مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/04/2008

التمسك بالثوابت

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


روى الإمام مالك في موطئه والإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار البقيع يوماً فسلم على أهل البقيع ثم قال: وددت لو أني رأيت إخواننا فقال له أحد الصحابة ألسنا إخوانك يا رسول الله قال: بل أنتم أصحابي وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد وسأكون فرَطَاً لهم على الحوض قال قائل منهم أوتعرفهم يا رسول الله أي أتعرفهم وأنت لم ترهم قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيول غرٌّ محجلة وسط خيول دهم بهم أفكان يعرفها قالوا نعم قال: فأنا أعرفهم غُرَّاً محجلين من آثار الوضوء ألا ليذادن رجال عن حوضي، أي ليطردن رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلم ألا هلم فيقال إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك وأقول فسحقاً فسحقاً فسحقا.


يا عباد الله ها أنتم ترون كيف أن القسم الأول من هذا الحديث مُفَرِّحٌ ومبشر وأن القسم الثاني منه مخيف ومنذر، القسم الأول منه هو العزاء لأمثالنا ممن آمن برسول الله وتشوق إليه وأحبه ولكن عينيه لم تكتحلا برؤيته، عزاؤنا هذا الذي يقوله رسول الله، عزاؤنا أن نسمع تشوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وإني لأرجو وآمل أن أكون وأن تكونوا جميعاً من إخوانه الذين أحبهم وحنَّ إليهم وتمنى لو رآهم، ذلك هو عزاؤنا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا بقوله الثابت إلى اليوم الذي نقف فيه بين يدي الله حيث يستقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن من أولئك الغر المحجلين كما وصف.


أما القسم الثاني المخيف والمنذر فهو قوله: ألا ليزادن رجال عن حوضي، ليطردن رجال عن حوضي، كما يزاد البعثر الضال فأقول ألا هلم ألا هلم فيقال إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك، لم يكونوا أمناء على شرعك، لم يكونوا صادقين في التمسك بهديك، بدلوا وغيروا، ضاقوا ذرعاً بالكثير مما شرع الله عز وجل وبلَّغْت، ملوا من بقائه واستمراره، رغبوا في التطور، رغبوا في أن يطوروا الكثير من الأحكام التي شرعها الله عز وجل حماية للأسرة، رغبوا أن يطوروا ويبدلوا الكثير والكثير من الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى حماية للاقتصاد السليم الصحيح المسعد لا المشقي، بدلوا، نظروا إلى العبادات فتبرموا بها، كانوا كما قال الله عز وجل فيهم: )فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً[ [مريم: 59]، هؤلاء الذين بدلوا وغيروا لأنهم تبرموا بالقديم ورغبوا بالتطوير والتبديل، هؤلاء يطردون غداً عن حوض رسول الله، وإن الظمأ ليأخذ بالحناجر والحلوق، وإن الشدة لتكاد تخنقهم، يرون بريق الماء العذب ولكنهم يُطردون عنه لأنهم طردوا أنفسهم إذ كانوا في دار الدنيا من صراط الله سبحانه وتعالى ومن معين شرعه، هؤلاء الذين يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويصف كيف أنهم يطردون من رحمة الله سبحانه وتعالى هم نقيض ذلك الرعيل الأول الذين كانوا أمناء على شرع الله بعد أن آمنوا بالله وآمنوا برسول الله وعلموا أن هذا الشرع لم يفتئته إنسان من عنده ولم يخترعه قانونيون من عند أنفسهم وإنما هو وحي تنـزل عليهم من علياء الربوبية، كانوا أمناء عليه، كانوا محافظين له، لم يبدلوا، أولئك الذين قال الله عنهم: )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ [الأحزاب: 23]. ما بدلوا أي تبديل في الشرع الذي جعلهم الله عز وجل أمناء عليه.


عباد الله: إن الحجة التي يرددها اليوم كثير من الناس تبريراً لإعمال اليد في تغيير وتبديل شرائع الله سبحانه وتعالى وأحكامه والعمل على شطب ما لا يُراد منه وتغيير ما قد اجتووه وتبرموا به، الحجة التي يرددونها هي أن العالم يتطور وأن المجتمعات الإنسانية لابد أن تتطور وسبيل التطور رهن بتغيير الشرائع، سبيل التطور رهن بتبديل الشرائع والأحكام، حتى لو كانت شرائع الله! نعم قالوا حتى ولو كانت شرائع الله، لكي نتطور إلى الأفضل ينبغي أن نطور هذه الشرائع التي تقادم عليها العهد، تلك هي حجتهم، ولكن تعالوا فانظروا إلى ذلك الرعيل الأول الذين كانوا أمناء على شرع الله لم يطوروا من ثوابته شيئاً ولم يغيروا من أحكامه الراسخة أي حكم من الأحكام، تأملوا كيف أكرمهم الله بالتطور العجيب العجيب نتيجةً لبقائهم ولعدم تبديلهم وتطويرهم شرع الله سبحانه وتعالى، كان العرب في صدر الإسلام يعيشون حياة بدائية، ثيابهم مُحيطة ولا يعلمون شيئاً منها مَخيطة، بيوتهم متداعية من اللَّبِنِ ونحوه، لا يعلمون شيئاً عن التجارة وفنونها، لا يعلمون شيئاً عن الصنائع نهائياً، ليست لديهم ثقافة ولا التفات إلى شيء من العلوم والحضارات، ولكن إلامَ آل حالهم خلال ربع قرن لا أكثر، خلال خمسة وعشرين عاماً، وما الذي جعلنا نرى هذه المعجزة في حياتهم، تطوروا تطوراً لم يتطوره المسلمون قبل أربعة قرون إلى يومنا هذا، أصبحوا يتقنون فن العمران والنقش والفنون التشكيلية بأنواعها، أصبحوا يمارسون التجارة وينافسون فيها الأعاجم وأباطرة الروم، أصبحوا يتقنون الصناعات بكل أنواعها، تحولت الصياغة إليهم وأصبحوا هم المهرة فيها، أصبحوا ماهرين في حوك الثياب ونسجها، تطوروا في صناعة الأطعمة والبر والقمح والحلويات المختلفة وما يمكن أن تتصوروه من أفانين الطعام وأطايبه، كل ذلك تم خلال ربع قرن، المدونات التي لم يكونوا يعلمونها ولم يكن قد رأوا شيئاً منها انتشرت في حياتهم، انتشرت في مجتمعاتهم علوم الطب، علوم الهندسة، الفلسفة، كل ذلك خلال ربع قرن، ولكن ليسن ها هنا محل الشاهد، محل الشاهد هل اقتضاهم ذلك أن يطوروا شيئاً من أحكام دينهم، هل اقتضاهم ذلك أن يطوروا شيئاً من شرائع الله التي كانوا أمناء عليها؟


لم يطوروا ولا حكماً من هذه الأحكام، كانوا حراساً لها، وكانوا أمناء عليها، فكانت نتيجة ثباتهم عند هذه الأحكام وحراستهم لها وعدم تبديلهم لها أن أكرمهم الله بهذا التطور العجيب العجيب، ونطقت الحكمة الربانية في أمثولة هذا النموذج من العرب تقول بمقدار ما يقول المسلمون أمناء على شرع الله محافظين على ثوابته ألا تتغير يطورهم الله سبحانه وتعالى من حالٍ إلى حالٍ إلى حالٍ فضلى، تعالوا ننظر إذاً إلى الصورة الأخرى، إلى الخلف الذي نعيش بين ظهرانيهم أو يعيشوا بين ظهرانينا، نلتفت يميناً وشمالاً فنجد المتبرمين بشرع الله الذين ملّوه واجتووه لأنه قد تقادم عليه العهد، تتسلل أصابع التغيير إلى أحكام الأسرة، تتسلل أصابع التغيير إلى أحكام الاقتصاد، تتسلل أصابع التغيير إلى الأحكام الدولية وعلاقة ما بين المسلمين وغيرهم بحجة الموقف من الآخر وارتضاء الآخر، تسربت الألسن والأصابع إلى العبادات لتغييرها وتبديلها، والوقت لا يتسع لتفصيل القول في ذلك.


حسناً، هل تحققت النتائج المرجوة من هذا التغيير؟ هل كان من آثار هذا التطوير والتغيير لشرع الله عز وجل وأحكامه الثابتة أننا تطورنا إلى الأفضل، أننا تقدمنا صعداً كما تقدم أسلافنا الرعيل الأول خلال خمسة وعشرين عاماً تقدماً معجزاً غريباً لم نستطع أن نتطوره خلال خمسة قرون، كانت نتيجة هذا الذي آثرناه من التلاعب والعبث بشرع الله عز وجل أن تطورنا ولكن إلى الخلف، أن تراجعنا، كنا أعزة، غابت العزة وظهر في مكان ذلك الذل، وها أنتم ترون مظاهر ذلك عن يمين وشمال خلال واقع جيران لنا قريبين أو بعيدين، كنا أغنياء، آل غنانا إلى فقر، كنا أقوياء، آلت قوتنا إلى ضعف، كنا نحن أساتذة العالم في العلوم وإذا بنا نتقمم فتات العلوم من أولئك الآخرين، لماذا؟ لأننا لم نكن أمناء على شرع الله سبحانه وتعالى، وتتأكد الحكمة التي قلتها لكم وليت أننا نغرسها حقيقة في عقولنا ثم نندفع إلى تطبيق مقتضاها، تقول هذه الحكمة: بمقدار ما تكون أميناً على شرع الله، لا تبدل، لا تغير، تكون حارساً عليه، يكرمك الله بحوافز التطور إلى الأمام، وبمقدار ما تحاول أن تعبث بدخائل هذا الدين وتغير وتبدل بدافع تبرمك بالقديم فإن الله سبحانه وتعالى يبعد عنك أسباب التطور ويصفد كيانك بالأغلال التي تجعلك تتراجع ثم تتراجع إلى الخلف وإلى الوراء.                                                         


عباد الله، مَثَلٌ تستطيعون أن تتبينوه مجسداً أمام أبصاركم وبصائركم فلتعلموه، رجل يملك عربة يتخذها أداة لرحلته وأسفاره إلى حيث يبتغي، بمقدار ما يكون أميناً على دخائل عربته هذه، محافظاً لمحركاتها، لا يمد يده إلى أكثر من الصيانة لها تبلغه هذه المركبة غاياته، والعكس صحيح، إذا مرت سنوات وسنوات ونظر الرجل إلى مظهر هذه العربة فتبرم منها، ملَّ قدمها وأخذ يعبث بدخائلها، أخذ يغير ويبدل منها لا على وجه الصيانة ولكن على وجه التبرم بهذه السيارة القديمة في مظهرها إلام يؤول حاله؟ ستعطب هذه السيارة وتجمد في مكانها وتبقي صاحبها متخلفاً في مكانه أيضاً، هذه حقيقة تتجسد في حياتنا المادية فلتكونوا على يقين أنها تتجسد فيما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين.


عباد الله أنا أعلم أن تشوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا الذي عبر عنه في الحديث الذي ذكرت آنفاً حرك مشاعر الاشتياق إليه، حرك مشاعر الحب له، حرك مشاعر الحنين إليه، وشيء طبيعي أن نبادله حباً بحب وتحناناً بتحنان ولكن أرجوا من نفسي ومن كل واحد منكم أن يتلمس مكان هذا الشعور المهتاج بين الجوانح فليوظفه في سبيل المحافظة على شرع الله، فليوظفه في سبيل حراسة دين الله عز وجل، إنْ في عباداته وصلواته وإن في أحكامه التي تتعلق بالأسرة وإن في أحكامه التي تتعلق بالاجتماع والاقتصاد وغير ذلك، ثوابت معروفة في دين الله عز وجل، إن كان هنالك شوق حقيقي يحرككم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتترجموا هذا الشوق يا عباد الله بسلوك، فلتترجموا هذا الشوق إلى الله وإلى رسول الله باصطلاح مع الله وببيعة جديدة تبايعون الله سبحانه وتعالى ومظهر هذه البيعة أن نعاهد الله على أن لا نبدل وأن نكون جهد الاستطاعة ممن قال الله عنهم: )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ [الأحزاب: 23]، كونوا من هؤلاء الرجال، واستعينوا بالله إن كنتم تشعرون بالعجز.

تحميل



تشغيل

صوتي