٍ وحجٍّ وزكاة، الإسلام له سلطانه النافذ على الحياة الإنسانية كلِّها، ألم يأمرنا الله عز وجل أن نقول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162] أي كل تقلباتي في الحياة ينبغي أن أتوجه بها إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.


إذاً لماذا أَجِدُنِي ملتزماً بالإسلام إذ تحين أوقات الصلاة وأُهْرَعُ إلى المساجد لأدائها مع الجماعة؟ لماذا أكون واحداً ممن تتألق مظاهر الصيام في شكلهم وتحركاتهم في شهر رمضان؟ لماذا أكون واحداً من المتسابقين إلى بيت الله الحرام في موسم كل حج؟ حتى إذا دخلتُ عراك العلاقات المالية ودخلت السوق من الصباح إلى المساء حُجِبْتُ عن الإله الذي كنت أركع وأسجد له، لماذا؟ السبب أن عباداتنا السلوكية لم تتصل بجذور مستقرة في أعماق هذه الأفئدة، أفئدتنا هي التربة التي ينبغي أن تستقر فيها جذور هذه الشجرة الإيمانية التي حدثنا عنها بيان الله عز وجل، عندما يكون قلبيَ خالياً من مشاعر الذل والعبودية والمملوكية لله سبحانه وتعالى ومن ثم يكون شعوري خالياً عن مراقبة الله عز وجل لي فما أيسر أن أرضيَه، فيما أتصور، بركعات أُؤديها وبصيام أصبر عليه وبحج أذرع الطريق ما بين بيتي وبين بيت الله الحرام ذاهباً آيباً، ماذا يكلفني ذلك هذه العبادة مقطوعة عن جذورها لن تقربنا إلى الله يا عباد الله، لابد لكي تحيا هذه العبادة، لكي تسري فيها روحها، لابد من أن تكون لها جذور، الشجرة لا تحيا بدون جذور، والجذور، جذور هذه الشجرة، كما قلت لكم هي العبودية لله عز وجل.


لما آل الإسلام في حياة مجتمعاتنا الإسلامية وأكثر المسلمين إلى هذه المظاهر السلوكية دون أن تكون لها جذور ضاربة في أعماق الأفئدة أصبحنا نتصور الإسلام فكراً، وما أكثر ما يُنعَتُ الإسلام بالفكر، وما أكثر ما ينعت الدعاة إلى الله بالمفكرين، المفكرين الإسلاميين، تأملوا من أين جاءت هذه الكلمة، من أين جاء هذا اللقب للإسلام والداعين إلى الله عز وجل، هل سمعتم هذا اللقب قبل مئة وخمسين عاماً أو قبل مئة عام؟ لا، هل سمعتم باسم الفكر الإسلامي والمفكر الإسلامي قبل مئتين، قبل ثلاث مئة، قبل أربعمائة، قبل ستمائة عام؟ إطلاقاً، لأن الإسلام ليس فكراً منبعثاً من هذا الدماغ وإنما الإسلام شجرة جذورها القلب، والقلب مكمن لمشاعر العبودية لله سبحانه وتعالى، عندما تضرب جذور هذه الشجرة في فؤادي وتستقر في حنايا هذا الفؤاد فإنني سأتحول إلى إنسان يراقب الله في كل حال، عندما أذهب إلى السوق أجِدُنِي عابداً لله في سوقي، عندما أذهب إلى مدرستي أو جامعتي معلماً أو متعلماً أجدني عابداً لله عز وجل في جامعتي، عندما أجدني ذا علاقة بيني وبين إخوةٍ لي في الله عز وجل أو آخرين من خارج الدائرة الإسلامية أجدني في محراب العبودية لله عز وجل، عندما أدخل داري في المساء وأجلس مع أهلي وزوجي أجدني عدت إلى محراب العبودية لله سبحانه وتعالى، نحن بحاجة يا عباد الله إلى أن نتفقد جذور هذه الشجرة التي عبَّر الله عز وجل بها عن شجرة الإسلام، أسأل الله عز وجل أن يجعل قلوبنا أوعية لجذور هذه الشجرة ألا وهي العبودية الواجفة لله عز وجل، إن لم نصطبغ بها اليوم فلسوف نصطبغ بها عند رحيلنا من هذه الحياة، لسوف نصطبغ بها عندما نمتد على فراش الموت ونجد ملك الموت يستلب روحنا شيئاً فشيئاً سنعلم عندئذٍ أننا عبيد واجفون أذلاء لله عز وجل، فلنصطبغ اليوم بهذه الحقيقة قبل أن يفوت الأوان فلا يفيدنا الاصطباغ بها عندما نرحل إلى الله عز وجل.


أقول قولي هذا وأستغفر الله عز وجل.  

تحميل



تشغيل

صوتي