مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/06/2007

مفهوم الزهد في الدنيا

مفهوم الزهد في الدنيا


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 08/06/2007


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:


إن الله عز وجل، كما تعلمون، أمر عباده بالزهد في الدنيا وأن يعلقوا قلوبهم بما هم راحلون إليه ومستقرون فيه، فقال عز مِنْ قائل: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ وقال: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾. ولكن في الناس مَنْ لم يدرك المعنى الذي أراده البيان الإلهي، فذهبوا في تفسير الزهد في الدنيا مذاهب بعيدة عما شاءه الله سبحانه وتعالى لعباده وعما أمرهم به.


وبكلمة مختصرة نتبينها في كتاب الله عز وجل، ونعرفها مِنْ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته لأصحابه: الزهد هو أن يكون القلب فارغاً عن محبة ما سوى الله، أما اليد فلك أن تستعملها فيما تشاء، مما يصلح شأنك، وأما الجيب والصندوق فلك أن تملأهما بكل ما يصلح شأن دينك أو دنياك ويقربك إلى الله سبحانه وتعالى. لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تعلمون وكما اتفق الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أنه توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير ولعلكم تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه الترمذي من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري مَنْ أصبح منكم آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت إليه الدنيا بحذافيرها.


كثيرون هم الذين سمعوا مثل هذه الأحاديث الصحيحة فظنوا أن مراد المصطفى صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلك أن ينفض الإنسان داره وجيبه وصندوقه مِنْ متاع الدنيا وأن يتجرد مِنْ كل زخارفها وأموالها وهذا ليس هو معنى الزهد الذي أُمِرْنَا به يا عباد الله. كم مِنْ إنسان حُرِمَ فعلاً من الدنيا وزخارفها وزينتها، فرغت داره وفرغ جيبه مِنْ نَشَبِ الدنيا وأموالها ولكنه لا يعد عند الله مِنْ الزهاد قط. قلبه متعلق بالمال، يمسي ويصبح وهو يحلم بالثروات التي لم يتح له أن يصل إليها، هذا ليس زاهداً. وكم مِنْ إنسان تكاثر المال لديه ولكنه معدود عند الله سبحانه وتعالى مِنْ أزهد الزاهدين، اتخذ المال مطية ذلولاً مِنْ أجل أن يتوصل به إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، مِنْ أجل أن يعمر به هذا المجتمع الذي أقامنا الله عز وجل موظفين ومستخدمين ومكلفين لإقامته.


نعم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُقِلاً مِنَ الدنيا وتوفي ودرعه مرهونةٌ لكن ألم يكن يتعامل مع الأموال؟ ألم تكن تأتيه الأموال مِنْ مشارق الدنيا ومغاربها ويصرفها إلى ما ينبغي أن يصرفها إليه؟ ألم يكن يستعمل المال في إقامة المجتمع الإسلامي الذي بُعِثَ صلى الله عليه وسلم لإقامته ولتعليمنا السبيل الأمثل لإقامته؟ نعم. ولذلك مَنَعَ العلماءُ مِنْ أن يوصف رسول الله بالفقر أو الفقير، كان مُقِلاً ولكنه لم يكن فقيراً، هذا المعنى ينبغي أن نعلمه لاسيما في هذا العصر يا عباد الله، وإذا عدنا إلى كتاب الله نتدبره تبيناه.


تأملوا في الآية التي افتتحت بها كلامي الآن: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ يريد ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ﴾. إذاً المسألة منوطة بما تريد، الإرادة، مَنْ كانت إرادته متجهة إلى المال، هدفه، مبتغاه أن يجمع المال، يُسَرُّ بمرآه ويتعشقه قلبه فذلك هو الذي تَهَدَّدَه الله سبحانه وتعالى بالعذاب الواصب يوم القيامة ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ وفي الآية الأخرى ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾. أما الذي يريد الله ولا يريد إلا الدار الآخرة، ولكنه يجعل مِنَ الدنيا ونَشَبِهَا وأموالها مطية ذلولاً كالإنسان الذي يستخدم دابة له لتوصله إلى المكان الذي يبتغيه فهو زاهد، ذلك لأنَّ قلبه إنما يريد الله سبحانه وتعالى، ثم إنه يستخدم لهذا الذي يريده الدنيا باختلاف صورها وأشكالها،


وأضعكم مِنْ هذا الكلام أمام نموذجين يا عباد الله، الدولة الإسلامية التي قامت في قلب أوروبا، في الأندلس، لاشك أنها قامت بدعائم كأي دولة تقام، لابد أن تقام على دعائمها المعروفة، والمال والدنيا جزء مِنْ هذه الدعائم لابد منه، أقيمت دولة الإسلام في قلب أوروبا وانتشر أَلَقُهَا في سواد تلك المجتمعات، ولاشك أنَّ الذين أقاموا تلك الدولة، استعملوا لها المال، واستعملوا لها الأرض، واستعملوا لها كل الوسائل المادية التي تستعمل اليوم؛ مِنْ أجل إنشاء أوطان ومِنْ أجل إنشاء مجتمعات وحضارات، ولكن تأملوا في ذلك الرعيل الأول الذي أقيمت تلك الدولة على أيديهم هل كانت الدنيا مهيمنة على زاوية مِنْ قلوبهم؟ هل كانت زخارف الدنيا تهيمن على رؤوسهم وتزجهم منها في سكر؟ هل كانوا يمضون الليالي باللهو والمرح والزينة لأنهم يتطوحون في حب هذه الأموال التي تكاثرت وتراقصت بين أيديهم؟ لا. كانت أفئدتهم أوعية لحب واحد لا ثاني له، هو الله سبحانه وتعالى، ولكنهم استخدموا الدنيا استخداماً ذليلاً لما يشاؤه الله ولما يحبه الله سبحانه وتعالى، تعاملوا مع الدنيا دون أن تتعلق قلوبهم بها، ومِنْ ثَمَّ قامت تلك الدولة على دعائم راسخة وكان لها سلطانها، وكان لها شعاعها الذي انتشر في شرق ذلك العالم الغربي وغربه، نعم. هذه هي الصورة الأولى.


وإليكم الصورة الثانية، عندما خلف مِنْ بعد أولئك الناس، أولئك الرجال، خلف. جاء مِنْ بعد أولئك الناس جيلٌ آخر ورث هذه الدولة، التي كانت تفيض بالمال، وكانت تفيض بالغنى والقوة، أقبل هذا الجيل الجديد إلى هذا المال وقد تعشقه، اتخذ منه سَكَرَاً، ركن إلى هذا المال وزخارف الدنيا وجعل منها الليالي اللاهية الساهرة كما تعلمون. ما الفرق؟ الفرق أنَّ هؤلاء الذين خلفوا بعد سلفهم تعاملوا مع الدنيا تعامل المحب، أرادوا العاجلة في حين أن الآخرين أرادوا الآجلة، أرادوا وجه الله سبحانه وتعالى، فإلامَ آلَ أمرُ هذا الجيل الثاني؟ إلامَ آل حال ملوك بني الأحمر؟ ازداد المال لديهم، وازداد أَلَقُ الزخارف في أيامهم ولياليهم، وازداد عكوفهم على المال حباً فماذا كانت عاقبة ذلك؟ كانت عاقبتهم عاقبة الرجل النَّهِم يُقبل إلى الطعام لا مِنْ أجل أن يعافيه الله بهذا الطعام، ولكن مِنْ أجل أن يلتذ به ومِنْ أجل أن يزداد إمعاناً في أكل هذا المال وازدراده، النَّهِم يقبل إلى الطعام يأكله، يقوى به أولاً ثم إنَّه يزداد بهذا الطعام قوةً ثانيةً، ثم إنَّه يزداد بهذا الطعام سمناً ثم إنَّ الأمراض تتوضع في كيانه بسبب ذلك ثم إنَّ هذا الطعام يميته، هكذا كانت عاقبة أولئك الناس، تعشقوا المال، تعاملوا معه تعامل المحب، تعامل المحب الولهان، نعم. ظهرت في حياتهم مظاهر الغنى، بكل ما تعرفون مِنْ زخارف وألق ولكن هذه المظاهر ذاتها هي التي خنقتهم وهي التي أودت بهم.


نعم، هذا المعنى ينبغي أن تعرفوه يا عباد الله، وها هو السر في أنَّ ربنا الرحمن الرحيم وضعنا أمَّا المال وقال: ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. تعاملوا مع المال، لكنه حذر مِنْ أن نتعامل مع المال مِنْ منطلق الحب له، مِنْ منطلق التعلق به، مِنْ منطلق اتخاذه سكراً نتطوح به، أجل. وأهاب بنا أن نأخذ المال كما يأخذه الآخرون لكن نجعله خادماً ذليلاً لنا.


ما الحاجة التي تدعوني إلى المال إذا كنت آمناً في سربي معافاً في بدني، عندي وعند أهلي قوت يومي وليلتي؟ لم تعد لي حاجة لشخصي، أما للمجتمع فنعم. أجْمَعُ ما وراء ذلك من المال لا لشخصي فقد اكتفيت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أبني به المجتمع، أحقق به المبادئ التي أمرني الله عز وجل بتحقيقها، أقيم التضامن والتكافل الإسلاميين اللذين أمر الله عز وجل المسلمين أن يُتَوِّجُوا مجتمعاتهم الإسلامية بها.


نعم، هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها، اليوم أيها الإخوة نتعامل مع الدنيا لكننا نتعامل معها تعامل الولهان المحب ومِنَ ثَمَّ حَجَزَنَا المال عن الديان، حَجَزَتْنَا زخارف الدنيا عن مولانا وخالقنا ولئن بقي الأمر على هذا المنوال فلسوف يتحول المال الذي نتعامل معه إلى سم ناقع يهلكنا، لن نجد مِنْ وراء ذلك ربحاً تجارياً ولن نجد مِنْ وراء ذلك بنياناً اقتصادياً. كل ذلك يتحقق إن تسامينا فوق المال ولم نكن متعلقين به ولم يكن لعابنا يسيل عليه وإنما نستخدمه لوجه الله.


انظروا إلى هذا المثل الآخر الذي أقوله لكم. رجل يحمل طبقاً مِنَ الحلوى، يحمله في قارعة الطريق ليعود بثمن قطع الحلوى في المساء إلى داره، إلى أهله وأولاده، لكنه ما إن ينظر إلى هذا الطبق حتى يسيل لعابه عليه، يتناول القطعة منه يزدردها وبعد قليل تعود شهوته العارمة إلى هذه الحلوى فيتناول قطعة ثانية منها وهكذا ما يأتي المساء إلا وقد أخذ هو هذه القطع التي أراد أن يتاجر بها ويعود بأثمانها إلى الدار، يعود وجيبه فارغة مِنَ المال ولا هو أبقى شيئاً مِنْ هذه الحلوى التي أراد أن يتاجر بها، تلك هي سيرة مَنْ أعرض عن الله سبحانه وتعالى وعشق المال وعشق الدنيا وزعم أنه يريد أن ينشئ مجتمعاً اقتصادياً وزعم أن يريد أن يبني صناعة يفيد بها وطنه، عُدْ إلى قلبك تعلم أأنت صادق في هذا أم كاذب.


أقول قولي هذا وأستغفر الله.


 

تحميل



تشغيل

صوتي