مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/08/2007

سبيل المسلم للتخلص من هيمنة شهواته و رعوناته على نفسه

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:


إن كلاً منا قد يتعرض لحالات تهيمن فيها رعوناته وأهواؤه عليه ويكون لها سلطان نافذٌ على أفكاره وسلوكاته بحيث لا تفيده مع هذه الحالة تذكرة المذكرين ولا موعظة الواعظين. فما هو سبيل الخلاص لهذا الإنسان مِنْ هذه الحالة؟ ما السبيل إلى أن يتحرر مِنْ رعوناته ويستيقظ مِنْ سكر أهوائه وشهواته؟ السبيل في هذه الحالة يا عباد الله أن يتذكر الموت الذي يتربص بكل واحدٍ منا وأن يتصور أنه كامن خلف أذنه وأنه ربما يفاجئه في كل ساعة بل في كل لحظة فليقدر أن الموت قد فاجأه وأنه الآن يعاني مِنْ ضجعة الموت ومِنْ سكراته وقد زايَلَتْهُ أهواؤه وانطوت عنه رعوناته وولَّت عنه شهواته، ما القرار الذي سيتخذه آنذاك؟ ليسأل أحدنا نفسه في تلك الحالة ما القرار الذي سيتخذه؟ لا شك أنه القرار الذي ترجمه لنا بيان الله عز وجل إذ قال: ”حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت“. ثم ذكر البيان الإلهي تعليقاً على ذلك ”كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون“. فالإنسان إذا قدر أنه وصل إلى تلك الحالة وقد ولَّتْ عنه رعوناته وأهواؤه وشهواته لينظر ما هو القرار الذي سيتخذه آنذاك ليتخذه الآن قبل أن يصل إلى تلك الساعة. ذلك لأن القرار الذي سأتخذه عندما أمتد على فراش الموت وأقع في سكراته لا فائدة منه ذلك لأنه لا عودة ولا مجال لإصلاح ما قد فسد أو لتقويم ما قد اعوج مِنْ سلوكي وشأني. لماذا وأنا أعلم أنني سأمزق قراري الذي مِنْ وحي شهواتي وأهوائي ورعوناتي الآن، أعلم أنني سأمزقه آنذاك دون فائدة. لماذا لا أصلح الفساد اليوم؟ لماذا لا أقُوِّمَ الاعوجاج اليوم، كم قلتها لأناسٍ كانوا يجادلونني في مسائل الاعتقاد أو في مسائل السلوك. كانت النتيجة الأخيرة لهذا الجدل ما كنت أقوله للواحد منهم: يكفيني منك الثبات على هذا الذي تتمسك به الآن، كدليل على أنك ثابت على الحق، غداً إذا فاجأك الموت وفوجئت بسكرات الموت وملك الموت أمامك إن استطعت أن تثبت على ما تدافع عنه الآن فأنا أهنئك بأن ذلك هو الحق وأما إن كنت تعلم أنك ستبتعد عن قراراتك هذه وتتجاهلها وتتمنى أن لو عدت إلى ماضي حياتك ولو لشهر أو لشهرين أو أسابيع إذاً فأنت تعلم أنك على باطل. لماذا لا تصلح شأنك اليوم وأنت تعلم أنه إذا جاء الموت لا فرصة عندئذٍ لإصلاح الفساد، لا فرصة عندئذٍ لإقامة الاعوجاج بشكل من الأشكال. هذه أفضل وسيلة ليتحرر الإنسان منا، وهو يتقلب في غمار حياته الدنيا، مِنْ وحي شهواته وأهوائه ورعوناته، أجل. ومِنْ أجل هذا جعل الله عز وجل مِنَ الموت عبرة وأيَّ عبرة. وصدق عمر بن الخطاب إذ قال، بل رسمها كلمات على خاتمه: كفى بالموت واعظاً يا عمر. ومَنْ لم تنفعه عظة الموت قبل أن يأتي حَيْنُه لن يستفيد مِنْ تذكرة المذكرين ولن يستفيد مِنْ موعظة الواعظين ولسوف يقع في نيران مِنَ الندم في ساعة لا تنفعه فيها الندامة. ربما يتخيل متخيل أنه يقطف الآن ثمار أهوائه وشهواته ولكن إذا وجد أن الموت قد دنا منه وأن عمره قد ذبل فإن بوسعه عندئذٍ، قبل أن يطرق الموت، بابه أن يصلح الفساد وأن يُقَوِّمَ الاعوجاج وأن يتوب إلى الله وأن يرحل إليه وهو طاهر مِنْ كل ما قد تدنس به. قد يقول قائل هذا ولكن الله عز وجل الحكيم لم يجعل للموت ميقاتاً معيناً كمواقيت المواسم السنوية مِنْ صيفٍ وخريفٍ وشتاءٍ وربيع. لا أحد يعلم متى يطرق الموت بابه مِنْ أجل هذا الذي قد يتخيله بعض المتخيلين. كم مِنْ طفل، أيها الإخوة، عاجله الموت قبل أن يصل إلى مرحلة الشباب، وكم مِنْ شاب عاجله الموت قبل أن يصل إلى مرحلة الكهولة، وكم مِنْ كهل عاجله الموت قبل أن يصل إلى الشيخوخة. قلتها بالأمس وأكررها لنفسي ولكم: إن الواحد منا يقف طابوراً أمام بوابة الموت ولكنه لا يعلم أهو يقف في مؤخرة الطابور أم في منتصفه أم عند بوابة الموت؟ لا يعلم. كلنا يقف طابوراً أمام بوابة الموت لكن هل تعلم موقعك من هذا الطابور؟ لا تعلم إطلاقاً. ربما فوجئتم بواحد مثلي بعد أسبوع أو أيام وقد رحل عن هذه الحياة الدنيا إلى مصيره الذي ينتظره. هذه حقيقة شاءها الله عز وجل لحكمة باهرة. لو كان للموت ميقات معين إذاً لاستطاع كل إنسان أن يجمع بين الفساد والصلاح، يفسد ما شاءت له نفسه أن يفسد ويوغل في المحرمات ما شاءت له نفسه أن يفعل ذلك حتى إذا نظر فوجد أن ميقات الموت قد دنا تاب إلى الله سبحانه وتعالى. ولكن الله عز وجل لا يخدع، أجل. هذه هي الوسيلة التي لا أعلم وسيلةً سواها لمن ركِبَتْهُ رعوناته ولمن تَحَكَّمَتْ به أهواؤه فلم يستطع تحرراً منها ليجلس مع نفسه خالياً وليتسائل تُرَى متى سيطرق الموت بابي؟ لا يعلم. لعل ذلك بعد ساعة أو أقل أو أكثر. عندما يطرق الموت بابي وأمتد على فراشه وأبدأ أعاني مِنْ سكرات الموت هل سأبقى متمسكاً بهذا القرار؟ إن كنت تعلم أنك ستبقى متمسكاً بهذا القرار فذلك يعني أنك على حق لأنه قرار العقل. وأما إن كنت تعلم يقيناً أن هذه الرغائب ستتطاير مِنْ كيانِك ولسوف تندم وتبحث عن الإصلاح بعد الفساد فمالك لا تصلح الفساد الآن. ظاهرة عجيبة يا عباد الله كثيرٌ مِنَ الناس قد وقعوا فيها وحيل بينهم وبين أيٍّ مِنَ العلاجات الموجودة أمامنا للتخلص والتحرر منها. أرأيت لو أن إنساناً يجلس في دارٍ جميلةٍ رائعة قد حُشِيَتْ بالفرش العظيم الزاخر الفاخر وقد حُشِيَتْ زوايا هذه الدار بكل الملهيات والمنسيات، طعامه في هذه الدار موفور، شرابه ألواناً كثيرة متوفره والبذخ يتراقص مِنْ حوله ولكن تلقى حكماً مبرماً عليه بالإعدام وقد أصبح هذا القرار موقعاً مِنْ أعلى سلطة ولكنه لا يعلم متى يكون التنفيذ، هل يهنأ هذا الإنسان برقاد إذا أراد أن يمتد لينام؟ هل يهنأ هذا الإنسان بيقظة وهو ينظر إلى الحدائق التي تحيط به عن يمينه وشماله؟ هل يهنأ بطعام يتناوله أو شراب يشربه؟ هل يهنأ بساعة تمر به وهو في هذا المكان؟ هل تتغلب هذه المظاهر على الأسى الذي يطوف بكيانه؟ هل يتغلب جمال الدار التي هو فيها، جمال الحدائق التي تحيط به على الكرب الذي يأخذ بخناقه؟ كلكم يعلم الجواب. أنا أسأل يا عباد الله ما الفرق بين هذا الإنسان الذي تلقى حكماً عليه بالإعدام مبرماً ولكنه لا يعلم ميقات التنفيذ وذاك الذي تلقى حكماً عليه بالإعدام مِنْ أحكم الحاكمين وهو لا يعلم ميقات التنفيذ؟ ما الفرق؟ لماذا تأخذه الغصة هناك فلا يهنأ لا بطعام ولا بشراب ولا بيقظة ولا برقاد إطلاقاً في حين أنه في هذه الحالة الثانية يعانق رعوناته وأهواءه وشهواته وكأن الموت لا ينتظره خلف أذنه؟ هل مِنْ فرق بين هاتين الصورتين؟ لا يوجد أيُّ فرق، اللهم إلا أن الشيطان يُسْكِرُ الواحد منا كي يحجبه هذا المصير في حين أنه لا يحتاج إلى أن يسكره عن القرار المتخذ في حقه في الحالة الأولى؟ هذا هو الفارق الوحيد. فإذا كنت أعلم أن الموت يتربص بي وأنني لا أعلم متى سيأخذ مني بالخناق وإذا كنت أعلم أن ابتلاءات الله عز وجل كثيرة وأن الأمراض الوبيلة التي تجعل الإنسان يتمنى الموت ولا يراه كثيرة وأن لله عز وجل أصنافاً مِنَ التربية لعباده، إذا كنا نعلم ذلك فلماذا لا نأخذ العُدَّة ولماذا لا ننتهز الفرصة ولماذا نضع أنفسنا مهيئين لندامة ما مثلها ندامة في ساعة لا تنفعنا فيها ندامة يا عباد الله. رأيت في حياتي صورتين اثنتين؛ الصورة الأولى صورة إيجابية جعلت لنفسي منها درساً، وأي درس. شاب يا فع يشتغل بعمل بسيط جداً، يغدو إلى عمله على الدراجة ويعود مِنْ عمله إلى الدار بالدراجة ويملأ بقايا وقته في حضور المساجد والإصغاء إلى الدروس والتمتع بذكر الله سبحانه وتعالى. في يوم مِنَ الأيام وهو عائد إلى عمله إلى الدار وهو بكامل الصحة والعافية وقع ميتاً مِنْ على الدراجة التي كان يركبها، إن هي إلا دقائق وأسلم الروح. وجيء به وفتش الناس جيوبه بحثاً عن شخصه وهويته، عثروا بين أوراقه على ورقة مطوية. دُفِعَتْ هذه الأوراق كلها إلى أهله ونُشِرَتْ الورقة المطوية. ما الذي كان فيها يا عباد الله؟ وصية، لم يتوجه بها شيخ مسنٌ كبير إلى أسرته وأولاده لا، بل توجه بها شابٌّ يافع إلى أبيه وأمه يقول فيها، في هذه الوصية، أشكركم أنكم نشأتموني في ظلال إيماني بالله، أنكم أرضعتموني لبان محبة الله والخوف من الله عز وجل وهاأنذا بالمقابل أوصيكم أن تثبتوا وأن تستمروا على ما قد ربيتموني عليه ملتقانا يوم الحشر أمام ديان السموات والأرض. هذه خلاصة وصيته المفصلة الطويلة. هذا الإنسان وضع الموت نصب عينيه وعامل نفسه وعامل دنياه على ضوء هذه الحقيقة التي وضعها نصب عينيه. وهذا هو الذي وقع. لم يعش طويلاً، عاجله الموت. كم وكم يحظى الإنسان الذي يسلك هذا المسلك ويضع في ذهنه هذا الاعتبار، كم وكم يتمتع بالسعادتين العاجلة والآجلة. ينعم بدنياه وينعم بآخرته التي يهيء الله سبحانه وتعالى فيها العيش الرغد. أما الصورة الأخرى فلا أقولها لكم لأن ذكرَ الجفا في موضع الصفا مِنَ الجفا. لا أريد أن أتحدث عن التائهين الموغلين في المحرمات وفجأة جاءهم المنادي ينادي ويقول لقد حانت الرحلة إلى الله، يوم واحد دعني أن أتأخر، يوم واحد دعني أعود إلى الوراء، رأيت هذه الصورة أيضاً ولكني أسأل الله عز وجل أن يكرمنا جميعاً بأن نكون مِنَ الفريق الأول و، إذا لاحَقَتْنَا أهواؤنا وشهواتنا، إلتجأنا منها إلى الله سبحانه وتعالى، لذنا منها ببيوت الله سبحانه وتعالى، كم مِن تائهٍ في جنبات الأرض شدته رحمة الله عز وجل إليه عن طريق بيوت الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة