مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/06/2006

كرة القدم في ميزان العقل

كرة القدم في ميزان العقل
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 30/06/2006


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
روى الشيخان من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿إن الله فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم محرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان لها فلا تسألوا عنها﴾.
هذا من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوعب هذا الحديث الشرائع الإسلامية، فهي إما فرائض أوجبها الله علينا وحذرنا من تضيعها، وإما أمورٌ مباحة وضع حدوداً لها ما ينبغي أن نتجاوزها، وإما قائمة من المحرمات حذرنا من انتهاكها وارتكابها، وما سكت عنه فهو عفو وملحق بالمباح.
أما الفرائض التي فرضها الله عز وجل علينا فهي كثيرة كما تعلمون أيها الإخوة، وهي تنطلق من أركان الإسلام، وأولها أول هذه الأركان العملية، الصلاة وأول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة هي الصلاة. هذه الصلاة يحذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن نضيعها كما يحذرنا من تضييع سائر الفرائض الأخرى، لكنني أريد أن أتحدث عن الصلاة ذلك، لأنها إذا لم تضيع فلسوف تحفظ بقية الفرائض أيضاً، وإذا ضُيعت الصلاة فما أيسر أن يُضيع غيرها.
الصلاة ينبغي أن يُنشّأ عليها المسلم صغيرا ويجب أن يُؤخذ بها كبيرا، ويجب على المسلم أن يجعل من الصلاة أنيساً له حيث ما وجد وحيث ما ارتحل، إن كان موظفاً في دائرة فينبغي أن تكون الصلاة في أوقاتها أنيسه إلى جانب وظيفته التي يؤديها، وإن كان عاملاً في معملٍ أو شركة فينبغي أن يتخذ من صلاته غذاءه الذي ينعشه والذي يسعفه والذي ينجده ويسعده، وإذا كان هذا الإنسان جندياً في معسكر فينبغي أن يكون أنيسه الأول صلاته وينبغي أن يكون مصدر قوته المعنوية وشجاعته الإنسانية وغيرته على بلده ارتباطه بالله سبحانه وتعالى عن طريق الحياة.
هذه هي وصية المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿فرض فرائض فلا تضيعوها﴾ فمن حافظ على هذه الفرائض - وبوابتها وأسها الصلاة - فقد برهن على صدق دعواه عندما أعلن إسلامه، ومن ضيع الصلاة فهو كاذبٌ في دعواه في دار الدنيا بالحكم القضائي يعد مسلما، ولكنه عندما يرحل إلى الله يرحل إلى الله مجرداً عن إسلامه الذي يدعيه، إن رحل إلى الله وهو عاكفٌ على هذا النهج وهو معرضٌ عن فرائض الله سبحانه وتعالى ثم يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿وحدد حدوداً فلا تعتدوها﴾.
مساحة المباحات واسعة يا عباد الله وكثيرة، وقد اقتضت رحمة الله عز وجل بنا أن يسعفنا بهذه المساحة الواسعة وأن يترك لنا الخيار نتقلب في هذه المساحة الواسعة ونمارس المباحات التي أمكننا الله عز وجل منها كما نشاء، حتى إذا تجاوزنا حدودها ووصلنا إلى الخط الذي يبرز ويظهر حدود الله سبحانه وتعالى حد ما بين المباح وغيره، هنا يأتي الحظر الذي ينبهنا إليه كتاب الله عز وجل ويذكرنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
تقلب في مباحاتك كما تشاء ولكن إذا رأيت أن استعمالك لهذه المباحات تنتج آثاراً ضارة لجارك، لصديقك، لمن هو إلى جانبك فاعلم أنك قد تجاوزت الحد، واعلم أن المباح قد تحول إلى محرم، تقلب في مباحاتك من طعام، من شراب كما تشاء وتفنن في ذلك على مائدتك كما تحب، ولكن اعلم أنك إذا تجاوزت حد التمتع بالمباح نعمةً تستقبلها من الله عز وجل إلى حد الإسراف والتبذير فقد تجاوزت الحد، واذكر كلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم "حدد حدوداً فلا تعتدوها" تحول المباح بهذا التبذير الذي قصدت إليه إلى محرم ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾.
تقلب في المباحات من دارٍ ملكك الله عز وجل إياها أو متعك بها من ثياب فارهة، من عربة فارهةٍ تتمتع بها ولا عليك؛ مباح متعك الله عز وجل به وهو القائل: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. ولكن اعلم لذلك حدودا فإذا شعرت أنك تستعمل هذه المباحات من أجل أن تتباهى بها على إخوانك، من أجل أن تستكبر بالمباح على الآخرين فقد تحول المباح عندئذٍ إلى محرم، تحول إلى غذاءٍ لاستكبارك على عباد الله سبحانه وتعالى، ﴿حدد حدودا فلا تنتهكوها﴾ جعل الباري سبحانه وتعالى وهو الحكيم الرحيم، جعل المباحات قنطرةً إلى غايات، إلى أهداف مشروعة، مفيدة فالطعام وسيلة إلى غاية مفيدة بل مقدسة، ثيابك التي ترتديها، دارك التي تأويك، عربتك التي تنقلك من مكان إلى آخر كل ذلك وسائط لغايات، رياضتك البدنية التي تلزم نفسك بها وسيلة إلى غاية، غاية قدسية من أجل تنشيط الدورة الدموية، من أجل حماية صحتك من الآفات المتسللة إليها. ولكن اعلم أنك إذا قلبت الأمر فجعلت من الوسائل غايات، أو جعلت من الوسائل أموراً لا يقصدها الإنسان إلا لذاتها كما هو شأن المجانين، فاعلم أنك قد تجاوزت الحد الذي شرعه الله عز وجل لك.
أجل هذا معنى كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم. الإنسان الذي يلزم نفسه دورة بدنية عن طريق ناد من الأندية الرياضية أو عن طريق أجهزة في داره يمارس هذا العمل طبقاً للمواصفات المعروفة علمياً، فإذا أدى ما ينبغي عليه توقف، وإذا استرسل ثم استرسل تحولت الوسيلة من خير إلى وسيلة للهلاك، وإن هو ظل يمارس هذه الرياضة البدنية مراوحاً مكانه فقد تحول عمله كما قلت إلى نوع من الجنون.
تلك هي آفة العالم الإسلامي التي ورثها والتي انتقلت إليه مع ما تسفيه عليه رياح الغرب آفة العالم الإسلامي فيما يسمى كرة القدم، كرة القدم هذه أيها الإخوة أسائلكم أجيبوني: أهي غاية بحد ذاتها أم وسيلة إلى غاية؟ إن قلتم إنها غاية فقد حكمتم على هؤلاء الناس بالجنون بكل جدارة، إذا تقاذف فريقان الكرة فما معنى أن يسبق أحد الفريقين الآخر لقذف هذه الكرة إلى مرماها أو مكانها ما الذي تحقق من وراء ذلك؟ إذا قلنا إنها غاية تحققت هذه الغاية، ما الذي ناله المسلمون من وراء ذلك؟ فيما يهرجون ويصفقون، جنون بكل معنى الكلمة ولا يستطيع أحد أن يرد على هذا الذي أقوله إطلاقا.
وإن قلتم إنها وسيلة إلى غاية فأخبروني ما هي الغاية؟ الرياضة البدنية لها حد تحقق الفائدة منها إذا وقفت عند حدها وإذا تجاوزتها واخترقتها ذات اليمين وذات الشمال سقطت الغاية منه وتحولت من وسيلة إلى غاية، وأصبح الذي يمارسها كالذي يراوح في مكانه وهو لا يعلم لماذا يفعل ذلك؟
أجل أيها الإخوة بالأمس عشيةً كنت أمشي في شارعٍ من شوارع دمشق رأيت منظراً عجيباً غريباً شباب كثر يرفعون أعلام غريبة بأيديهم ذكوراً وإناثا، ويصرخون صرخات هستيرية عجيبة تساءلت في نفسي ما الذي حدث؟ هل نسف الجدار العنصري على أرض فلسطين؟ أم هل تحقق الحلم الذي تحلم به أمتنا فوصل الفلسطينيون إلى حقوقهم التي ظلوا يكافحون في سبيلها عشرات السنين؟ أم هل إن يد الطغيان ارتفعت عن أرض العراق؟ أم هل إن انطلاقة اقتصادية في بلادنا أكرمنا الله عز وجل بها؟ أم هل إن النزيف الذي نعاني منه جراحات دامية توقف؟
لا يحصل شيء من هذا بل البلاء يزيد ويتضاعف، نظرت كعاقل لابد أن يقدر الأمر ولابد أن يتساءل عن الحكمة، ماذا يعني أن البرازيل انتصرت أو أن الأرجنتين انتصرت؟ ماذا يعني ذلك ونحن نلعق جراحنا ونحن نعاني من أدواءنا ومصائبنا. وما هو المعنى العالمي إن في ميزان السلم أو في ميزان الإنسانية أو في ميزان القوى الذي تحقق بانتصار هؤلاء أو هؤلاء على قذف الكرة إلى مرماها ماذا؟ ماذا يعني ذلك؟ صرخات هستيرية أقسم بالله العظيم يتصايحون من هنا وهنا وهناك.
هذا الذي أقوله لكم أيها الإخوة ظاهرة مؤلمة، ظاهرة تدمي وأنا أقولها ولست مبالغاً إن شاء الله هذه الكرة التي ترونها تتحرك بين أقدام المتقاذفين والفرقاء المتسابقين إن هي إلا رمز لكرة العقل العربي المسلم التي تتقاذفه أيدي الطغيان، إنها ليست كرةً يتقاذفها الناس فيما بينهم على أرض، ولكنها رمزٌ لكرة العقل الإسلامي العربي الذي تتقاذفه دول الغرب اليوم من أجل أن ننسى جراحاتنا، من أجل أن ننسى مصائبنا.
أنا لست ضد الرياضة .. إسلامنا هو الذي يدعو إلى السباحة، إلى ركوب الخيل، إلى السباق لكن العاقل يعلم أن الوسيلة وسيلة وتقف عند الحد الأحمر عند الغاية فلا تتجاوزها، العاقل يعلم أن الوسيلة ما ينبغي أن تتحول إلى هدف بشكل من الأشكال، والفرق بين العاقل والجاهل هو أن العاقل يمارس الأسباب على أنها أسباب يستخدمها لبلوغ غاية، أما المجنون فهو ذاك الذي تختلط في مرآه الوسائل بالغايات. عندما أنظر إلى العالم العربي والإسلامي وقد جن جنونه لهذه الأمور التي لا تقدم شروى نقير، ولا تعالج جراحاته بشكل من الأشكال، أنظر وإذا بهذا العالم تحول إلى بيمارستان كبير يعج فيه المجانين. هذه هي الحقيقة يا عباد الله.
ثم أريد أن أقول لكم شيئاً آخر: نحن مسلمين نسير نعبر هذا العالم عبر قطار الرحلة؛ الرحلة التي قضى الله عز وجل علينا بها من هذه الحياة منذ ساعة الولادة إلى بوابة الموت، فبوابة الوقوف بين يدي الله عز وجل تلك هي قصة رحلتنا هذه ومن لم يؤمن بهذا اليوم آمن به غداً. أسأل نفسي وأسألكم: إنسانٌ يُجر إلى محكمة لابد أن يقف أمامها فإما أن يبرأ فيرى من وراء ذلك النعيم المقيم، وإما أن يجرم فيزج به بعد ذلك بالعذاب الأليم وهو لايعلم ما الذي ستقضي به هذه المحكمة، تصوروا أن هذا الإنسان يجر إلى هذه المحكمة ينظر إلى عبث العابثين وغنائهم فيرقص على وقع ذلك الغناء، يرقص على واقع عبث العابثين وهو يقاد إلى المحكمة، نحن مسلمين لا أقول عن غير المسلمين آمنا بالله، آمنا باليوم الآخر، آمنا بكلام ربنا الذي يقول عن تلك المحكمة ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾.
نحن المسلمين نعلم أن قطار الرحلة تغز بنا إلى تلك النهاية يا عجباً يا عجباً كيف ننسى ما نحن بصدده؟ كيف ننسى الرحلة التي نحن بصددها؟ كيف ننسى المآل؟ كيف ننسى الوقفة الآتية بين يدي رب العالمين ونتحول إلى هذا الجنون الغريب العجيب؟ مظاهر غريبة وعجيبة التقليد الأرعن لأولئك الناس وما كان التقليد يوماً إلا مظهراً من مظاهر ضعف الشخصية، إلا مظهراً من مظاهر القناعة والذل، أمتنا ينبغي أن تكون متبوعة لا تابعة.
متى يستيقظ قادة العالم العربي والإسلامي ليجعلوا من أجهزة الإعلام تربية لهذا الجيل، إيقاظاً لهم من هذا الجنون وارفعوا الحدود تفريقاً بين الوسائل والغايات. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعرفنا بهوياتنا وأن يهدي قادتنا وأن يجعل منهم رسل هداية. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي