مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/02/2008

الفرح الممدوح... والفرح المذموم

خطبة الجمعة في جامع بني أمية الكبير بدمشق 


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يقول الله عز وجل في محكم تبيانه: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الانبياء: 35]، ففي الناس من يتصورون أن الكون فيه مادة خير لن تتحول إلى نقيضها، وفيه مادة شر لا تتحول إلى خير، وأن الله سبحانه وتعالى يستخدم مادة الخير لمن أحب من عباده إنعاماً وإكراماً، ويستخدم مادة الشر لمن أبغض من عباده انتقاماً وتعذيباً، والأمر ليس كذلك يا عباد الله.


فإن الكون كله جند لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يجعل ما يشاء من مكوناته خيراً يسخره لما أحب، ويجعل من مكوناته، مما شاء من مكوناته، شراً يستخدمه أيضاً لما يحب، ولربما بدل الله سبحانه وتعالى الوظائف فجعل مادة الخير أداةً للشر وجعل أداة الشر مادةً للخير، هذه حقيقة علمية اعتقادية يجب أولاً أن نتبينها جميعاً.


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا سمع زمجرة الهواء دعا الله عز وجل قائلاً: ﴿اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً﴾  أي: اللهم اجعلها رياحاً منعشة مُسْعِدة ولا تجعلها ريحاً مُهْلِكة مدمرة، والهواء هو الهواء، وكان المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا وجد المطر يهمي من السماء أقبل إلى الله عز وجل بضراعة العبد الواجف يقول: ﴿اللهم اجعلها سقيا رحمة ولا تجعلها سقيا عذاب﴾، والمطر هو هو لا يختلف ولا يتبدل، ولقد أنحى البيان الإلهي باللائمة على أناسٍ حبسوا أنظارهم، بل بصائرهم أيضاً، في مظاهر المكونات، فلما رأوا ما يخيفهم تصوروا أن الخوف إنما هو محبوس في داخل ذلك الشيء وأنه بطبعه يورث الخوف ويسبب الهلاك، وإذا رأوا ما يتجلى فيه دلائل البِشْر استبشروا وظنوا أنه يحمل بطبعه دِلالة الخير والبشرى، فقال البيان الإلهي مستنكراً ذلك: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً، أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً، أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ [الاسراء:67/69].


تأملوا يا عباد الله في هذا الذي يخاطبنا به بيان الله عز وجل، كأنه يقول: ويحكم ليست البشرى إلا ما يهبط إليكم من لدن خالق هذا الكون كله،وليس العذاب إلا ما قد يأتي أيضاً من خالق هذا الكون كله، أما البحار، أما البر والأرض، أما الهواء والرياح، فكل ذلك جنود مجندة لله سبحانه وتعالى، إن شاء وجهها بالخير إلى من شاء من عباده وإن شاء وجهها بالشر والدمار إلى من شاء أيضاً من عباده، وانظروا إلى هذا المعنى كيف يتجلى في الآية الأخرى: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً﴾ [الاسراء: 68].


هذه الأرض التي جعلها الله سبحانه وتعالى تحت أقدامنا مهداً وجعلها ذخراً لكثير من الخيرات الباطنة والظاهرة- وكم امتن الله عز وجل على عباده بنعمة هذه الأرض- ومع ذلك فإن الخير الذي يكمن في هذه الأرض ليس نابعاً من طبعها وإنما هو آتٍ من فضل الله سبحانه وتعالى، فمن سار في جنبات الأرض آمناً مطمئناً وهو يضرب بقدميه الأرض ويرفع هامته إلى السماء مستكبراً فقد أبعد النجعة وجهل ما ينبغي أن يعلمه كل عاقل، الأرض جند من جنود الله يحيلها إذا شاء نعمة، ويجعل منها إذا شاء نقمة، والهواء جند من جنود الله سبحانه وتعالى يجعلها إن شاء رياحاً منعشة، ويجعلها إن شاء ريحاً مزمجرة مهلكة، نعم.


وانظروا في هذا إلى بيان الله عز وجل القائل: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت: 40]، كلها أدوات الكون، كلها أدوات ما يسميه البعض بالطبيعة، قضى الله سبحانه وتعالى أن يكون هلاك من شاء إهلاكهم بمادة هي ذاتها- عندما يشاء الله- سبب الحياة وسبب النعيم، الأصوات التي نسمعها- ما أكثر ما تكون مصدر خير، بل مصدر طرب- ها هو عز وجل ينبئنا كيف جعل الله عز وجل من الصوت صيحة مهلكة، والأمطار التي نرى قطراتها تهمي من السماء مستبشرين، ها هو ذا ربنا عز وجل ينبئنا كيف جعل من هذه المادة الخيِّرة- أداة الاستبشار عند الإنسان- سبباً للهلاك والإغراق، وكذلكم البرق، ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [الرعد: 12]، جلَّ ربنا القائل هذا الكلام، وكم نحن بحاجة إلى أن نستوعب هذا البيان الرباني: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [الرعد: 12]، نرى لمعان البرق ثم نسمع أزيز الرعد من بعده، ترى ماذا تحمل هذه الظاهرة؟ لعلها تحمل بشارة خير؟ قد يكون ذلك، ولعلها تحمل نذير سوء؟ قد يكون ذلك، كيف السبيل إلى أن نوجهها إلى الخير ونبعدها عن الشر؟ اللجوء إلى الله.


يا عباد الله أقول لكم هذا الكلام الذي نتبينه جميعاً في كتاب الله عز وجل من أجل أن أصل بنفسي وبكم إلى نتيجة بالغة الأهمية، ألا وهي ألا نفرح بالظاهرة الكونية التي نستبشر بمرآها وإقبالها إلينا، وإنما نفرح بفضل الله سبحانه وتعالى، بالأمس أكرمنا الله سبحانه وتعالى بالأمطار السخية وبالثلوج الوفيرة، ترى بماذا يفرح العبد الذي عرف مولاه وخالقه؟ أيفرح بهذه الظاهرة التي قد تكون مظهر خير وقد تكون مظهر شر، أم بمن أرسل هذا المظهر بل أرسل رسالة الحب هذه؟ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾  [يونس: 58]، نحن عبيد مملوكون لله عز وجل، بسطنا أكف الضراعة إلى الله، استسقيناه فسقانا، استنـزلنا كرمه وجوده فأكرمنا وجاد علينا.


ما ينبغي- يا عباد الله -أن نُحْجَبَ بالنعمة عن المنعم، ما ينبغي أن تكون فرحتنا بالأمطار التي هطلت، بل ينبغي أن تكون فرحتنا بالكريم الذي أكرمنا، بالإله الرحمن الذي تفضل علينا، ينبغي أن تكون فرحتنا بما نعتبره دليلاً- ونرجو ألا نكون مخطئين فيه- ألا وهو محبة الله عز وجل لعباده الذين أغدق عليهم من رزقه وأكرمهم من عطائه، فإذا علمنا أن هذا الذي أكرمنا الله عز وجل به إنما هو رسالة حب من الله، أو تحبب من الله سبحانه وتعالى إلينا، فإن الفرحة عندئذٍ تكون عبادةً من أجلِّ العبادات: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58]، هذه الفرحة تسوقنا إلى مزيد من العبودية لله وترقى بنا إلى شأوٍ عالٍ من محبة الله سبحانه وتعالى،ولكن إذا رقصت أفئدتنا فرحاً بمظهر النعمة، إذا رقصت نفوسنا فرحاً بالأمطار السخية وبالثلوج المنهمرة،فإن ذلك هو الفرح الذي نهانا الله عز وجل عنه، ألم تسمعوا قوله على لسان ذلك الرجل الصالح الذي كان ينصح قارونا: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]؟، هل في القرآن تناقض، مرة ينهانا عن الفرح ومرة يأمرنا بالفرح؟!


لا يا عباد الله، ليس في القرآن أي تناقض، أما الفرح المذموم، الذي كان يطوف برأس قارون وأمثاله ممن عاشوا في غابر الأزمان وممن لهم أندادٌ في هذا العصر، أما الفرح المذموم، فهو فرح الإنسان بالنعمة مفصولة عن المنعم الذي تكَّرم الله سبحانه وتعالى بها علينا، إنها فرحة تبعث على الطغيان، فرحة تبعث على الاستكبار، أما الفرحة التي أمرنا الله عز وجل بها إذ قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].


إنها فرحة ترقى بالإنسان إلى صعيد العبودية الراضية لله عز وجل، إنها فرحة تملأ القلب حباً لله سبحانه وتعالى، والإنسان بم يرقى إلى الله؟ بم يرتفع إلى مرضاة الله؟ بجناحين اثنين، هما جناح العبودية الذليلة المتطامنة لله، وجناح الحب لله سبحانه وتعالى، فإذا شعرت بذل عبوديتك وبأنك بين طرفي الخوف والرجاء، تدعو الله عز وجل خوفاً وطمعاً، وإذا فاض قلبك حباً لله عز وجل فاهنأ بأنك قد وضعت نفسك في الطريق الموصل القريب إلى الله سبحانه وتعالى، ومهما زَلَّتْ القدم بك، ومهما تغلبت رعونات النفس عليك فإن لك في هذين الجناحين ما يوصلك إلى الله عز وجل وما يغفر لك ذنبك.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين. 

تحميل



تشغيل

صوتي