مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/08/2007

الحرص على ليلة النصف من شعبان

الحرص على ليلة النصف من شعبان


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 24/08/2007


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:


إن المسلمين اليوم فريقان اثنان؛ فريقٌ استقرت حقائق الإسلام وعقائد الإيمان في عقله ثم أصبحت حبيسةً فيه، وبقي القلب مرتعاً للشهوات والأهواء وحب المال والمشتهيات الدنيوية المختلفة. وفريقٌ آخر استقرت حقائق الإسلام وعقائد الإيمان في عقله، ثُمَّ إنها تحولت إلى عاطفةٍ في قلبه، فهيمنت على قلبه مخافةُ الله عز وجل ومحبةُ الباري سبحانه وتعالى، وهيمنت على مشاعره عظمة الله سبحانه وتعالى ومهابته.


 فأما هذا الفريق الثاني فيسيرُ في فجاج الأرض ويتبع السلوك مبنياً على الاحتياطات لدينه وعلى الاحتياطات لما هو مقبل عليه ولما هو منتهٍ إليه من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإذا وجد أن هنالك سبيلاً يوصله إلى مرضاة الله عز وجل، ووجد أن ضمانة هذا السبيل ليست مؤكدة، وإنما هي مبينة على خبر أو حديث ضعيف، احتاط لنفسه، ودفعته محبة الله عز وجل ومخافته ومشاعر تعظيمه لله إلى أن يحتاط، يتبع هذا السبيل وإن كانت جدواه تساوي عشرة في المئة؛ لأن المحب محتاط، ولأن الخائف يحتاط لنفسه دائماً، سواء في شؤون الدنيا أو في شؤون الدين،


وعلى سبيل المثال هنالك أحاديث كثيرة تتحدث عن فضل ليلة النصف مِنْ شعبان بل هنالك أحاديث تتحدث عن فضل هذا الشهر كله بما فيها ليلة النصف.


وقد صَحَّ من حديث عائشة رضي الله عنها فيما رواه الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم  ﴿كان يصوم حتى يُظَنُّ أنه لا يفطر ويُفْطِر حتى يُظَنُّ أنه لا يصوم ولم يُرَ﴾ في شهر أكثر صياماً منه في هذا الشهر أي في شهر شعبان.


وقد روى البيهقي مِنْ حديث عائشة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ﴿أتاني جبريل فقال هذه ليلة النصف مِنْ شعبان وإن الله يعتق فيها مِنَ النار بقدر شعر غنم بني كلب﴾ أي يعتق فيها مِنَ النار بقدر شعر غنم هذه القبيلة أي يعتق عدداً لا يُحْصَى.


وروى البيهقي أيضاً مِنْ حديث عائشة ﴿أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قام ليلة فصلى وسجد فأطال السجود؛ قالت عائشة: فقمت وخشيت أنه قد قُبِض فحركت إصبِعَهُ فتحرك فعدت وأنا أسمعه يقول: اللهم إني أعوذ بعافيتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلما فَرَغَ مِنْ صلاته قال لي: أتعلمين أي ليلة هذه يا عائشة؟ قلت الله ورسوله أعلم قال إنها ليلة النصف مِنْ شعبان يتجلى الله عز وجل فيها على عباده فيغفر للمستغفرين ويدع أهلَ الحقد والشحناء كما هم﴾. ويقول البيهقي هذا حديث مرسل جيد.


وأعود فأقول: أمَّا الذين يحتاطون لدينهم، الذين انتقلت حقائق الإسلام إيماناً مِنْ عقولهم فهيمنت عاطفة على أفئدتهم ووجدانهم، تمثلت هذه العاطفة بمحبة لله ومخافة منه وتعظيم لحرماته فلا شك أن هذا الفريق يحتاط لنفسه. وقع على هذا الحديث يقول فلأفرض أنه ضعيف ومعنى كونه ضعيفاً أن احتمال صحته وارد ولكن احتمال الصحة أضعف من احتمال عدم الصحة فإذا كانت صحة هذا الحديث بنسبة عشرين بالمئة إذاً فلأحتط لنفسي ولأتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الليلة ولأصم بياض هذا اليوم، يوم الخمس عشر من شعبان، محتاطاً لنفسي.


هكذا يقول المنطق لكن لمن؟ لمن كان قلبه وعاءً لمحبة الله، لتعظيم الله، لمخافة الله عز وجل. أما مَنْ كان فؤاده مرتعاً للدنيا وأهوائها وللمال وما إلى ذلك فيقول أنا أشم مِنْ هذا الحديث رائحة الضعف ويذهب ويناقش العاملين به: إنه حديث ضعيف. يقولها في المجالس المختلفة المتنوعة وهو يري الناس مِنْ هذا الكلام قوة عضلاته، أي يري الناس من هذا الكلام قدرته العلمية على البحث والنقاش وما إلى ذلك.


فهل يتفق المنطق مع سير هذا الإنسان إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى؟ عندما ننظر إلى هذا الإنسان وهو يتعامل مع دنياه التي تعلق بها، يتعامل مع تجارته التي يغدو ويروح وهو يحلم بنتائج الربح الذي يحلم مِنْ ورائها هكذا يتصور؟! إذا قيل له عن صفقة تجارية، إن هو دخل في غمارها، كان بإمكانه أن يربح ونسبة الربح لا تزيد على عشرين بالمئة يركض ويغامر ويحقق هذا الذي سمعه وقيل له، فإن قيل له ولكنك لا تضمن الربح، يقول ينبغي أن أحتاط لنفسي، إنه منطق الحب.


يا عباد الله، لماذا يغامر المقامر وهو يعلم أن ربحه لا أقول مظنون بل متوهم؟ ولكن تعلقه بالمال وهيمنة الربح على فكره وعاطفته ووجدانه يجعله يغامر على الرغم مِنْ أنه قد وجد النتائج السيئة، على الرغم مِنْ أنه قد ابتلِيَ بعصي الخسران، ولكنَّه مع ذلك يعتمد على الاحتمال الواهي، وهكذا المحب يغامر أيها الإخوة معتمداً على احتمال ضعيف، سواء كان ذلك متعلقاً بأمور الدنيا أو بأمور الآخرة.


ومِنْ هنا أعود فأقول: عندما نتحدث في مثل هذه الأيام عن فضيلة هذا الشهر وعن فضيلة ليلة النصف مِنْ شعبان وعن فضيلة صوم رمضان مذكراً الناس بالحديث الآخر الذي رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً: ﴿إذا كانت ليلة النصف مِنْ شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها﴾ أَنْظُرُ فأجد المسلمين الذين يصغون إلى هذا الكلام فريقين؛ فريق هيمنت حقائق الإسلام عاطفة على أفئدتهم بعد أن استقرت يقيناً في عقولهم تمثلت هذه العاطفة في حب عارم لله، في مخافة مِنْ سخط الله عز وجل، في تعظيم لحرمات الله عز وجل، ماذا يصنع هؤلاء الناس عندما يسمع أحدهم إلى هذه الأحاديث الضعيفة؟ يحتاط، يقول كم أنا محتاج إلى أن أتعرض لنفحات الله، كم أنا محتاج إلى أن أتعرض لرحمات الله سبحانه وتعالى، لعل الله يعتقني في هذا الشهر المبارك، لعل الله يعتقني في هذه الليلة معتمداً على هذا الحديث الذي يبلغ احتمال صحته عشرين أو عشرة بالمئة. يتعرض لنفحات الله والله يراه، والله يراقب تعرضه لرحمة الله عز وجل، ألا تتصورون أن الله يكرمه بهذا التوجه حتى ولو كان هذا الحديث غير واقع، ألا تتصورون أن الإنسان الذي يعتمد على آمال ضعيفة برحمة الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه الآمال تحدو به إلى أن ينفذ مضموناتها، ألا تتصورون أن الله يقدر ذلك فيه.


هذه هي حال مَنْ هيمنت حقائق الإسلام على كيانه عاطفة ووجداناً بعد أن استقرت في عقله حقائق علمية ثابتة، أمَّا ذاك الذي يتعامل مع الإسلام مِنْ منطلق التجمل بألفاظه، مِنْ منطلقِ التجمُّلِ بعلومه، مِنْ منطلق المباهاة بما يحفظه مِنْ أحاديث وأسانيد، أمَّا هذا الذي يتنطع في المجالس ويمضغ ما قد حفظه مِنْ كلامٍ عن هذا الحديث وذاك فهو لا يعلم للاحتياط معنى، لا يعلم للاحتياط للدين معنىً بشكل مِنَ الأشكال، إذاً كيف يمكن أن يضمن هذا الإنسان لنفسه سيراً إلى الله سبحانه وتعالى؟!


كثيرةٌ هي الأحاديث الضعيفة التي تحدو بالإنسان إلى الإكثار مِنَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنسان الذي يتمشدق بكلمات العلم لا يقلي بالاً لهذه الأحاديث، إذاً هو لا يكثر مِنَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثيرة هي الأحاديث التي تتحدث عن أنواع الأذكار الصباحية والمسائية، وابن السُّنِّي ذكر كثيراً وكثيراً مِنْ ذلك، الإنسان الذي دأبه أن يتمشدق بكلمات العلم، دأبه أن يتمشدق بمحفوظاته العلمية، أما فؤاده فمليء بالشهوات والأهواء والأحلام الدنيوية والمال وما إلى ذلك، هذا الإنسان لا يلقي بالاً لذكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن معظم أحاديثه ضعيفة، معظم أحاديث الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفة، وإذا كان الأمر كذلك فلأرح نفسي مِنْ هذه التبعات كلِّها، قولوا لهذا الإنسان أنت عندما تتعامل مع دنياك تتعامل معها على هذا المنوال؟! عندما تبحث عن المزيد والمزيد مِنْ رزقِك، مِنْ خلال تجارة، مِنْ خلال زراعة، مِنْ خلال صناعة لا تُقْبِلُ على ذلك العمل إلا إذا ضمنت النتائج مئة بالمئة؟ لا تُقْبِلُ على زراعة أرضك إلا إذا علمت يقيناً أنك ستحصد وستستثمر نتائج زراعتك؟


مَنْ قال هذا. نحن نعلم أنك تسعى فتحتاط، تحتاط في زراعة أرضك وأنت لا تعلم النتائج، تحتاط في أعمالك التجارية وأنت لا تعلم النتائج بل النتائج ضعيفة، تحتاط في كل أمورك الدنيوية لماذا؟ لأن قلبك يعشقها ولأن الحب متجه إليها، هذه الحقيقة أيها الإخوة، ينبغي أن نتبينها.


نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون مِمَّنْ يرقى إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى بجناحين اثنين جناح العقل المصدق وجناح الحب المهيمن. أولهما قراره في العقل، ثانيهما قراره في القلب، عندئذٍ نحتاط لديننا وعندئذٍ نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكل الاحتمالات الممكنة مهما ضعفت والله سبحانه وتعالى لن يضيع مغامراتنا وجهودنا في سبيل مرضاته أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي