مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/02/2008

العرب..... لا يبقي ملكهم إلا تمسكٌ بالدين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن كتاب الله عز وجل يفيض بالقوانين والسنن التي يعامل الله عز وجل بها عباده جميعاً في هذه الحياة الدنيا، ومن أهم هذه القوانين والسنن سنتان اثنتان ينبغي لكل منهما ولاسيما في هذا العصر أن نتبينَّهما، وأن نكثر التأمل فيهما فإن في معرفتهما حلاً لكثير من المشكلات وإجابة عن كثير من التساؤلات.   


أما القانون الأول فهو ذلك الذي يقضي بأن أي أمة من الأمم إذا نشطت سعياً وراء غاية وبذلت الجهد الذي ينبغي أن تبذله في الوصول إليها وأفرزت في سبيل ذلك الجهد والعرق فإن الله عز وجل قضى بأن يوصل هذه الأمة إلى غايتها وأن يحقق لها هذا الهدف الذي تَعِبَت في سبيل وصولها إليه، مؤمنة كانت أو غير مؤمنة، مستقيمة كانت أو منحرفة، هذا القانون نقرؤه في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، من ذلك قوله سبحانه: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[  [هود: 15] أي نحقق لهم ثمرات جهودهم في هذه الحياة الدنيا ولا يمكن أن نظلمهم باحتجابهم عن الغاية التي يهدفون إليها، ومن ذلك قوله سبحانه: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً[ [الاسراء: 18] إلى أن قال: )كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[ [الاسراء: 20]    


القانون الثاني في كتاب الله عز وجل هو ذلك الذي ينطق بأن أي أمة أصغت إلى بيان الله عز وجل الذي يخاطب الباري عز وجل من خلاله عباده واصبطغت بصبغة العبودية الحقيقية لله ونفذت الوصايا التي أمرها الله عز وجل بها عن طواعية وإخلاص فإن الله عز وجل قضى بأن يقفز بها إلى مستوى باسق من الحضارة والدراية والعلوم والقوة والتماسك والتعاضد والوحدة قفزاً فوق السبل والوسائل التي تتعب في سبيلها الأمم الأخرى، نقرأ في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: )مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[ [النحل: 97] ونقرأ في ذلك قوله أيضاً سبحانه وتعالى: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً[ [النور: 55]    


هما قانونان يا عباد الله تأملوا فيهما جيداً، ينطبق القانون الأول على أمثلة كثيرة من الأمم والناس، من أبرز هذه الأمم المجتمعات الغربية اليوم، إنها تتمتع بميراث ورثته من آبائها وأجدادها، ميراث حضاري تعبت في سبيل الوصول إليه، كم أقامت في سبيل ذلك السبيل الحضاري مؤسسات وجامعات، وكم سارت في سبيل ذلك عبر خطط متنوعة مختلفة كان لا بد أن يمتعها الله عز وجل بالغاية التي سعت إليها وكان لا بد لهؤلاء أن يرثوا ذلك الميراث حقاً لهم.   


وينطبق القانون الثاني على كثيرٍ أيضاً من الأمم والجماعات، من أبرز هذه الأمثلة الأمة العربية التي كانت قبل أن يشرفها الله عز وجل بالإسلام مضرب المثل للتخلف ومضرب المثل للجهالة ومضرب المثل للضعف والفرقة فلما اصطبغت بحقيقة العبودية لله وأصغت السمع جيداً إلى بيان الله وألزمت نفسها بتنفيذ ما أمر والابتعاد عما نهى قفز بها قضاء الله سبحانه وتعالى دون جهد مما قد بذلته الأمم الأخرى إلى مستوى باسق من الحضارة والعلم بعد الجهل والتخلف، إلى مستوى باسق من القوة بعد الضعف، إلى مستوى باسق من التعاضد والوحدة بعد الفرقة والشتات خلال خمسةٍ وعشرين عاماً، خلال ربع قرن، لم يكلفها الله عز وجل أن تتعب في سبيل هذا الهدف وأن تسلك السبل الطويلة التي سلكتها تلك الأمم الأخرى     هذا هو مصداق القانون الثاني وذلك هو مصداق القانون الأول يا عباد الله، ما الفائدة التي ينبغي أن نجنيها من معرفة هاتين السُّنتين من سنن الله التي نقرؤها في محكم تبيانه يا عباد الله؟ الفائدة الأولى أن علينا ألا نستشكل إذا رأينا الغرب يتمتع بحضارة، يتمتع بعلوم، يتمتع بقوة، لا يقولن قائل هؤلاء كفرة كيف يمتعهم الله بما لم نتمتع به نحن؟ عندما نعلم القانون الأول الذي ذكرته لكم يذوب هذا الإشكال ونعرف الجواب عنه، هذا هو عدل الله في الأرض، )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[ [هود: 15]  لكنه قال بعد ذلك: )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [هود: 16]، إذاً لا إشكال في هذا الأمر وما ينبغي أن نقف عند هذه الظاهرة بشيء من التساؤل    


الفائدة الثانية هي أن نعلم أن هذه الأمة العربية التي كان السُّلَّم الذي رقى بها إلى سدة الحضارة المتمثلة في العلوم، في التقنيات، في القوة، في التماسك، عندما نعلم أن هذا السلم إنما كان سلم الإسلام صعد بهم قفزاً فوق السبل التقليدية المادية الأخرى ينبغي أن نعلم تتمة هذا القانون، تتمة هذا القانون أيها الإخوة هي أن هذه الأمة العربية طالما كانت وفية لهذا السلم الذي رقى بها صُعُدَاً، طالما كانت على العهد، طالما كانت لا تزال مصطبغة بذل العبودية لله على شتى المستويات فإن قوتها تظل في إقبال دون إدبار وإن المعنى الحضاري الذي تتمتع به يظل في ازدهار، ولكن فلنعلم أنها إذا تبرمت بهذا السُّلَّم الذي رقى بها صعداً، إذا تبرمت بالإسلام والدين، وإذا تمزقت هويتها التي كانت سرَّ انبعاثها وقوتها، إذا تمزقت بين تيارات العولمة والحداثة والعلمانية والتجديد وما إلى ذلك فلنعلم أن مآل هذه الأمة أن تعود إلى ما كانت عليه، إن كان لها ميراث حضاري بذلت في سبيله عرقاً تعود إلى ميراثها الحضاري كالغرب، وأما إذا لم يكن لها من هذا الميراث إلا ما ألزم الله عز وجل به ذاته العلية اتجاهها، إلا هذا القانون الذي قضى به ربنا في حقها فلتعلم إذاً أنها لا بد أن ترجع إلى الحال التي كانت عليها    


هذه الحقيقة ينبغي أن نتبينها يا عباد الله، اقرؤوها في كتاب الله، اقرؤوا خطاب الله لأمم تشبه هذه الأمة العربية التي تبرمت بهذا السلم الذي رقى بها إلى هذا الأوج الحضاري عندما يقول: )لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ[ [الانبياء: 13] ارجعوا إلى ما كنتم عليه، تنكرتم للفضل الإلهي الذي قفز بكم دون حاجة إلى جهد، تنكرتم لذلك إذاً ارجعوا إلى رأسمالكم السابق.    


عباد الله كم وكم تفاعل مع هذه الحقيقة الربانية أصحاب رسول الله وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب يوم قال لأبي عبيدة يوم أقبل إلى الشام واستقبله رؤساء وأباطرة الشام همس في أذنه أن لو أقبل بثوب غير هذا الثوب وبمظهر أكثر مناسبة من مظهره قال له: أوه يا أبا عبيدة لو غيرك قالها نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله، لم نتعب كهؤلاء، لم نتعب كأصحاب الإمبراطورية الرومانية، اليونانية، الفارسية، لم نبذل عرقاً، سما بنا الله إلى هذا الشأو العالي، أنتنكر لذلك بعد أن انتشينا، بعد أن طافت برؤوسنا النشوة لهذا الذي أكرمنا الله به، وابن خلدون اقرأوا مقدمته، اقرأوا عنوان ذلك الفصل الذي جعله هكذا؛ فصلٌ في أن العرب لا يبقي ملكهم إلا تمسكٌ بالدين لأنهم بهذا الدين امتلكوا، بهذا الدين نسجوا نسيج الحضارة يا عباد الله.    


أنا أضرب أخيراً المثل لمن يتبرم بالتخلف الذي يعاني منه العرب المسلمون اليوم ولمن يضيق ذرعاً بالألق الحضاري الذي يراه في الغرب أقول: أرأيت لو أن رجلاً كريماً شهماً غنياً رأى أسرة فقيرة قد ألقاها الفقر والعوز في الشارع فرق لها ورحمها، نقل هذه الأسرة إلى دارٍ منيفة بازخة وأجرى على أفرادها جراية من المال كافية وأكرمها وأبقى إكرامه مستمراً لها، لما رأت هذه الأسرة كيف أن الواقع قد قفز بها من منتهى العوز إلى أعلى درجات الغنى والشبع والقوة والأمن والطمأنينة طافت النشوة برأسها وبعد قليل نسيت الفضل الذي امتدت يد هذا الإنسان به إليها فأخذت تتنكر له بل أخذت تتسامى عليه، ما الذي يحدث فيما يقرره عقل الإنسان؟


لا بد أن يأتي هذا الرجل يطرق باب هذه الأسرة وأن يقول لها يبدو أنكم أصبحتم اليوم بغير حاجةٍ إلي ويبدو أن غناكم قد سما بكم صعداً فأصبحتم غير محتاجين إلى واحدٍ مثلي إذاً تفضلوا واخرجوا من هذه الدار وعودوا إلى ممتلكاتكم التي تتمتعون بها وتعتزون بها، ربما قال رب هذه الأسرة ولماذا لا تُخْرِجْ أصحاب البيوت الأخرى الذين يتمتعون مثلنا بدورهم؟ يقول له في الجواب: أولئك هم الذين بنوا دورهم، هم الذين تعبوا وكدُّوا في سبيل أمنهم وطمأنينتهم أما أنتم فقد فتحتم أعينكم وأنتم في غاية العوز على وجودكم وأنتم في أعلى درجات القوة )لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ[ [الانبياء: 13]


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي