مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/06/2006

حديث عن الموت

حديث عن الموت


الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 23/06/2006


 


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله  ..


إذا نازعت أحدكم نفسه أن تستجيب لنزواتها وأن تتبع شهواتها التي تتنافى مع أوامر الله عز وجل وشرعه، فليذكر ضجعة الموت فإنها تحرره من نزواته وتسمو به فوق شهواته.


وإذا رأى أحدكم أن رعوناته النفسية تستبد به وتدعوه إلى الاستكبار على الآخرين وظلمهم واستلاب حقوقهم فليذكر ضجعة الموت فإنها تحرره من رعوناته وتحرره من استكباره وتعيده إلى ساحة عبوديته لله سبحانه وتعالى.


وإذا رأى أحدكم أن أطماعه استبدت به ودفعته إلى أن يتخذ من الرشوة سبباً لإفساد البلد الذي هو فيه وعاملاً لشل فاعلية القوانين والشرائع في المجتمع الذي يعيش فيه فليذكر ضجعة الموت فإن من شأنها أن تقطعه عن أطماعه وأن تعيده إلى قناعته بما يسر الله سبحانه وتعالى له من رزق.


وإذا رأى أحدكم أن العمالة تستبد به وتدعوه إلى أن يجعل من نفسه مطية للعدو المتحكم بالأرض والمستبد بالعرض والطامع في الحقوق، فليذكر هو الآخر ضجعة الموت فإنه إذا تذكرها تحرر من عمالته وعاد عبداً مملوكاً لله سبحانه وتعالى.


وإن رأى أن أوامر الله سبحانه وتعالى ثقيلة عليه وأنه متقاعس عن أداء طاعاته وأوامره التي أمره بها، متقاعسٌ عن الانتهاء عن النواهي التي حذره منها فليذكر هو الآخر ضجعة الموت فإن من شأنها أن تجعله على مستوى الطاعة لمولاه وخالقه وأن تجعله متهيئاً لتنفيذ أوامر مولاه وربه.


ضجعة الموت يا عباد الله هي التي تقرب البعيد، وهي التي تيسر الصعب وهي التي تلين الحديد، وهي التي تجعل القليل كثيرا وتجعل الكثير قليلاً كما قال المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذكر في كثيرٍ﴾ أي من المعاصي ﴿إلا قلله وما ذكر في قليل﴾ أي من الطاعات "إلا كثره".


ومن أجل هذا يا عباد الله تفنن البيان الإلهي إن جاز هذا التعبير في الحديث عن الموت وتذكير الإنسان به بأساليب متنوعة شتى. مرة يقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾.


ومرة أخرى يقول: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾.


ومرة أخرى يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.


ومرة أخرى يقول موجهاً الخطاب إلى أفضل الورى وأحب الخلائق إلى الله عز وجل ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾.


فيم هذه الأساليب المتنوعة في الحديث عن الموت؟ من أجل أن نعلم أن تذكر الموت هو العلاج، هو العلاج الذي لابد أن يلجىء الإنسان منه ليفر به من رعونات نفسه، من نزواته، من أطماعه، من شيطانه بل من عدوى شياطين الجن والإنس أجمع؟


أرأيتم يا عباد الله إلى الكابح الذي يكبح عربة المسير، إنها من الأهمية بمكان، إنها في الواقع، في واقع الاستعمال تأتي بعد الانطلاق والتسيار ولكنها في الاعتبار والنظر والأهمية قبل الانطلاق والتسيار. فأنت عندما تجلس وراء المقود في عربتك ينبغي أن تتبين الكابح قبل أن تنطلق في المسير. الموت هو الكابح لعربة الحياة، فمن لم يتبين هذا الكابح وهو ينطلق في حياته لابد أن تقفز به عربة الحياة قفزاً كيفياً وتورده المهالك، هنا وهنا وهناك، ومن وضع هذا الكابح في اعتباره ثم بدأ رحلته الحياتية التي قضى بها الله عز وجل عليه فإنه لن يتعثر وإن تعثر وكبى فسرعان ما يعود إلى صراط الله المستقيم.


وهذا هو السبب يا عباد الله في أن الله عز وجل قدم الموت على الحياة في آية قد يتصور أحدنا أن مقتضى الواقع العملي الذي نعيشه ونراه أن تكون الحياة هي المقدمة. ألا تقرأون قول الله سبحانه ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾؟. الحياة هي المقدمة والموت يأتي على أعقاب الحياة ففيما قُدم الموت على الحياة؟! لأن الموت هو الكابح لعربة الحياة ولابد أن تتبين الكابح وأن توليه اهتمامك وأن تضعه في اعتبارك قبل أن تنطلق في ميادين الحياة وقبل أن تسير بها يميناً أو شمالاً أو أن تسير هي بك على يمينٍ أو شمالا. من لم يذكر هذه النهاية التي هو مقبل عليها فحدث عن المهالك التي سيردها ولا حرج، تحدث عن النزوات النفسية التي تقوده وتستعبده، تحدث عن الرعونات التي تزج به في ساحة بل في أودية الاستكبار على الله سبحانه وتعالى وعلى الخلائق وعلى الناس.


الإنسان الذي لم يضع في اعتباره هذا الكابح، كابح الموت الذي هو مقبلٌ عليه إن عاجلاً أو آجلاً سرعان ما تستعبده الأطماع ومن ثم يصبح عميلاً لمن؟ لعدوه ولعدو أمته وبلده، يفتح له المجالات الواسعة ليوفر له سبيل العدوان على الحقوق واغتصاب الأرض والعدوان على الأعراض والتلاعب بالقيم، التلاعب بالمبادئ وإنما كان ذلك كله من أجل أنه أصبح عبداً ذليلاً لأطماعه ولماذا أصبح عبداً ذليلاً لأطماعه؟ لأنه انطلق بعربة الحياة دون أن يتبين الكابح، دون أن يكون على ذكرٍ من كابح الموت الذي يتربص به.


لكن من أغرب ما يثير العجب يا عباد الله أن الإنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا عيش المخلدين، هو يعلم أنه ميت وهو يعلم أنه لا يدري متى ستأتي ساعة حينه، ربما كان بعد ساعات أو بعد أيام أو بعد أشهر أو بعد سنوات، لا يدري في أي موقع من طابور انتظار الموت يقف ومع ذلك يتقلب في هذه الحياة الدنيا تقلب المخلدين، لا يقيم للموت الذي يتربص به وزناً بشكل من الأشكال، ومن ثم فإنه إلا من رحم ربك يصبح عبداً لنزواته ولشهواته ولأهوائه ويصبح عبداً للأعداء الذين يتربصون به، يخشاهم ولا يخشى الله سبحانه وتعالى، يخافهم ولا يخاف الإله الذي خلقه، الإله الذي بيده أنفاسه الصاعدة والهابطة.


أرأيتم يا عباد الله لو أن إنساناً حُكم عليه بالإعدام ووقعت على هذا الإعدام من أعلى سلطة وأصبح ينتظر التنفيذ الذي لا يعلم ميقاته، هل يهنأ هذا الإنسان بشراب وإن ظمأ؟ هل يهنأ هذا الإنسان بطعامٍ وإن جاع؟ هل يهنأ هذا الإنسان برقاد وإن نعس؟ لا يهنأ بشيءٍ من ذلك كله لأن شبح الموت أمامه، علم أنه قد حكم عليه بالإعدام وإن لم يعلم الميقات الذي سينفذ فيه هذا الحكم.


ما الفرق بين هذا الذي حكم عليه بالإعدام من قبل إنسان مثله والإنسان الذي حُكم عليه بالموت من قبل خالق الموت سبحانه وتعالى؟ ألم يحكم علينا مولانا وخالقنا بالموت الذي يعبرون عنه بالإعدام؟ لماذا ينقطع ذلك الإنسان عن الحياة وأسبابها ويعيش مع الموت قبل أن يفد إليه الموت مهموماً محزونا ً في حين أن هذا الإنسان الذي حُكم عليه هو أيضاً بالموت ولا يعلم متى يطرق هذا الموت بابه؟ لماذا يتقلب تقلب المخلدين في داره بين شهواته وأهوائه، يعصي الله عز وجل على الرغم من التهديدات والنذر التي تأتيه؟ يجعل من نفسه مطيةً للعدو يمارس عمالةً لا أكبر منها ولا أذل وهو يعلم أن الموت الذي سيأتيه سيوقفه بين يدي مولاه وخالقه سبحانه وتعالى. يسيل لعابه وراء أطماعه القذرة التي تدفعه إلى زج مجتمعه في كل أسباب الفساد وأقلها الرشوة، تنظر إلى القوانين وإذا بها قد شُلت لأن أيدي الطامعين قد شلت فاعليتها، لماذا؟ لأنه قد نسي الموت، لماذا ينسى الموت من حكم الله عز وجل به ولا ينسى الموت إن حكم به إنسانٌ مثله ولعل ذلك الحاكم قد يموت قبله؟ شيءٌ غريب وعجيب.


هذا هو الدواء يا عباد الله كم وكم نتحدث عن الأوامر الربانية وأهميتها؟ كم وكم نذكر أنفسنا وإخواننا على مختلف المستويات بضرورة الالتزام بأوامر الله، بضرورة تنفيذ شرائع الله، بأن نعلم بأننا مخلوقون في هذه الحياة الدنيا لا من أجل شهوات نجنيها، ولا من أجل رعونات نقتطفها، ولا من أجل أطماعٍ نغذي أنفسنا بها وإنما من أجل أن نتحقق بعبوديتنا لله سبحانه وتعالى ... ومع ذلك لا نجد لهذه التذكرة تأثيرا. متى يغرس في كيان الإنسان التأثر؟ إذا كان الموت ماثلاً في ذهنه، وإذا كان في كل لحظة يتصور ملك الموت سيطرق عليه بابه.


كم وكم قلت وأعيد أمام التائهين الضالين من عباد الله عز وجل أمام الذين يعانقون أهواءهم وشهواتهم، أمام الذين يجادلون بالباطل عندما تقاد هذه الأمة إلى أسباب المهلكة إن في أخلاقها وإن في دينها وإن في مصيرها وحقوقها. كم وكم قلت بعد أن تطاول الجدل فلم يأتي الجدل بطائل .. قلت: لكم أن تثبتوا على آرائكم هذه، ولكم أن تعانقوا هذا الباطل الذي ترون أنه الحق ولكن بشرط واحد، بشرط أن تثبتوا على هذا الذي تدافعون عنه عندما تمتدون على فراش الموت، وعندما تشمون رائحته وقد أزكمت أنوفكم وعندما تجدون ملك الموت لا أقول طرق بابكم، لا بل وقف أمامكم، هل لكم في تلك الحالة أن تثبتوا على هذا الباطل الذي تدافعون عنه؟


إن كنتم في تلك الساعة مستعدين أن تثبتوا على باطلكم هذا فأهنئكم ببطولة ما مثلها بطولة، لكنكم تعلمون  كما أعلم أن نزواتكم ستفارقكم آنذاك، وأن رعوناتكم ستغيب عنكم آنذاك، وأن أطماعكم الملتحمة بكم ستذوب آنذاك، وأن استكباركم على الله وعلى شرائعه وعلى عباده سيتحول إلى ذل ما بعده ذل ولسوف تندمون في ساعة لا فائدة من الندم فيها.


لماذا تثبتون على شيء تعلمون أنكم ستندمون على الثبات به؟ لماذا؟ كم وكم من أناسٍ ندموا في ساعة لم تفيدهم فيها الندامة؟ أناس يعيشون حياتهم وكأنهم المتحكمون بزمام الكون وكأنهم أحرار في أن يفعلوا ما يشاؤون في أن يركلوا القيم التي لا تعجبهم وأن يخضعوا للنظم التي تعجبهم والتي تتفق مع أحلامهم حتى إذا ذبلت منهم الحياة ودلفت إليهم الشيخوخة واستبد بهم العجز وجاءهم الموت رأيت الواحد منهم قد أصبح كتلة من الندامة، أصبحت كتلة من الندامة والأعباء التي تحملتها على ظهرك وسوف تقبل بها إلى مولاك وخالقك ماذا ستفعل بها؟


لقد أسأت ولقد أفسدت ولقد ملأت الدنيا التي من حولك فسادا ثم إنك تريد أن ترحل إلى الله بشفاعة من ندامتك! لن تكون هذه الندامة شفيعاً.


ألا ليت أن الحديث عن الموت يطرق باب بل نفوس قادتنا، في عالمنا العربي والإسلامي.


ألا ليت أن حقيقة الموت هذه تتسرب إلى نفوسهم ثم تهيمن على مشاعرهم، إذاً لتحولواً إلى عبادٍ لله يمارسون عبوديتهم له، يجتمعون بعد تفرق، يعودون فيصطلحون مع الله عز وجل يأوبون إليه قبل أن تذهب الفرصة وتأتي من بعد ذلك دقائق الموت التي يتفجر شعور الإنسان فيها بالندامة ولا تفيد الندامة آنذاك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذكر الموت كابحاً لعربة الحياة التي شاء الله عز وجل أن نمتطيها إلى أمد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    


 

تحميل



تشغيل

صوتي