مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/03/2006

العبودية

العبودية


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 17/03/2006


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من الثابت يقيناً أن الإنسان عبد مملوك لله سبحانه وتعالى، سواء كان مؤمناً أو كافراً، ملتزماً أو فاسقاً، وصدق الله القائل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً﴾ [مريم: 93-94]. ووظيفة العبد - بعد أن يعرف هُويته هذه - أن يمارس عبوديته لله عز وجل بالسلوك الاختياري كما قد خُلق عبداً لله عز وجل بواقعه الاضطراري. تلك هي خلاصة الوظيفة التي أقام الله سبحانه وتعالى عباده عليها في هذه الحياة الدنيا. فكيف تكون ممارسة العبد لعبوديته لله؟


ولتعلموا أن العبادة شيء والعبودية شيء آخر، وأنا ألفت نظركم في هذا الموقف إلى العبودية التي ينبغي أن يمارسها الإنسان لله عز وجل، تتحقق ممارسة العبد لعبوديته لله عز وجل بأمرين اثنين: أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى بصدق عند الشدائد والابتلاء، وأن يُقْبِل إلى الله عز وجل بالشكر عند السراء والرخاء، فإن هو ثابر على ذلك فقد مارس عبوديته لله عز وجل بالسلوك الاخيتاري بحق. غير أن الالتجاء إلى الله عز وجل لا يمكن أن يتم بصدق إلا بدافع، والدافع الذي يحمل الإنسان على الالتجاء إلى الله والالتصاق ببابه إنما هو الشدائد، ومن ثم فقد كان لابد من أن يبتلي الله عباده بها حتى تسوقهم إلى الشطر الأول من ممارسة العبودية لله عز وجل. كما أن شكر الله عز وجل لا يمكن أن يتم بصدق إلا إن سيق الإنسانُ إلى هذا الشكر بدافع نعمة أكرمه الله سبحانه وتعالى بها، بدافع رخاء، بدافع عطاء متّعة الله سبحانه وتعالى بهما. ومن هنا كانت الحكمة مقتضية أن تكون هذه الحياة الدنيا قائمة على دعامتين اثنتين: دعامة الابتلاء بالضراء، ودعامة الابتلاء بالسراء، وصدق الله عز وجل القائل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]. نبتليكم بالشر آناً؛ تُرى هل يسوقكم الشر إلى باب الله عز وجل ملتجئين منكسرين متضدعين؟ ونبلوكم بالخير آناً آخر؛ تُرى هل سيسوقكم هذا الخير إلى باب الله عز وجل بالحمد والثناء والشكر؟ فإن أنتم فعلتم ذلك فقد أديتم حق العبودية لله سبحانه وتعالى.


وإذا تأملنا أيها الإخوة في هذه الحكمة، علمنا أن الشدائد التي سمّاها الله عز وجل شراً ليست شراً إلا في الظاهر، أما في الباطن فهي من نِعم الله الخفية، هي من نِعم الله عز وجل الباطنة التي أشار إليها في قوله: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾ [لقمان:  20] هي شدائد وشر في الظاهر، لكنها في مآلها خير كبير. هذه الشدائد التي يبتلي الله عز وجل عباده بها كثيرة ومتنوعة؛ منها تسليط الله سبحانه وتعالى الأعداء على عباده الذين أعلنوا عن عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، لون من ألوان الشر الذي يشير إليه بيان الله عز وجل. من هذه الشدائد أن يحبس الله سبحانه وتعالى المطر عن عباده، وأن يحبس الأرض عن الإنبات، وأن يبتليهم بشيء من الشدة، أن يبتليهم بحالة من الجدب والقحط. من الشدائد التي يبتلي الله عز وجل بها عباده كي تسوقهم إلى رحاب المولى عز وجل متضرعين ملتجئين منكسرين الأمراضُ التي تتسرب إلى كيان الإنسان بإرادة وقضاء من الله سبحانه وتعالى ولحكمة. من الشدائد التي يبتلي الله عز وجل بها عباده الفقر. أمثلة كثيرة تجسد هذه الحقيقة التي يلفت بيان الله عز وجل أنظارنا إليها. ما الحكمة منها؟ الحكمة منها أن تستبين حقيقةُ العبودية في كيان الإنسان لله عز وجل، وأن يتبين مدى تفاعل الإنسان العبد مع عبوديته لله عز وجل، أفهو موقن بها ومتفاعل معها؟ إذن لابد أن تسوقه هذه الشدائد إلى الله عز وجل متضرعاً منكسراً آيباً متذللاً. ولا يشترط في مجيئ هذه الشدائد أن يكون الناسُ الذين ابتلوا بها آثمين، ربما لا يكونون آثمين، وإنما الحكمة من ذلك أن تستبين حقيقةُ العبودية في كيان الإنسان لله عز وجل. لقد ابتُلي الصالحون بالشدائد، بل ابتُلي الرسل والأنبياء بالشدائد، فساقتهم الشدائد إلى أعتاب الله سبحانه وتعالى، ساقتهم الشدائد إلى التضرع على باب الله عز وجل. وصدق الله القائل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 42-43] هذا حديث عن فئة أخرى من الناس حجبوا أنفسهم عن هُواياتهم وتجاهلوا عبوديتهم ومملوكيتهم لله سبحانه وتعالى، فكانت العاقبة أن أزال الله سبحانه وتعالى عنهم ابتلاء الشدائد المختلفة المتنوعة وزجهم في ساحة من النعم أسكرهم بها. هذا ما يقوله بيان الله سبحانه وتعالى منبهاً ومحذراً ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 43-44]، ومن لم تسقه الشدائد إلى باب الله متضرعاً متذللاً ملتجئاً، لن تسوقه النعم إلى باب الله عز وجل شاكراً وحامداً؛ لأنه محجوب عن هويته، فلا الشدائد تجعله يتذكر عبوديته لله عز وجل ليتضرع على بابه، ولا النعم تذكره بعبوديته لله عز وجل ليشكره على آلائه. هكذا يمارس العبد عبوديته لله سبحانه وتعالى. فإن هو وقف أمام باب الله، فرّ من الشدائد إلى أعتاب الله. فرّ منها إلى ساحة التضرع في باب الله عز وجل، فإن الله عز وجل يكشف عنه البأساء ويزيل عنه الضراء، وإن هو أقبل إلى الله عز وجل عند نعمه شاكراً بالمعنى الذي طلب الله عز وجل منا الشكر، حامداً بالمعنى الذي بينه لنا رسول الله ( لحقيقة الحمد، فإن الله عز وجل يزيد هذا الحامد والشاكر؛ فرداً كان أو جماعة، يزيده مِنناً ويزيده مِنَحاً ويزيده من فضله. ونحن أيها الإخوة نرى هذه السُّنة الربانية التي تتحقق في حياتنا، شدةُ ورخاء، نِعم وبأساء، نرى هذا ونرى ذاك، وأتساءل: أين هو الالتجاء إلى الله عز وجل عندما نرى الشدائد وعندما نُبْتلى بها؟ وأين هو الشكر للمنعم جل جلاله عندما نرى الرخاء وعندما نرى ألواناً من النعم والعطاء يكرمنا الله سبحانه وتعالى بهما؟ ابتلانا الله عز وجل بالأعداء سلطهم علينا كما تعرفون، ولعلهم سيزدادون تسلطاً، ولكن الحكمة من ذلك قد عرفتموها، الحكمة من ذلك أن تفوح رائحة العبودية بين جوانحنا لله على كل المستويات، بدءاً من القمة إلى القاعدة، أين هي ظاهرة الالتجاء إلى الله نعالج بها هذه الشدة التي انتابتنا؟ لا يكفي أن يُقْبل إلى الله سبحانه وتعالى الأفراد قلة هنا وهنا وهناك، في حين أن الابتلاء عام للجميع. المصيبة لم تداهم هؤلاء الأفراد، المصيبة داهمت بأخطارها الأمة كلها، وأول من تواجههم هذه الابتلاءات هم القادة، هم الحكام. أين هو الفرار منها إلى الله عز وجل؟ أين هي الاستجابة لقول الله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]؟ أنظر وأتـأمل فأجد أن الغفلة هي الغالبة، وأن الشرود عن باب الله سبحانه وتعالى هو الأكثر، وأتأمل وأتساءل: تُرى هل سيكون التجاء القلة النادرة شفيعاً للأمة كلها أمام هذه الشدائد؟ أسأل الله سبحانه وتعالى اللطف، إلى جانب هذه الشدائد التي تتهددنا هنالك ألوان من الرخاء أيضاً، ويطول الحديث عنها، أكرمنا الله عز وجل بها. وقد سبقت في كل عصر من العصور وبالنسبة إلى كل أمة من الأمم سبقت رحمته الله غضبه. وأتساءل: أين هم الشاكرون لنعم الله الشكر الذي طلب؟ والشكر هو أن نستعمل النعم التي متعنا الله بها لما قد خلقنا من أجله؟ للوظيفة التي خُلقنا من أجلها. هذا هو الشكر. أين هم الذين يشكرون نعم الله عز وجل التي تفد إليهم من هنا وهناك؟ وأنظر فأجد القلة النادرة هي التي تتجه إلى الله سبحانه وتعالى بالشكر، فماذا عسى أن تكون عاقبة أمة لا هي تلتجئ إلى الله عز وجل عند الشدائد، ولا هي تُقبل إلى الله عز وجل بالشكر عند النعم والرخاء؟ كيف تكون عاقبة هذه الأمة؟ أنظر إلى السماء وأتأمل وأنظر كرم الله سبحانه وتعالى في أمطار تهطل - والموسم موسم عطاء وكرم وأمطار - ولكني أنظر فأجدُ رائحة الصيف تَعُجّ هنا وهناك، وأتأمل فأجدني أمام لون من ألوان الشدائد يذكرنا الله عز وجل من خلالها بُهوّياتنا، آناً العدو الذي يتهددنا والذي سلطه الله علينا، آناً آخر هذا الجفاف الذي يتهددنا، آناً ثالثاً الأمراض وألوان من المصائب المختلفة التي يطول ذكرها. كل ذلك رسائل، رسائل من الله سبحانه وتعالى تدعونا بلطف إلى أن نلتجئ إليه، وهي تحمل ترجمة قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا﴾، هلاّ تضرعوا إذا جاءهم بأسنا. وأهم من ينبغي أن يكونوا في مقدمة المتضرعين القادة؛ قادة هذه الأمة هم الذين ينبغي أن يتضرعوا إلى الله عز وجل بصدق، في السر قبل العلن، لا على رؤوس الأشهاد ومن أجل التظاهر بالانتماء، وإنما في السر بينهم وبين الله سبحانه وتعالى وبصدق. إذن لأَبدلَ الله سبحانه وتعالى عسر هذه الأمة يسراً. أمة تتنكر لمولاها وخالقها لا هي عند الشدائد تؤوب وتتوب إلى الله عز وجل وتلجأ إليه، ولا هي عند الرخاء تشكره وتحمده وتثني عليه. كيف النتيجة؟ أسأل الله سبحانه وتعالى اللطف بهذه الأمة وأسأله سبحانه وتعالى أن يلهمنا صدق الإنابة إليه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي