مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/05/2006

أهمية تفعيل مناهج التربية الإسلامية في مناهجنا

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله  ..


إن مما لا ريب فيه أن الفساد قد استشرى في أكثر مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، والفساد أصلٌ ذو فروع كثيرة متنوعة. وإذا انتشر الفساد بأصوله وفروعه الكثيرة المتنوعة، شُلت فعاليات الشرائع والقانون، فلم يعد في القانون معنى الردع، ولم تعد للشرائع هيبة تدخل في القلوب.


ولكن ما هو السر في هذا الفساد الذي يستشري اليوم في أكثر مجتمعاتنا؟


بكلمة مختصرة نقولها: إن مصدر الفساد دائماً يتمثل في سوء الخلق، فمن ساءت أخلاقه لا يُرجى منه الصدق إن تحدث بحديثٍ ما، ومن ساءت أخلاقه لا يُرجى منه الوفاء إذا عاهدك بعهدٍ ما، ومن ساء خلقه لا ترجى منه الأمانة إن كُلف بوظيفة أو عمل ما، ومن ساء خلقه لم يُنتظر منه الصدق في الحراسة والتضحية إن كُلف بحراسة ثغر أو كُلف بالدفاع عن وطن. صاحب الخلق الذميم لا يعبد في الحقيقة إلا نفسه ولا يرعى إلا حق ذاته وهو متهيأٌ لأن يضحي بكل شيء في سبيل رعوناته وفي سبيل رغائبه وأهوائه.


تلك هي خلاصة معنى سوء الخلق، مصدر الفساد الذي يستشري اليوم في مجتمعاتنا إنما هو سوء الخلق، وهي حقيقة لا ريب فيها، ولا يختلف فيها اثنان عندم يتحدثان عن هذه الظاهرة بل هذا الوباء الذي ينتشر وللأسف في مجتمعاتنا الإسلامية.


ما العاصم يا عباد الله من سوء الخلق؟ هل العاصم من سوء الخلق دروس الأخلاق التي يتلقاها التلاميذ في المدارس؟ لقد عرفنا وعرفتم أنها دروس تقليدية يتلقاها التلامذة ولكنهم لا يزدادون من ورائها إلا ضياعاً وسوءاً.


هل العاصم من سوء الخلق الفلسفة؟ ولقد جربت المجتمعات الإسلامية ولا تزال تجرب جدوى الفلسفة ونتائجها فما زادت وما تزيد أصحاب الأخلاق السيئة إلا ضياعاً وتيهاً وإلا إمعاناً في أخلاقهم الذميمة.


هل العاصم من سوء الخلق دراسة التاريخ الطبيعي أو الإنساني؟ كل ذلك يُدرس ومع ذلك فإن الأخلاق السيئة ما تزداد إلا سوء وكلكم يلاحظ ذلك.


العاصم الوحيد من سوء الخلق إنما هو رقابة الله، إنما هو شعور العبد بهويته عبداً مملوكاً لله عز وجل وبيقينه بأن له وقفة لاريب فيها بين يدي الله عز وجل. وبكلمة جامعة: العاصم من سوء الخلق إنما يتمثل في التربية الإسلامية، إذ يتلقاها الإنسان منذ نعومة أظفاره، يستبين هويته وتُغرس في عقله حقائق هذه الحياة الدنيا التي يعيشها، وتهيمن على مشاعره العواطف الوجدانية من مشاعر الحب لله والمخافة منه والتعظيم لحرماته، هذا هو العاصم من سوء الخلق. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".


ودونكم فانظروا إلى الأخلاق الذميمة التي كانت تسود الجزيرة العربية قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل الصحابة الذي يذخر التاريخ الإسلامي بمناقبهم كانوا قبل الإسلام مثالاً لسوء الخلق. ما الذي سما بهم إلى صعيد الأخلاق الإنسانية الراضية؟ هذه الرقابة التي أحدثكم عنها، التربية الإسلامية عرفوا أنفسهم، وقفوا على حقائق هوياتهم، عرفوا قصة الرحلة التي قضى الله عز وجل عليهم بها، عرفوا المصير الذي لا بد أن يؤولوا إليه فتحولوا من حالٍ إلى حال. خُلقوا خلقاً جديدا كما تعلمون.


إذاً العاصم الأوحد من الأخلاق الذميمة التي تنسف القيم الاجتماعية والتي تشل فاعلية القوانين وفعالية الشرائع، العاصم الوحيد من ذلك إنما هو التربية، التربية الإسلامية الحقيقية، إذ يؤخذ بها الإنسان منذ نعومة أظفاره بشكلٍ فعال.


من ذا الذي يشك في هذه الحقيقة يا عباد الله؟ التجارب دلت على ذلك طرداً وعكساً، فإذا كان الأمر كذلك ففيم نبخس التربية الإسلامية في المدارس حقها؟! إذا كانت هذه الحقيقة ماثلةً للأعين بينة أمام البصائر، لماذا نستبين بين حين وآخر مظاهر من الاستهانة بهذا العاصم الأوحد الذي يعصم الأمة من سوء الخلق، والذي يحقق لها الأخلاق الإنسانية الراضية، ومن ثم يبني لها ركائز المجتمع الإنساني الحضاري السليم؟


إذا كنا عرفنا جميعاً أن الذي يجعل الإنسان وفياً لعهده إن عاهد هو الخلق الإنساني السليم، الذي يجعل الإنسان أميناً على وظيفة عُهدت إليه فلا يخونها ولا يخون الناس من خلالها إنما هو الخلق الإنساني السليم، الذي يجعل الإنسان صادقاً في الدفاع عن وطنه وفي حماية مقدساته إنما هو الخلق الإنساني السليم، لماذا نستهين بينبوع هذا الخلق؟ وينبوع هذا الخلق واحد لا ثاني له: التربية الإسلامية الفعالة؛ إذ تتفاعل مع كيان الإنسان بالطرق المنهجية والتربوية السليمة.


من ذا الذي يجهل أن صاحب شركة أو معمل ما إذا احتاج إلى موظف أمينٍ يرعى صندوقه، لا يبحث عن هذا الإنسان إلا من خلال شخص عرف بدينه، عُرف باستقامته على الرشد حتى إن كان صاحب هذا العمل ملحداً، لأنه يعلم أن هذا الإنسان الذي نشأ في ظل التربية الإيمانية مراقباً لله عز وجل خائفاً من مولاه عز وجل، علم أن هذا الإنسان لن يخونه، لن يسرق، لن يرتشي. وكم وكم رأينا مظاهر لهذه الحقيقة، صاحب العمل تائهٌ فاسق أو صاحب الشركة كذلك ولكنه يريد إنساناً صادقاً إذا اعتمد عليه أمينا ًلا يخونه، يبحث بين الناس كلهم عن إنسانٍ عُرف بأنه نشأ في ظلال التربية الإسلامية المثلى.


هل يرتاب في هذا زيدٌ من الناس في مجتمعاتنا مهما كان شأنه من القمة إلى القاعدة الشعبية؟


ليس في الناس من يرتاب في هذه الحقيقة قط. هذا هو الواقع وكتاب الله جاء قبل هذا الواقع معلناً مبيناً: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" والحياة هنا كلمة تشمل كل معاني الحياة إذا دعاكم لما يحييكم، الحياة الحضارية، الحياة الاجتماعية المثلى، الحياة العادلة "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" ذلك هو القرار وهذا هو الواقع وكل منهما يصدق الآخر ويعانقه.


أعود فأقول لماذا الاستهانة بدروس التربية الدينية في مدارسنا؟ لماذا نتجاوز خطة إلى خطة ترمي التربص بهذه التربية؟ كأن سوء الأخلاق الذي منيت به مجتمعاتنا غير كاف وكأننا نحتاج إلى مزيد من الوسائل التي تشل فعالية القوانين، تشل فعالية الشرائع، تشل موازين العدل. هل نحن بحاجة إلى المزيد؟ كلنا يشكو الفساد في كل المناسبات يُقال ذلك لم يعد ذلك سراً خفياً تعالوا نبحث ما سبب الفساد؟ تعال نسأل الفلاسفة، نسأل الذين يدرسون علم الأخلاق، نسأل كل فئات الناس ما الذي يعصم الأمة من هذا الفساد وما الذي يجعلها تستشري في سبل التيه وفي مزيد من أسباب الفساد؟


الجواب هو هذا الذي ذكرته لكم الكل يعلم ذلك. العاصم الوحيد الذي يجتث أسباب الفساد بكل أنواعه والمجال لا يتسع لذكر هذه الأنواع، المجال الأوحد هو التربية منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وقادة المجتمعات والعلماء على اختلافهم يؤمنون بأن التربية هي العامود الأول في بناء المجتمع. ما التربية؟


التربية هي الوسائل التي يتم بها اخضاع النفس لقرار العقل، هذه هي التربية. الإنسان إذا لم يربى فهو عبد لرعوناته، عبدٌ لشهواته وغرائزه بعيدٌ عن الإصغاء إلى وحي عقله. ما الذي يجعله يخضع لعقله ويتحرر من رعوناته؟ التربية.


إذا كانت هذه الحقيقة واضحة فإنني أهيب بقادة المجتمعات وأناشدهم أن يرعوا حق الله أولاً في تربية النشء، هذا النشء أمانة أيها الإخوة بين أيدي قادة هذه الأمة، فُطروا على الإسلام خلقا ثم إن الله عز وجل طلب منا أن نتمم هذه الفطرة بالكفوة التربوية نأخذهم بها، لا تضيعوا حقاً أناطه الله في أعناقنا اتجاه هذا الجيل ثم أناشدكم الله عز وجل أن يسعوا سعيهم الجاد لاجتثاث هذا الفساد، وكلنا متعاونون في هذا الصدد وكلنا يدٌ واحدة في هذا الصدد، لكن تعالوا فلننظر أين يكمن الداء وأين هو الدواء؟ الداء معروف والدواء هو التربية.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم قادتنا الرشد وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادتنا في هذه البلدة وسائر بلادنا العربية والإسلامية أن يجعلوا من وزارة التربية مهداً للتربية الإسلامية قبل كل شيء، وأن يعلموا أن كل العلوم وسائر المعارف التي يتلقاها التلامذة في المدارس لا يمكن إلا أن تكون عبأً على المجتمع إن خلت هذه المناهج من التربية الفعالة لا التقليدية.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.    


 

تحميل



تشغيل

صوتي