مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/01/2008

صلاة الاستسقاء ... بين يديها شروط هامة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان في هذه الحياة الدنيا مَحَلاًّ للابتلاء والمصائب المختلفة، فهو إما أن يكون معانياً منها، وإما أن يكون متعرضاً لها، وهو في كل الأحوال لا يخلو عن هذين الواقعين، إما أن يكون معانياً من ابتلاء أو مصيبة من المصائب الكثيرة المتنوعة، وإما أن يكون متعرِّضاً لها يمكن أن تنتابه في كل لحظة، وهذا الحال هو من معاني قول الله سبحانه وتعالى: )وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً[  [النساء: 28]، أي إنه لا يستطيع أن يحصِّن نفسه ضد المصائب مهما صنع، ولا يستطيع أن يجعل نفسه_ بأي حيلة من الحيل_ في مأمن منها، هو إما أن يكون متقلباً في هذه المصائب أو بعض منها، وإما أن يكون متعرضاً لها في كل لحظة، فما الحكمة من ذلك؟ الحكمة من ذلك، أن يفر الإنسان من هذه الحال إلى الله عز وجل، وأن يتمثل قوله سبحانه: )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ[  [الذريات: 50]، ثم يعود إلى نفسه ويكتشفَ فيها هذه الحال وينفذ قوله سبحانه: )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ[.


تلك هي الحكمة في مجمل القول، أما إن أردنا أن نركن إلى شيء من التفصيل فينبغي أن نعلم أن الإنسان مفطور على العبودية لله سبحانه وتعالى أياً كان مذهبه وأياً كان دينه، هو عبد شاء أم أبى، والمطلوب منه أن يضع عبوديته لله موضع التنفيذ، أي أن يمارس عبوديته لله عز وجل بسلوكه الاختياري، كما أنه مفطور على العبودية لله عز وجل بواقعه الاضطراري، ولكن كيف السبيل إلى أن يمارس الإنسان عبوديته لله؟ سبيل ذلك، أن يقف دائماً بباب الله متذلِّلاً متبتلاً منكسراً، وأن يعرض حاجاته كلَّها إلى الله عز وجل معلناً عن فقره، معلناً عن منتهى ضعفه، ولكن ما الذي يقوده إلى باب الله عز وجل منكسراً متضرعاً إن كان يتقلب في طمأنينة دائمة من العيش وإن كان مطمئناً إلى أن المصائب لا تطوف به ولا تنوشه؟ فيم يلتجئ إلى الله وهو يعيش في مأمن وطمأنينة من رغد عيشه؟


كانت الحكمة الربانية تقتضي أن يكون الإنسان معرَّضاً للمصائب دائماً، إما أن يكون مُعَانياً منها، وإما أن يكون متعرِّضاً لها، إذا علم الإنسان من نفسه هذه الحال لا بد أن يلتجئ إلى مفرٍّ، وإذا آمن بالله عز وجل وعلم أن الله بيده كل شيء علم أن المفر إلى الله، وأنه لا ملاذَ له من مخاوفه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو في كل الأحوال يحتاج إلى أن يكون واقفاً على باب الله سبحانه وتعالى، إن كان معافى يلجأ إلى الله عز وجل يسأله أن يديم عليه عافيتَه، وألا يبتليه بشيء من المصائب التي توشك أن تنتابه في لحظة واحدة، وإن كان يعاني من بعضٍ منها التجأ إلى الله سبحانه وتعالى لكي يعافيَه منها، فهو في كل الأحوال بحاجة إلى أن يفر إلى الله، وهكذا يمارس هذا الإنسان عبوديته لله عز وجل.  


ويخطئ من يرى نفسه مُنْعَماً يتفيأ ظلال الأمن والرخاء، يعود إلى نفسه فيرى أنه ممتَّع بتمام الصحة والعافية فيطمئن بالاً ويحجب نفسه عن الله، هذا غبي من الناس ومغفل، صحيح أنه في تلك اللحظات التي تمر به معافىً عن الأسقام والآلام والمصائب، لكنه مُعرَّض لها، ليس بينه وبين أن يبتلى بها إلا أمر الله سبحانه وتعالى وحكمه، وانظروا في هذا إلى قول الله عز وجل كيف ينبهنا إلى هذا المعنى )وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً،  أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً،  أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً[  [الاسراء: 67-68-69]


ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الإنسان يخطئ خطأً فادحاً عندما يجد أن المصيبة قد ابتعدت عنه، وأنه قد أصبح في مأمن ورخاء،إذن فليحجب نفسه عن الله، وليبتعد عن السؤال والمسألة والتضرع والدعاء، هو في كل لحظة مُعرَّض لعذاب الله عز وجل وللمصائب المختلفة المتنوعة التي تطوف به من بعيد أو من قريب.   


هذه الحقيقة ينبغي أن ندركها جميعاً، وإذا عرفناها وأدركناها فلا شك أن من مقتضى إدراكنا لها أن نظل في كل الأحوال ملتجئين إلى الله عز وجل، في حال العافية، في حال الرخاء، في حال الغنى، في حال القوة، ذلك، لأننا مُعرَّضون لأن تغيب عنا هذه النعم ولأن نفاجَأ بنقائضها، فما بالك عندما يكون أحدنا مبتلى بمصيبة من هذه المصائب؟! ما بالك عندما يكون الإنسان أو المجتمع يعاني فعلاً من بعض هذه المصائب والرزايا، كيف يكون غافلاً عمن بيده عافيته؟! كيف يكون غافلاً عمن بيده إسعاده وإنقاذه من هذا البلاء الذي هو فيه؟!   


تلك هي حالنا يا عباد الله في هذه المرحلة التي نمر بها، نحن لا أقول: مُعَرَّضون للمصائب، بل نحن نعاني من المصائب، وإنها لمصائب متنوعة مختلفة وكثيرة، ولعل من أبرزها وأوضحها لكل منا هذه المصيبة التي نمر بها في هذه الأيام، احتباس القطر عنا، البرد القارص وهي لازمة من لوازم الشتاء نعاني منه، ثمرة هذا البرد القارص مبتعدة عنها محجوبة عنا، نعاني من غرم الشتاء ولا نتمتع بشيء من مغانمه، كل منا يلاحظ هذه الظاهرة، أما برد الشتاء فواقع، بل واقع وشديد،وأما نعيم الشتاء المتمثل في أمطاره فبعيد ومحجوب عنا، على الرغم من بشائر الأرصاد الجوية التي تلقيتموها قبل عشرة أيام تقريباً، أرصاد،، وشأنها الكذب، وشأنها التوقّع، ولكنْ في الناس من يأبى أن يتلقى هذه التوقعات إلا على أنها حقائق علمية، وهذه مصيبة أخرى، ونظرْنا فوجدنا خيبة هؤلاء الذين أنبؤوا عن توقعاتهم، قالوا: إن دمشق سترتدي ثوباً أبيض من الثلوج في يوم كذا؛ وجاء ذلك اليوم وإذا هو يوم هارب من أيام الصيف، وها أنتم ترون النتائج، هذه الحالة التي نمر بها هي ليست حالة التعرُّض للبلاء، بل هي حالة المعاناة من المصائب والبلاء، فكيف يكون حال المسلمين عندما يكونون محجوبين عن الله، وعن الالتجاء إليه، وعن التضرع بين يديه، وعن الانكسار في الدعاء له حتى عندما يعانون من هذه المصيبة وأمثالها؟ في هذه الحالة تكون المخاوف من عقاب الله عز وجل العاجل مخاوف آنية وشديدة يا عباد الله، ينبغي أن نعلم ذلك.    


في صُقع من أصقاع عالمنا العربي شَعَر أهله بحاجتهم إلى الأمطار فتداعوا إلى صلاة الاستسقاء وخرجوا في كل صُقع من أصقاع هذه الدولة إلى المصليات لأداء صلاة الاستسقاء، وكانت هذه الصلوات المتعددة في أماكن مختلفة بقيادة أولي الأمر فيها، كان ألو الأمر في الصفوف الأولى، وكان التضرع مهيمناً على الجميع، وكان الانكسار وارتفاع الأيدي المرتجفة بالدعاء إلى الله أيديَ الجميع، فماذا كانت النتيجة؟ قال الله لهم: لبيك، هطلت في تلك المناطق أمطار ما رأوا مثلها منذ سنوات طويلة، ولقد شهدت هذه الأمطار بعيني، هذه الحقيقة لم تعد محل ريب ولا محل شك يا عباد الله.


ولعل فينا من يقول: فلنتداعَ نحن أيضاً إلى صلاة الاستسقاء، نعم ينبغي أن نتداعى إليها، لكن أرأيتم إلى إنسان أقبل إلى المسجد ليصلي وهو غير متوضئ أفتُقبَل صلاته إن هو أسرع فوقف متجهاً إلى القبلة وكبر وركع وسجد دون أن يتوضاً؟ هذه صلاة في الشكل ولكنها عند الله ليست صلاة مقبولة، كذلكم صلاة الاستسقاء بين يديها شروط هامة، من أهم شروطها ردُّ المظالم، التوبة إلى الله بصدق، ثم من أهم شروطها أن يكون القادة هم في مقدمة المصلين، وأن تكون الإمامة لهم، وأن يكون الناس جميعاً مقتدين بهم، فما ينبغي أن يغيب قادة الأمة عن باب الالتجاء إلى الله عز وجل، أما عندما تكون الصلاة شكلية، مظهراً من ركعاتٍ أو ركعتين يركعونها وكلمات يلقيها الخطيب ثم إنهم يتفرقون وقد وقر في نفوسهم أنهم أدوا صلاة الاستسقاء فما هي بصلاة الاستسقاء عند الله، لا بد من أن تُنَفَّذَ شروطها، نعم هكذا قال أئمتنا، وعندما صُلِّيَتْ صلاة الاستسقاء في عهد رسول الله كان الإمام فيهم رئيسَ الدولة، إمامَ المسلمين، وهو رسول الله، وعندما صلى عمر بن الخطاب، عندما دعا الناس إلى صلاة الاستسقاء كانت الصلاة بقيادة وإمامة أمير المؤمنين رئيس الدولة وهو عمر بن الخطاب، وما من عهد من العهود صُلِّيَتْ فيه صلاة الاستسقاء في تاريخنا الإسلامي الأغرّ إلا وكانت صلاة الاستسقاء بقيادة أئمة المسلمين وخلفائهم.   


نعم، وقد حدَّثتكم عن عبد الرحمن الناصر، وهو خليفة المسلمين في الأندلس، عندما دعا إلى صلاة الاستسقاء ونظر القاضي وهو يلتفت يميناً وشمالاً فلم يره، طلب من مدير مكتبه أن يذهب وأن يقول له:إن القوم ينتظرونك ولن يصلوا حتى تأتي، فقال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين مُنْتَبِذٌ في مكان متطرف هنا، وأشار له إلى المكان، فذهب وإذا هو يلبَس ثياباً رِثّة، وإذا هو يمرِّغ وجهه في التراب ويناجي الله قائلاً: يا رب،أتريد أن تهلك الرعية بسبـبي؟ هاأنذا ماثل بين يديك، تائب إليك، يا رب لا تهلك الرعية بسببي، لَمَّا رأى حالَه هذه رجع يقول إلى القوم: لقد سُقيتم، إذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء، هذه الحقيقة ليت أننا جميعاً نعلمها، ليت أننا جميعاً نتفاعل معها، وعندما ندرك هذه الحقيقة ونتقرب إلى الله عز وجل بقضِّنا وقضيضِنا متجهين إلى بابه، واقفين على أعتابه بانكسار وذل سيكرمنا الله عز وجل بالغيث النَّمير.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي