مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/05/2007

لماذا يؤخر الله الغيث

لماذا يؤخر الله الغيث


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 11/05/2007


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، أما بعد فيا عباد الله:


يقول ربنا الرحمن الرحيم، التواب الكريم، الودود المجيب، يقول عن ذاته العلية: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾. نحن نقرأ، أو من المفروض أننا نقرأ، هذه الآية في كتاب الله عز وجل كما نقرأ كثيراً من الآيات الأخرى فيه، ولكن هل من متدبرٍ لهذا الكلام الرباني، هل من متأملٍ فيه بحيثُ يربطه بأحداثِ الدنيا وسنن رب العالمين في عباده.


لعلَّ فينا يا عباد مَنْ يسأل فيقول: ولماذا يؤخر ربنا الغيث إلى أن يسري القنوط في أفئدة ونفوس كثيرٍ من الناس؟ ألم يقل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾. لماذا لا يعجل بإنزال الغيث قبل أن يسري القنوط إلى النفوس؟ الجواب يا أيها الإخوة أن الله سبحانه وتعالى لو أنزل رحماته ولو أكرم عباده بأرزاقه دون انقطاع ولو استمرت سلسلة النعم موصولةً تترى إذاً لشُغِلَ الناس بها عن الالتجاء إلى الله عز وجل، إذاً لما وجدوا داعياً إلى أن يطرقوا باب الله سبحانه وتعالى بالمسألة والدعاء، فيم السؤال ونعم الله عز وجل موصولةٌ لا تنقطع، فيم الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى والغيث من السماء لا ينقطع، وفي هذه الحالة يُحْجَبُ المؤمنون بالنعم عن مولاهم المنعم سبحانه وتعالى، ومن هنا كان أجل مظاهر رحمة الله عز وجل بعباده أن يقطع، لا أقول رحمته بل الرحمة موصولة لا تنقطع، ولكن كان مِنْ جليل حكمة الله عز وجل بعباده أن يقطع عنهم الرزق بين الحين والآخر، أن يقطع الغيث مِنَ السماء عنهم مدة مِنَ الزمن، لا عقاباً بل رحمةً منه سبحانه وتعالى كي لا يُشغَلوا بالنعم عن المنعم ولكي يستمروا مرتبطين بالله عز وجل ولكي يكونوا دائماً مع قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ ومِنْ هنا فإنَّ مِنْ سنن الله عز وجل في عباده، أياً كانوا، أن يقطع عنهم الرزق الذي ينتظرونه بين الحين والآخر أياً كان نوع هذا الرزق، سواء كان قطراً من السماء أو نباتاً مِنَ الأرض أو حصيلةً لتجارةٍ أو ثمرة لاستثمار.


مِنْ سنن رب العالمين في عباده أن يقطع عنهم هذه النعمة وأن يؤخر عنهم أمد الرخاء إلى حين لا سيما بالنسبة لعباده المؤمنين وليس ذلك إلا رحمة بهم كي لا ينسوا الإله الذي هو مصدر كل رزق ولكي يكونوا مع الله القائل: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ ومِنْ ثَمَّ يجأرون إليه بالشكوى ويطرقون بابه بالضراعة ويستنـزلون رحماته ورزقه مِنَ السماء، هذا الموقف بحدِّ ذاتِهِ هو موقفٌ ذاتيٌ ليس وسيلةً إلى هدفٍ بل إنَّه يشكل غايةً مِنَ الغايات التي ينبغي أن يتوجه إليها كل مسلم عرف عبوديته لله عز وجل وعلم أنَّ الله وحده هو الرزاق وأنَّه وحده هو النافع والضار.


مِنْ هنا كان من شأن المسلمين في كثير من الأحيان، وهم ينتظرون رزق السماء وهم ينتظرون الغيث مِنْ مولاهم الكريم، ربما زجهم هذا الانتظار في شيء من القنوط واليأس، لا يأساً من رحمة الله عز وجل ولكن رجوعاً إلى المعاصي التي يتبصرون بها في أنفسهم ومِنْ ثَمَّ يرون أنهم ليسوا أهلاً لرحمة الله سبحانه وتعالى، هكذا يُخيل إليهم ومِنْ ثَمَّ يزجهم هذا الخيال في نوعٍ مِنَ القنوط، ولكنَّ الله عز وجل لا يقطع الخير من عباده ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾.


هذا الجواب الذي أقوله لكم يا عباد الله عن سؤال قد يجول في خاطر بعضٍ منَّا أمام قوله عز وجل: ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ هذا الجواب ذكره بيان الله في السورة ذاتها قبل هذه الآية مباشرة ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ هذا هو الجواب، جاء الجواب قبل المشكلة التي تستثير السؤال، ولو بسط الله الرزق لعباده دائماً دون سؤال منهم ودون تضرع وقبل اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، لو رأوا أنَّ أرزاق السماء والأرض تهمي دون انقطاع وأنهم يتقلبوا في حابها صباح مساء ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾. وحسبكم مِنْ معنى البغي نسيان المنعم بسبب سكرهم بالنعم، حسبكم من البغي أن ينسى الإنسان وهو يتقلَّب في نعم الله سبحانه وتعالى ويسبح في بحارها أنَّه قد يتعرض مِنْ جراء ذلك للاختناق فكان مِنْ رحمة الله عز وجل أن ينـزل مِنَ الرزق بالقدر الذي يشاء وفي الوقت الذي يشاء ليسوس بذلك عباده ولكي يمنعهم مِنَ الطغيان والبغي ولكي يكونوا دائماً واقفين على باب الله ينتظرون الفضل مِنْ عند الله سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾ كما يشاؤون ﴿لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ أي لنسوا واجبهم المتمثل في الالتجاء إلى الله عز وجل.


فيم يُهْرَعون إلى صلاة الاستسقاء إذاً؟ فيم يبسطون أكفهم بالضراعة والمسألة إلى الله سبحانه وتعالى؟ فيم يعرِضون حاجاتهم وهم لا يحتاجون إلى شيء؟ فيم يتقربون إلى الله بذل افتقارهم وهم لا يشعرون بفقر؟ رزقهم موفور، طعامهم موفور، قطر السماء لا ينقطع، نبات الأرض متطاول مستمر، هذا معنى من معان البغي الذي يرحم الله عز وجل عبادَه المؤمنين ألا يقعوا فيه، ألا يقعوا في مغبة نسيانهم للإله المنعم المتفضل عليهم، ولكن عندما يأخذ الله عز وجل عبادَه بالرخاء آناً وبالشدة آناً آخر ويستمر الأمر على هذا المنوال فإنَّ الشأن في مَنْ كان مؤمناً بالله عز وجل ويتمتع بأرضية مِنْ مشاعر العبودية لله سبحانه وتعالى لابدَّ أن يكون شاكراً عند الرخاء متضرعاً ملتجئاً إلى الله سبحانه وتعالى عند الشدة ولابد أن يكون في كل حالٍ ملتزماً بأوامر الله سبحانه وتعالى سائراً على صراطه مبتعداً عن الشرود عن أوامره سبحانه وتعالى.


ولربما سأل سائل وهو يسمع كلام الله عز وجل في قراره الذي بَيَّنَه وفي الجواب عن السؤال الذي قد يطوف بذهن بعض السائلين ربما قال قائل: والجاحدون لربوبية الله والكافرون الذين شأنهم في الدنيا الطغيان والبغي لماذا نجد أن رزقهم موفور وأن نعيمهم ممتد لا ينقطع؟ سبحان ربي العليم الحكيم، لقد أجاب عن هذا السؤال في السورة ذاتها وفي المناسبة ذاتها، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾. هذا هو الجواب. ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾


هذا هو القانون الذي أوضحه لنا الله عز وجل، يرزق ولكنهم يذكرهم بين الحين والآخر بضرورة الالتجاء إلى الله، ومَنْ كان قد عزفت نفسه عن حرث الآخرة ولا يريد إلا نعيم الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى لا يقطع عنه نعيم الدنيا، يكرمه بنعيم الدنيا لا سيما إن قدم الثمن في دار الدنيا على الإكرام الذي جعله الله عز وجل قيمةً لذلك الثمن، كلُّ النَّاس الذين يقدمون الثمن لرأفة الله عز وجل بهم لابد أن يجدوا هذه الرأفة في حياتهم، مؤمنين كانوا أو جاحدين، كلُّ مجتمع يرعى القائمون عليه مبادئ العدالة، مبادئ التراحم، مبادئ حماية الحقوق فإن الله سبحانه وتعالى يكرمهم بما جعله ثمناً لهذا كله في دار الدنيا، ربنا سبحانه وتعالى عندما يكرمهم بالعطاء من السماء وعندما يكرمهم برغد العيش من الأرض وعندما يكرمهم بالنبات المتطاول في فصول السنة كلها فإنَّما يعطيهم ذلك كلَّه في الدنيا لقاءَ واجباتٍ إنسانية قاموا بها لكنَّهم لما أعرضوا عن الآخرة ولما لم يكن شأن لهم بها وربما لا يكونون مؤمنين بذلك اليوم فإنَّ الله عز وجل حصر نعيمهم في دار الدنيا.


لطفٌ مِنْ ألطاف رب العالمين ومعنى مِنْ أسمى معاني عدالة الله سبحانه وتعالى لعباده، هذا معنى قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ نعطيه ثواب ذلك في الدنيا والآخرة ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ لكن ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، هذا هو الجواب عن هذا السؤال، ما مِنْ إنسان يتلو كتاب الله بتدبر وتأمل إلا ويجد فيه الأجوبة الشافية عن المشكلات التي تطوف بذهنه.


وها نحن أيها الإخوة ربما يجسد واقعنا معنى مِنْ معاني هذه الآية الكريمة ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾. ربما جال القنوط واليأس في نفوس كثير من الناس وربما توهم المتوهمون أنَّ الدعاء المتصاعد مِنْ حلوق كثير مِنَ الناس إلى الله عز وجل لن يستجاب أو لم يُسْتَجَبْ ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ فاجأنا بالإكرام، وهذا معنى مِنْ معاني هذه الآية الكريمة، لا أقول فاجأنا بالإكرام بل نَبَّهَنَا مِنْ خلال ذلك إلى هذا الدرس العظيم، لابد للمسلم مِنْ أن يكون دائم الالتجاء إلى الله، ولما كانت رعوناته ورغائبه وشهواته ونشوته لرؤية النعم وهي تتراقص أمامه مِنْ شأن ذلك كله أن ينسيه المنعم المتفضل عليه فكان مِنْ رحمة الله به أن يقطع هذا الرفد عنه بين الحين والآخر، وربما تطاول أمد هذا القطع في سبيل أن نُهْرَع إلى الله عز وجل على كل المستويات، على كل الأصعدة، على اختلاف الرتب، نُهْرَع إلى الله عز وجل نتضرع إليه ونسأله أن يرفع هذا البلاء وأن يكرمنا بالرخاء بعد الشدة، وهذا الموقف يعلوا في قيمته على الرزق الذي ينتظره، التجاؤك إلى الله عز وجل فيه مِنَ الخير لك أكثر، أضعافاً مضاعفة، من الرزق الذي تنتظره من سماء الله تعالى وأرضه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي