مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/01/2008

قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


فُطِرَ الإنسان- كما تعلمون جميعاً- على الفرح بالنعمة التي يكرمه الله سبحانه وتعالى بها، وعلى الأسى والحزن للمصائب التي قد يتعرض لها، تلك هي طبيعة أقام الله سبحانه وتعالى عليها الناس جميعاً، يُكْرِم اللهُ سبحانه وتعالى الإنسان بدارٍ فارهة فيفرح بهذه النعمة التي أكرمه الله بها، يكرمه بزوجة صالحة يَدْخُل إلى قلبه الفرح بهذه النعمة التي جاءته، يُكْرِم الله سبحانه وتعالى البلدة بالغيث المنهمر بعد الجدب المتطاول فيفرح الناس لهذه النعمة التي جاءتهم بعد طول غياب.


هي طبيعة فَطر الله سبحانه وتعالى عليها الناس جميعاً، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى ينهى عن الفرح في كثير من آي كتابه المبين، من ذلك قوله سبحانه وتعالى على لسان ذلك الرجل الصالح الذي كان ينصح قارون: ﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، ومن مثل قول الله سبحانه وتعالى منكراً هذا الشعور الذي يسري إلى الفؤاد عند رؤية النعم، يقول: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].


فكيف السبيل إلى استرضاء الله سبحانه وتعالى بهذه الفرحة التي لا اختيار للإنسان فيها؛ مع النهي القرآني الصريح الذي نقرؤه دائماً في كتاب الله عز وجل؟ أما النهي الذي نهانا الله عز وجل عنه- يا عباد الله-فهو أن يفرح الإنسان للنعمة التي تُقْبِل إليه بحدِّ ذاتها؛ أكرمه الله عز وجل برزقٍ وفير، تعلق قلبه بهذا الرزق، وفرح بهذا المال الذي أغدقه الله عز وجل عليه، فرِح بالمال لذاته، أكرمه الله عز وجل بالدار، أكرمه الله عز وجل بالزوجة الصالحة، أكرم الله سبحانه وتعالى الأمة بالسقيا، فَجَّرَ لها الينابيع بعد جفاف، سَيَّرَ لها الأنهار بعد توقف، فرحت الأمة بهذه النعمة بحد ذاتها.


هذا ما حذر الله عز وجل منه ونهى عنه. ما السبب يا عباد الله؟ السبب أن الإنسان إذا تلقى النعمة الدنيوية من مثل ما قد ذكرته لكم ففرح بها؛ فلنعلم أن فرحه بهذه النعمة لا بد أن يحجبَه عن المنعم. عندما أفرح بالتجارة الرابحة التي أكرمني الله سبحانه وتعالى بها، من حيث هي، لا بد أن تحجبني هذه النعمة عن المنعم الذي تفضل بها عليّ.   


 وعندما أفرح بالعافية التي أتمتع بها، من حيث هي؛ نظرْتُ إلى المرآة فأعجبني منظر العافية في كياني، وتراقصت الفرحة بين جوانحي من جراء ذلك فلأعلم أن هذه الفرحة لا بد أن تحجبني عن المنعم المتفضل. وإذا حَجَبَت النعمُ الإنسانَ عن المنعم الذي أرسلها إليه فقد باء بالخسران الكبير، ولن تعود إليه هذه النعم التي يفرح بها بأي متعة. من أجل ذلك نهى الله سبحانه وتعالى قارون والفراعنة وأمثالهم عن الفرح وقال له ذلك القائل: ﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، ومن أجل ذلك قال الله عز وجل مستنكراً لهؤلاء الذين تراقصت الفرحة بين جوانحهم لمنظر الحياة الدنيا ونعيمها: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26].   


المطلوب من الإنسان إذا تلقى النعمة من الله عز وجل أن يخترقها إلى المنعم، وأن يفرح بالمنعم الذي أرسل هذه النعمة إليه، عندما أجد العافية التي أتمتع بها وقد أسبغها الله عز وجل عليَّ فضلاً منه وإحساناً، وحماني من السوء ومن أسباب الأمراض المختلفة المتنوعة فلأعلم أنها رسالة حب وصلتني من الله عز وجل، أفينبغي أن أفرح بالرسالة أم بالمرسل؟ ينبغي أن أفرح بالمرسِل الذي أرسل إليَّ هذه النعمة، وعندما يجد التاجر، رجل الأعمال، أن تجارته رابحة، وأن الله عز وجل قد أكرمه بالمال والرزق الوفير فليعلم أنها رسالة تحبُّب وصلت إليه من الله سبحانه وتعالى، فإن فرح؛ فليفرح بهذه الرسالة التي أتته من الله عز وجل، أي ليفرح بهذا الذي يَدُلُّ على أن الله قد أحبه، بهذا الذي يدل على أن الله قد رحمه وتفضل عليه.   


بالأمس أكرمنا الله سبحانه وتعالى بالسقيا، ولبى الدعاء، واستجاب الله سبحانه وتعالى برحمته وفضله، وذلك هو شأنه دائماً لالتجاء الناس وتضرعهم لله سبحانه وتعالى، وفَرِحَ الناسُ، أفينبغي أن يفرحوا بهذه القطرات التي تهمي من السماء، أم ينبغي أن يفرحوا بالأرض التي تخضر بعد هذه السقيا، أم بالينابيع التي ستتفجر، أم بالأنهر التي تسيل؟


لا. المطلوب منا، وقد عرفنا الله عز وجل وناجيناه والتجأنا إليه فأجابنا الله سبحانه وتعالى وأكرمنا، المفروض أن تغمُر أفئدتنا الفرحة؛ لكن لمن؟ لهذا الإله الذي استجاب، المطلوب أن تغمُرَنا الفرحة لهذا الذي يدل على أن الله قد رحمنا، على أن الله عز وجل قد تفضل علينا، على أن الله سبحانه وتعالى- وأرجو ألا أكون مبالغاً- قد أحب هؤلاء المتضرعين فاستجاب لهم. وهذا الذي أقوله لكم هو الذي يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].   


لاحظوا التنسيق إذن بين الفرح  والنهي عنه ؛ عندما تكون الفرحة بالمال ذاته، بالنعمة ذاتها، وعندما يأمرنا الله عز وجل بالفرح؛ ولكن عندما تكون الفرحة بالله سبحانه وتعالى، عندما تكون الفرحة بالمعنى الذي تتضمنه هذه النعمة التي أقبلت إلينا؛ وهو محبة الله للإنسان، رحمته بالإنسان، تفضله على الإنسان، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ الذي تجلى في نعمته التي أغدقها عليكم، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58] المال الذي يجمعونه، بل حتى الأمطار التي تهمي إليهم،حتى النباتات، حتى الأنهر، كل ذلك ليست العبرة بهذا، وإنما العبرة باليد الإلهية التي تفضلت علينا فأكرمتنا بالسقيا. هذا هو التوفيق بين ما أمر الله سبحانه وتعالى به في مثل هذه الآية وما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، أما أن أنظر إلى النعم وأحبس كياني ومشاعري في داخلها فهذا سجن يبعثني على الشقاء.  


 عندما تفرح بالمال، أو عندما تفرح بالعافية، أو عندما تفرح بالأمطار الهاطلة فمعنى ذلك أنك حجبت نفسك عن الله سبحانه وتعالى؛ وإذا حُجِبَ الإنسانُ عن الله عز وجل بنعمه شقِيَ، وإذا استمر على هذه الحال آل إلى الله سبحانه وتعالى غير مرحوم وغير سعيد في العاقبة.   


بالأمس أكرمنا الله سبحانه وتعالى، وأسأله عز وجل أن يكون ذلك الإكرام فاتحة خير. ولكي يكون ذلك الإكرام فاتحة خير، ينبغي أن نفرح بمعنى التحبب الذي تضمنه ذلك الإكرام نِعَم الله كلُّها، أقول لكم. إنها رسائل حب آتية من عند الله سبحانه وتعالى. فيا عجباً لمن يرقص لما قد تضمنته هذه الرسائل ولا يرقص لما تدل عليه هذه الرسائل، من محبة الله سبحانه وتعالى، من رحمة الله سبحانه وتعالى، من فضل الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين أكرمهم الله بهذه النعم.   


ومن آثار الفرح بالنعمة أن يجعلها الإنسان سبيلاً إلى المعاصي التي حرمها الله سبحانه وتعالى. وجدت الأمة النصر الإلهي قد أقبل فبماذا تعبر عن فرحتها؟ عبرت عن فرحتها بالمعاصي، بالمرح، بالطغيان الذي هو الحال الغالب على كثير من الأمم في كثير من الأحيان، هذا الوضع من الطغيان نتيجة الفرح بالنعمة والاحتجاب عن المنعم سبحانه وتعالى، عندما يكرمنا الله سبحانه وتعالى، وسيكرمنا- وهذا هو ظننا بالله عز وجل- بمزيد من السقيا وبمزيد من رزق السماء ونِعم الأرض؛ ربما تجد أناساً يسيل لعابهم على ارتكاب المعاصي. وجدوا الأنهر عادت تتألق وعادت تجري متألقة بين الخمائل والبساتين والجنان، ونظروا فوجدوا الينابيع عادت متفجرة؛ يحلو لهم أن يبنوا عليها أعشاشهم التي حرمها الله عز وجل. تلك طبيعة الفرح بالنعمة والابتعاد عن المنعم سبحانه وتعالى.   


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فرحنا به لا بالعوارض التي تأتينا من لدنه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فرحنا به حاملاً على أن نلتزم الجادة، وأن ننضبط بالأوامر، وأن نصطبغ بذل العبودية لله سبحانه وتعالى.


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي