مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/02/2008

قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن قوى الشر في العالم لا تزال- كما تعلمون-ماضيةً في احتلال الأرض والأوطان؛ واغتصاب الحقوق والممتلكات؛ والاستخفاف بحياة الأبرياء المظلومين الضعفاء؛ والعمل الدائب على إثارة الخصام بين الأشقاء.


وإن قُوى الشر هذه لتتخذ، وهي ماضية في هذا السبيل، لتتخذ من كلمات السلام والهتاف بها والدعوة إليها مخدراً يخدع العقول عن الهدف المرسوم ويُغَيِّب الألباب عن الكمين المرصود؛ في حين أن السلام الحقيقي هو مهوى قلوب الأسرة الإنسانية جمعاء.


فما هو العاصم من هذا الخداع؟ وما هو السبيل للتحرر من هذا الكمين الذي يُرَادُ لنا من خلال الهتاف بهذه الكلمة القدسية المتألقة؛ كلمة السلام؟ العاصم- يا عباد الله- هو ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم  عندما سأله علي رضي الله عنه، وقد حدثه عن الفتن التي ستستشري من بعد، قال له: )ما العاصم منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ مَنْ قبلكم، وخبر ما بعدكم، وهو الحُكم فيما بينكم. . . [ إلى آخر ما ذكره المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلنعد إلى كتاب الله عز وجل لنجد فيه السبيل الذي يحررنا من وطأة هذا الخداع؛ والذي يجعلنا نتبصر مواطئ أقدامنا ونحن نسير فعلاً إلى حقيقة السلام، بل ونحن ندعو العالم كله إلى السلام.


عباد الله: ربنا سبحانه وتعالى دعا الأسرة الإنسانية كلها، من خلال خطابه للمؤمنين، إلى السلام العام الشامل فقال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[ [البقرة: 208]، ولكنه لفت النظر إلى الطريق المؤدي إلى السلام. دعا إلى السلام ثم إنه لفت إلى الطريق المؤدي إلى السلام وركز على ذلك أيـَّما تركيز؛ وتفنن البيان الإلهي في ذلك فقال أولاً؛ وكأنه يجيب عبادَهُ عن سؤال يقفز إلى أذهانهم قائلاً: فكيف السبيل إلى أن نتفياً ظلال السلام؟ قال الله عز وجل مجيباً: )قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[ [المائدة: 16] ما هو الطريق بل ما هو النور الذي ذكره بيان الله عز وجل الذي إن اتبعناه أوصَلَنَا إلى واحة السلام؟ هو العدل يا عباد الله.


ولذلك فقد فَسَّرَ البيان الإلهي هذا الكلام الرباني عندما قال: )قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[ [المائدة: 16]. فَسَّرَ هذا النور: بالعدل؛ وركز البيان الإلهي على العدل أيما تركيز، وتفنن البيان الإلهي وصَرَّف في الحديث عن العدل والدعوة إليه؛ قال جلَّ جلاله: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه[ [النساء: 58].    


ثم عاد فقال: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر[ [النحل: 90] ثم أكد هذا فقال عز من قائل: )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا[ [المائدة: 8] أي؛ لا يحملنكم بغضكم لأعداء لكم على ألا تعدلوا )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ [المائدة: 8].


وقال جلَّ جلاله: )وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ[ [الرحمن: 7] والميزان هو: العدل يا عباد الله. وانظروا كيف كرر الدعوة إلى هذه الكلمة وبيَّن قدسيتها من خلال هذا الإطار الفني الذي خاطبَنَا به: )وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[ [الرحمن: 9]؛ وكأن الله عز وجل يقول لنا منبهاً أن لا نُخْدَع بمن يحاولون أن يجعلوا من كلمة (السلام) جرعات مخدرة بين يدي عملياتهم الإجرامية والانتقامية؛ وهو يخاطبهم هم أيضاً في الوقت ذاته قائلاً: إن مَن كان متمسكاً بالسلام حقاً وداعياً إليه حقاً ينبغي أن يتلمس الطريق إليه؛ ينبغي أن يسلك السبيل الموصل إليه، وما ينبغي أن يتخيل أن بوسعه أن يقفز إلى السلام قفزاً فوق حطام المظلومين؛ وفوق أعمال الفساد المستشرية في جنبات الأرض.


بيان الله سبحانه وتعالى يخاطبنا ويخاطب الآخرين جميعاً وكأنه: يقول لئن كان السلام حقيقة تكمن في بُرج باسق؛ فإن السُّلَّمَ الذي يرقى إليه إنما هو العدل، ولئن كان السلام واحةً خضراء ممرعة تزدان بأنواع النعيم؛ فإن البوابة الموصلة إلى هذه الواحة إنما هو العدل، ولئن كان السلام كنـزاً مخبوءاً في صندوق مقفل؛ فإن مفتاح هذا الصندوق إنما هو العدل، هكذا يعلمنا الله سبحانه وتعالى.


وعودوا إلى كتاب الله عز وجل_ يا عباد الله _كما أمر رسول الله وأوصى؛ تجدون شيئاً عجباً في باب العدل هذا الذي هو السبيل الأوحد إلى السلام الحقيقي الذي هو مهوى قلوب الناس جميعاً. هنالك عدل خاطب به الإنسانَ الفرد ربُّنَا سبحانه وتعالى؛ هو عدل الإنسان مع نفسه. وهنالك عدل آخر خاطب الله سبحانه وتعالى به الأسرة؛ هو عدل أفراد الأسرة بعضها تجاه بعض. وهنالك عدلٌ ثالث ذو دائرة أوسع وأشمل؛ إنه عدل الأسرة الإنسانية جمعاء.


عندما يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان الفرد وينهاه عن أن يظلم نفسه فمعنى ذلك؛ أنه يدعوه إلى أن يكون عادلاً مع ذاته؛ لأنه إن عدل مع نفسه ابتعد عن التعرض للظلم وأسبابه، ولكنه إن جنح عن طريق العدل لابد أن يقع في الظلم ويكونُ هو الذي ظلم نفسه. انظروا إلى قوله عز وجل )سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ[ [لأعراف: 177]؛ )الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ[ [النحل: 28].


هذا البيان الإلهي المكرور ينبه الفرد إلى أنه أمام طريقين لا ثالث لهما؛ إما طريق العدل؛ أن يعدل مع نفسه. كيف يعدل الإنسان مع نفسه؟ بأن يؤمن بالحق ويتبعه، وأن يبتعد عن الباطل ولا يغامر في السلوك إليه عبر السبل المتعرجة؛ إذن فقد عدل مع نفسه وعندئذٍ يبتعد عن الوقوع في الظلم. أما إن أعرض عن هذه الوصية فلا شك أنه يكون قد حكم على نفسه بالظلم )وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[ [النحل: 118]؛ أي لأنفسهم. هذا هو المستوى الأول الأدق من مستويات العدل. المستوى الذي يليه: العدل بالنسبة للأسرة؛ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا[ [النساء: 135].


هذا خطاب الله عز وجل إن يخاطب أفراد الأسرة ويطلب منهم أن يكونوا عادلين؛ كلٌّ في حق نفسه وحق صاحبه. يلي ذلك؛ العدل الشامل العام الذي يخاطب الله سبحانه وتعالى به الأسرة الإنسانية: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ[ [النساء: 58].


فيا عباد الله: عالمنا اليوم يفور بأمرين اثنين متناقضين-وسبحان من يجمع المتناقضات في هذا العصر- ظلم ينحط على الضعفاء أشكالاً وألواناً، ولا داعي أن أشرح لكم مظاهر هذا الظلم الذي يُقَطِّعُ الأكباد، وفي الوقت نفسه؛ هتاف بكلمات السلام، ودعوة إلى السلام، وعبارات تنبئ أن هؤلاء الذي يظلمون ويبغون في الأرض ويسعون في الأرض فساداً إنما هم عشاق السلام.


ألا ترون إلى هذه الظاهرة؟ إنها سبيل يُبْتَغى منه خداعنا نحن المستضعفون في الأرض. فلا تخدعنكم هذه الكلمات البراقة؛ وقفوا أمام كلام الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين العجيبتين؛ إذ يقول في الآية الأولى منهما: )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[ [لأنفال: 61]؛ )وَإِنْ جَنَحُوا[ متى يجنح عدوك للسَّلْم؟ عندما تكون في مستوى من القوة راسخ، وعندما يكون قرارك بيدك. في هذه الحالة إن دعا عدوك إلى السَّلْم؛ إن جنحوا إلى السلم فاجنح لها وتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين. ولكنه عاد فقال في الآية الأخرى: )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ[ [آل عمران: 139]؛ هو السَّلْم الذي نُدْعى إليه عندما نكون ضعفاء، عندما يكون القرار بأيدي أولئك الآخرين دعاة الشر، عندما تكون القيادة بأيديهم، إنه ليس سِلماً في الواقع؛ وإنما هو استسلام مَهِين.


فيا عجباً لبيان الله سبحانه وتعالى الدقيق الحكيم؛ عندما تكونون أقوياء، وعندما يكون السِّلْم حقيقياً وتضعون خطه ومنهجه طبقاً للقيم الإنسانية الراشدة فهذا هو المطلوب: )وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا[. ولكن إذا كان الذين يدعونكم إلى السِّلْم يدعونكم إليه بألسنتهم وينحطون في مجتمعاتكم ظلماً بأعمالهم ووقائعهم؛ فإياكم وهذا السلم فإنما هو مكيدة يريدون أن يتصيدوا حقوقكم من خلالها.


أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن ينقادوا لوصية رسول الله عندما حَدَّثَ عن الفتن التي ستستشري من بعده وسُئِلَ عن العلاج والعاصم فقال: )العاصم هو كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وفيه الحكم لما بينكم[. أسألك اللهم أن توفقنا للعودة إلى كتابك وللتمسك به ولتنفيذ أوامره والابتعاد عن نواهيه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي