مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/01/2007

عندما يزيغ القلب

عندما يزيغ القلب


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 05/01/2007


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبيٍّ أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على محمد وعلى آل محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسيَ المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ من أشراط الساعة وعلاماتِ قُربها كثرةَ الفتن كما أنبأنا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والفتن التي تكون علامةً على قُربِ الساعة متنوعةٌ ومختلفةٌ ولكن لعلَّ أخطرَها تلك التي تسري بالزيغ إلى العقول وإلى القلوب وهي التي أشار إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قال "ستكون بعدي فتنٌ كقطع الليل المظلم يصبح المرء فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل" تلك هي أخطر أنواع الفتن الفتنة التي تسري إلى العقل بالشكِّ والريب وتسري إلى الفؤاد بالزيغ، ولكن ما العاصم!!! ما العاصم من هذه الفتن التي حدَّث عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتي نرى اليوم مصداقها من حولنا!!


روى الترمذيُّ والدارميُّ من حديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى عليه وسلم قال "ستكون فتن كقطع الليل المظلم" فقال علي رضي الله عنه "ما العاصم منها يا رسول الله" قال "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم... إلى آخر ما قال"، إذاً العاصم يا عباد الله من الفتن التي حدَّث عنها رسول لله صلى الله عليه وسلم والتي نرى مصداق ما أخبر اليوم من حولنا، العاصمُ منها الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى فكلُّ من أقبل إلى كتابِ الله عزَّ وجلَّ يتلوه متدبراً، يتلوه متأمِّلا، يُحِلُّ حلالَهُ ويُحرِّم حرامَهُ ويلتزم بواجباتِهِ ويصطبغ بعِبَره وعِظَاته، فإنَّه سيكون في منجاةٍ من هذه الفتن لاسيما أخطرها ألا وهي فتنة الزيغ.


فتنة الزيغ إذ يسري إلى القلوب، والريب إذ يسري إلى العقول، عندما نقرأ كتاب الله عز وجل قرآءة تدبر، عندما نتلوا كتاب الله عز وجل ونحن نعلم أنه ينبغي أن يكون المهيمن على أفكارنا وأن يكون المسيطر على عواطفنا وأن نتخذ منه طهورنا ومغتسلنا لتطهير أفئدتنا من الأحقاد والضغائن وما جرَّ إلى ذلك فلا شكَّ أنَّ الله عز وجل سيجعل عندئذٍ من هذا الكتاب حصناً وأيَّ حصن، لا يمكن لشياطينِ الإنس والجن مهما تكاثروا من حولك أن يسرِّبوا ريباً إلى عقلك أو أن يُدخِلوا زيغاً إلى قلبك أو أن يضعوا في قلبك نقطة -لا أقول نقطاً- سوداء من نقاط الضغينة والحقد لاسيما من سبقونا بالإيمان، لاسيما على أولئك الذين كان لهم قدمُ السَّبْق وقدم صدقٍ عند ربهم سبحانه وتعالى، أمَّا من أعرض عن كتاب الله عز وجل أو أقبل إليه ولكن لأغراضه الدنيوية، لمصالحه الشخصية لتغية مزاجه وما أكثر أنواع الأمزجه فهذا ليس مقبلاً على كتاب الله، هذا في الحقيقة محجوب عن كتاب الله عز وجل بألفاظه، محجوب عن كتاب الله عز وجل  برعاية مصالحه والوقوف عند رغائبه.


من أخطر أنواع الفتن التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحقاد والضغائن، التي يمكن أن تسري عدواها إلى أفئدة كثيرٍ من الناس المؤمنين في الظاهر بالله سبحانه وتعالى، ولعلكم ترون هذا الزيغ التي تسري سحبه إلى أفئدة كثيرٍ من الناس لدوافع لا حاجة إلى بيانها والحديث عنها، يصبح الرجل وقلبه طاهرٌ نقي من الضغائن والأحقاد لاسيما على الرعيل الأول ممن سبقونا من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وإذا به بعد قليلٍ يعود إلى نفسه وقد أصابها رشاش من هذه الضغائن وهذه الأحقاد.


فتنٌ تتدجى كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "كظلمات الليل" أخطرها تلك الأحقاد والضغائن التي تسري إلى بعض النفوس اتجاه أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، اتجاه السلف الصالح، والمناظير التي توضع أمام الأبصار المناظير السوداء التي توضع أمام الأبصار هي مناظير من آثار هذه الفتن التي تحدث رسول الله صلى الله  عليه وسلم، من آثار الدخان الذي أنبأ عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


ما الذي يعصمني ويعصم قلبي ويبقيه نقياً طاهراً كما علَّمَني الله عز وجل وكما رُبيت منذ نشأت أظفاري في ظلال دين الله، في ظلال كتاب الله وتعاليم حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ما الذي يعصم هذا القلب من قالة السوء، من سوء الظن في حق أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم!! كتاب الله.


وتأمَّلوا يا عبادَ الله في مصداقِ كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ أجاب علياً عندما سأله "ما العاصم من الفتن" قال "كتاب الله"، تقرأ في كتاب الله شهادة يشهد بها الله عز وجل للمهاجرين من أصحاب رسول الله، يقول ﴿لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ ﴾ [الحشر-8]. تجده يشهد للأنصار أهل المدينة الذين استقبلوا المهاجرين، تجده يقول ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[الحشر-9]. شهادة من الله في قرآنه لهؤلاء وأولئك، ثم تتلوا بيان الله عز وجل وإذا هو يشهد لمن جاء من بعدهم يسير على قدمهم ﴿وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ﴾[الحشر-10]. ثم تتوج الشهادة الرباينة لهؤلاء وأولئك وأولئك بهذا الذي يُبيَّنه لنا الله عز وجل ألا وهو القلب الطاهر النقي من الغل والأحقاد، ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[الحشر-10].


أرأيتم كيف يكون كتاب الله عاصم للقلب عن الزغل، أرأيتم كيف يستطيع الانسان أن يلجأ إلى حصن كتاب الله عز وجل عندما تتدجى السحب الداكنة المنبثقة من قلوب مليئةٍ بالأحقاد، مليئةٍ بالغيظ الداكن الذي لا تستطيع شياطين الجن أن يحوكوا وأن ينثروا الدم مثله.


انظروا أيها الاخوة إلى شهادة الله مرة أخرى، لأصحاب رسول الله الذين بايعوه يوم صلح الحديبية ﴿لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ﴾[الفتح-18]. من هم!! هم جملة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذين بايعوه يوم صلح الحديبية ﴿فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾[الفتح-18]. تأملوا في هذه الشهادة الاخرى التي تشملهم جميعا بشرف الشاهدة الربانية  ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ﴾[الفتح-29]. شهادةٌ أولى وثانية وثالثة، شهادةٌ خاصة للمهاجرين من أصحاب رسول الله أهل مكة، شهادةٌ لعامَّة الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين من أهل المدينة، شهادةٌ ثالثة للذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يومَ صلح الحديبية، يومَ شاعَ وذاع أنَّ عثمان رضي الله عنه قد لقيَ حتفه وقُتل في مكة، شهادة أخرى لأصحاب رسول الله رضوان الله أجمع.


فيا عباد الله إذا رأيتم الخطب قد الدّهم وإذا رأيتم سواد الفتن يتدجى ويُقبل عن يمين وشمال وأردتم أن تفروا من هذه الفتن أيّاً  كانت وأن تجدوا المعتصم منها فاذكروا كلام رسول الله، ليس لكم ما تعتصمون به من هذه الفتن إلَّا اللجوء إلى كتاب الله، اللجوء إلى كتاب الله بعد أن نصطبغ بذُلِّ العبودية لله، نقبل إلى كتاب الله وشعورنا فيَّاض باليقين بأنني عبدٌ أسمع كلام الله الذي يخاطبني به.


ستجدون في كتاب الله عز وجل الملاذ من الفتن، لا سيما فتنة الزيغ، لا سيما فتنة الريب إذ تسري إلى القلوب، أمَّا فتنة القتل فلا يموت أحدٌ إلا بأجله يا عباد الله، أهونْ بها من فتنة، الفتنة الكبرى هي فتنة الزيغ، الهرج والمرج اللذان حدّثنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، لكن هل أنتم في ريب من أن الإنسان لا يموت إلا بأجله، إنما الفتنة الخطيرة أن يصبح الانسان مؤمناً ويمسي كافراً أن يصبح ذا قلب أبيض كالثلج طهور، وإذا بشياطين الإنس يُسْمِعونه ويفتنونه بكثيرٍ من الأكاذيب والدجل، لا يمسي إلَّا وقد وَقَر في نفسه -كثيرٌ أو قليلٌ- من الحقد على أصحاب رسول الله، من الحقد على بعضٍ من خلفاء رسول الله، لا سيما الخلفاء الراشدين.


هذا هو الأمر الخطير، تلك هي الفتن الخطيرة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يَقيَنا منها، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري "لا تسبُّوا أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أنفق مثل أُحْدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". لأنَّ في الناس اليوم من لا يثقون بكلام رسول الله، لعلَّ في الناس اليوم من يحقدون حتى على رسول لله ولكن ها هو كلام الله، قولوا لمن لا يريد أن يصدق كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم ماذا تقول في شهادة الله، ماذا تقول في شهادة الله لأصحاب البيعة، للمهاجرين للأنصار لعموم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضوان الله عن أصحاب رسول الله جميعا.


أسأل الله عز وجل أن يبرئنا من حب الذات، أن يطهرنا من حبِّ الأنا سواءٌ كانت الأنا الفردية أو الأنانية الجماعية، أسال الله سبحانه وتعالى أن يحرِّرَنا من اتباع القوم (القومية)، وما أخطر العصبية القومية إذ تُهيمن على الكيان، عندما أعود فأتذكر عصبيتي لقومي للحضارة التي كان قومي يتمتعون بها، ثمَّ انظر فأجد أنَّ الاسلام قضى على كل شيءٍ إلَّا على عمود الاسلام الذي يتلألأ فوقَ أرض الله الواسعة، عندئذٍ سأنظر إلى عمود الاسلام المتلألأ وكأنَّه شيءٌ أسود، يضيق عليِّ مسافة حظوظي وأهوائي.


لذلك نسأل لله عز وجل أن يحرِّرَنا من عصبياتنا لأنفسنا ولأقوامنا ولأجدادنا، وأن يجعلنا عبيداً لله عزَّ وجل، نتآخا في الله ونتوادُّ تحت مظلة العبودية لله، وتسري في ما بيننا جسور الحب تحت مظلة قوله عز وجل ﴿إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالرشد، وأن يجعلنا ممن يأوون ويلتجئون إلى كتابه سبحانه وتعالى متدبرين متبتلين مؤمنين بأنَّنَا عبيده وبأنه كلامه الذي شرفنا به. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.


                                                                                                                                                                                     


 

تحميل



تشغيل

صوتي