مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/03/2008

لعلهم يضرعون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قضى الله سبحانه وتعالى في سابق علمه وغيبه أن يخلق الإنسان ضعيفاً وأن يرحل إليه ضعيفاً على الرغم من التكريم الذي متعه به وعلى الرغم من أنه عز وجل قد سخر له معظم ما في السموات وما في الأرض، نحن جميعاً نقرأ قرار الله سبحانه وتعالى هذا في محكم تبيانه فهو القائل عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء:28] وهو القائل في محكم تبيانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾  [فاطر:16] وهو القائل:   ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد: 38]، وليس المراد بالفقر هنا الفقر المالي ولكن المراد بالفقر الاحتياج المطلق، خلق الله عز وجل الإنسان محتاجاً في كل ما يصبو إليه وفي كل ما يريد أن يحققه لنفسه إلى من يعينه، فما هي مظاهر هذا الضعف التي قضى بها الله سبحانه وتعالى في حق الإنسان وما الحكمة؟


من مظاهر الضعف أن الله عز وجل سلط عليه، إلى جانب العقل الهادي، رعونات النفس، أهواءها، شهواتها المتنوعة الكثيرة، ومن شأن ذلك أن يحاول الإنسان وقد هُدِيَ إلى الحق بعقله أن يتعامل مع الحق ولكن رعونات نفسه، أهواءه، شهواته كل ذلك يصده عن تنفيذ ما قد قرره له عقله، من مظاهر هذا الضعف الشيطان الذي قضى الله عز وجل أن يُسَلَّطَ على الإنسان يوسوس إليه في فكره ونفسه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس: ﴿إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم﴾ وصدق الله القائل: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً﴾ [فاطر: 6]، من مظاهر هذا الضعف الابتلاءات الكثيرة التي تحيط بالإنسان من حوله من قريب أو بعيد، وصدق الله عز وجل القائل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الانبياء: 35﴾ ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً﴾ [آل عمران: 186] ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155] هذه هي مظاهر الضعف الذي ابتلى الله سبحانه وتعالى به الإنسان.


وكأني يا عباد الله ببعضٍ منكم يقول: فيا رب حمَّلْتَنِي هذه التبعات من مظاهر الضعف وأنت ربِّيَ القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، كيف السبيل إلى أن أنفِّذَ أمرك وقد حمَّلْتَنِي كل هذه التبعات من الضعف؟ أنى لي أن أتحرر من هذه القيود التي ابتليتُ بها لأنفذ أمرك الصارم ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾؟ لكأن فيكم من يسأل هذا السؤال يا عباد الله ولكن الجواب سرعان ما يأتيه من لدن الإله الذي قضى بهذا الضعف في حق الإنسان، يأتي الجواب من لدن رب العزة قائلاً: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذريات: 50]، يأتي الجواب من لدن رب العزة سبحانه وتعالى قائلاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ [لأعراف:94]، يأتي الجواب من لدن رب العزة قائلاً: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43].


هذه هي الحكمة يا عباد الله من أن الله ابتلى الإنسان بهذا الضعف، جعله محتاجاً إلى من يعينه، ركَّبَ فيه العوامل الكثيرة التي تقصيه عن انقياده للعقل المبصر من أجل أن يقف أمام مرآة ذاته فيعلم أنه عبد مملوك ليس حراً يملك زمام أمره بيده، إنه مملوك لمن خلقه فسواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبه، إنه العبد الذي لا يأتى منه شيء، وما هي وظيفة العبد يا عباد الله؟ وظيفة العبد أن يرحل إلى الله، وظيفة العبد عندما يجد هذه الأثقال التي تراكمت عليه، مظاهر هذا الضعف، يتجه إلى الله منقاداً لأمره ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذريات: 50]، يلتجئ إلى الله، يتجلبب بجلباب الانكسار والعبودية لله سبحانه وتعالى وعندئذٍ يكون قد حقق معنى العبودية في ذاته، وبهذا العمل يصل الإنسان إلى الله، ومن أجل هذا ميَّزَ الله الإنسان حتى عن الملائكة، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذريات:50].


أجل إن الله عز وجل ركَّبَ بين جوانحي نفساً أمارةً بالسوء، غرس في نفسي رعونات متنوعة كثيرة ولكن ما أيسر أن أتخلص منها إن أنا وقفت أمام باب الله ملتجئاً متضرعاً متذللاً أقول له: أي رب حرِّرْني من هذه التبعات، أريد أن أطيعك ولكن لا قبل لي بذلك إن لم توفقْنِي لطاعتك، يبتليني الله عز وجل بالمصائب المتنوعة، يسلط عليَّ الأعداء من هنا وهناك ويأمرني الله أن أتخذ الأسباب ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [لأنفال: 60] نعم، ولكنه يأمرني قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك أن ألجأ إلى الله، أن أتضرع إلى الله، أن أتبتل على باب الله، ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [لأنفال:9]، إذ أداة تعليل ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾، تلك هي الحكمة يا عباد الله من أن الله عز وجل قضى في سابق علمه وغيبه أن يبتليَ الإنسان بألوان من الضعف تتجلى من فرقه إلى قدمه ليسوقه ذلك إلى مرآة الذات فيقف أمام مرآة ذاته يتعرف على هويته، هو عبد مملوك لله عز وجل ومن ثم يلجأ إلى الله لكي يحرره من آصار هذا الضعف، ولا يمكن أن يلتجئ إلى الله بصدق ويستمر على هذه الحال إلا ويأتيه نداء الله قائلاً لبيك، إن لم يسمعها بأذنه يسمعها باستجابة الله سبحانه وتعالى لتضرعه ودعائه.


عباد الله، مصائبنا كثيرة والابتلاءات التي ابتلى الله عز وجل بها المسلمين كثيرة جداً فكيف نتحرر من هذه المصائب؟ كيف السبيل إلى أن نتغلب عليها؟ أمرَنَا الله عز وجل أن نُسَخِّرَ الأسباب التي سخرها لنا، ما سخرها لنا إلى لنستعملها، لكنها كالجسد الذي إن فرَغَ منه الروح لم يتأتى منه شيء، الذي ينصر الأمة التجاؤها إلى الله، الذي يحقق للأمة القوة والعزة تضرعها على باب الله سبحانه وتعالى، الذي يحررها من كل مظاهر الضعف أن يرحل بهويته إلى باب الله عز وجل ويدعوَهُ منكسراً، ما من أمةٍ استعملت هذا المفتاح إلا وارتقت من خلال مدارج الرقي إلى أعلى سدة القوة والعزة والنصر والوحد.


عباد الله، أضعكم أمام هذا المشهد الذي يرويه الحافظ ابن كثير عن عقبة بن نافع رضي الله عنه، مضى بثلة من أصحابه دعاةً إلى الله إلى شمال أفريقية، ولما وصل إلى الأرض التي بُنِيَتْ عليها مدينة القيروان نظر فوجد أنها مجموعة سباخ، مجموعة غابات حُشِيَتْ بأنواع من السباع الضارية، ووجد أن ذلك المكان هو المكان الاستراتيجي الذي ينبغي أن تشاد عليه مدينة وتكون منطلقاً للدعوة إلى الله والتعريف بدين الله فماذا فعل عقبة؟ جمع البقية الباقية من أصحاب رسول الله الذين كانوا معه وكانوا خمسة عشر رجلا وأخذوا يتضرعون إلى الله من الصباح إلى المساء أن يطهر هذه الأرض من السباع الضارية والحيايا والعقارب وما إلى ذلك ووقف عقبة يخاطب هذه السباع قائلاً: أيتها السباع لقد جئنا لنؤدي رسالة الله سبحانه وتعالى ولنحملها إلى عباد الله عز وجل فهلا يسرتم لنا سبيلاً إلى ذلك وانتقلتم من هذه البقعة إلى حيث تشاؤوا؟ وفي الصباح من اليوم الثاني فوجئ الناس بهذه السباع وهي تحمل صغارها ترحل عن هذا المكان بعيداً بعيداً، مشهد من عشرات المشاهد يا عباد الله يوضح لنا أن بين الضعف الذي ابتلى الله به الإنسان وبين القوة العظمى التي تنتظره شيءٌ واحد؛ صدق الالتجاء إلى الله عز وجل، وإذا قلنا صدق الالتجاء فينبغي أن يكون هذا الالتجاء عاماً يشمل كل من وقف أمام مرآة ذاته فعرف أنه عبد، لا يعلو قوم عن قوم ولا تعلو فئة عن فئة في ذلك، الكل ينبغي أن يتضرعوا إلى الله.


عباد الله، في أحكام الشريعة الإسلامية قالوا إن الوكالة تجوز في العقود المختلفة المتنوعة توكل من تشاء في عقد من العقود الرضائية ولكن هل يجوز أن أوكل زيداً من الناس بالالتجاء إلى الله عني؟ هل يجوز أو أوكل شخصاً صديقاً مثلي أو فوقي أو دوني أقول له اذهب فالتجئ عني إلى الله سبحانه وتعالى ليكشف عنا السوء؟ لا يا عباد الله، الالتجاء إلى الله ثمرة هوية وكل من كان يتمتع بهوية العبودية لله عز وجل ينبغي أن تتجلى أصداء هذه العبودية في كيانه تضرعاً، التجاءً إلى الله عز وجل، لو كان في الناس من كان قد استثني من هذا العموم الشامل لكان رسول الله أولى الناس بالاستثناء، إنه الإنسان المعصوم، إنه النبي المحبوب إلى مولاه وخالقه، ومع ذلك فقد كان سيد المتضرعين، كان سيد المستغيثين، عباد الله الأعداء كثر والابتلاءات كثيرة ولكن بيننا وبين الانتصار على أنفسنا وعلى الأعداء الذين هم من حولنا من قريب أو بعيد شيءٌ واحد، صدق الالتجاء إلى الله والانقياد لأمره القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذريات:50].


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي