مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/03/2006

الحوار منطلق قرآني في الدعوة إلى الله

الحوار منطلق قرآني في الدعوة إلى الله


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 03/03/2006


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


أحسِب أن كثيراً منا قد ابتعدوا في هذا العصر عن منهج الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، كما بينه لنا الله عز وجل في محكم تبيانه، وكما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال سلوكه وسنته. لذا تعالوا بنا في هذه الدقائق إلى بيان موجز لأصول الدعوة إلى الله عز وجل ومنهجها الأمثل كما أمر به الله وكما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


إن منطلق الدعوة إلى الله عز وجل يكمن في الحب في الله والبغض في الله. وقد روى الحاكم والطبراني والإمام أحمد من حديث عبد الله بن عباس وحديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿أوثق عُرى الإيمان الموالاة في الله والعداوة في الله، والحب في الله والبغض في الله﴾. من خلال حبك لله عز وجل وبُغْضك له يرتسم السبيل الأمثل إلى دعوة الآخرين إلى الله سبحانه وتعالى. من هذا المنطلق يجب إنكار المنكر، بل يجب استنكاره ويجب التنديد به، وإذا اقتضى الأمر أن يعاقب الوالغ في المنكر طبقاً لموازين الشريعة الإسلامية وجب ذلك. ولكن إنكار المنكر والتنديد به ومعاقبة الوالغ في المنكر إنما يكون ابتغاء العمل على هداية من قد وقع في التيه ومن قد انحرف عن منهج كتاب الله عز وجل وسنة رسوله. وما ينبغي أن يكون الدافع إلى ذلك شفاءً لحقد، إرواءً لغُلَّة. عندئذ لا يكون البغض بغضاً في الله، وإنما يكون بغضاً للنفس.


وكم في الناس من تاهوا ويتيهون اليوم في التفريق بين البغض في الله والبغض من أجل النفس وانتصاراً لرعوناتها. البغض في الله عز وجل الذي أمر به المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو أن تبغض المعصية في شخص العاصي. أما العاصي فتشفق عليه. أما البغض من أجل حظوظ النفس ومن أجل إرواء الحقد والضغائن فإنما يكون متجهاً إلى الشخص ذاته لا إلى المعصية. وفرق كبير بين الأمرين. تأملوا في قول سيدنا لوط لقومه، إذ قال: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ﴾ [الشعراء: 168]. أي إني لمعاصيكم التي ترتكبونها وتعكفون عليها من المبغضين. ولم يقل إني لأشخاصكم من القالين.


ذلك هو منهج النبوة وذلك هو النهج الذي دلنا عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


ومن ثم وانطلاقاً من هذه الحقيقة فواجب المسلم إذا رأى منكراً ارتكب في مكان ما؛ ينبغي أن ينكر هذا المنكر جُهدَ استطاعته، وينبغي أن يعلن بكل الوسائل الممكنة استنكاره لذلك المنكر، وينبغي أن يُنَدِّد به أيضاً. وإذا اقتضى الأمر لوناً من ألوان التأديب لمن أوغل في هذا المنكر ينبغي أن يمارس ذلك التأديب أيضاً؛ كالمقاطعة الاقتصادية ونحو ذلك. ولكن ما ينبغي أن يُتْرَك الأمر لداعي النفس والهوى، وما ينبغي أن تقود الإنسان إلى هذه المهمة رعونات نفسية وحظوظ مستكنّة بين جوانحه، فإنه إن فعل ذلك تاه عن الجادة وخرج عن الطريق.


آية هذا الذي أقوله لكم أو بعبارة أخرى الدليل على أن بُغْضي إنما هو في الله واستنكاري إنما هو لله والتنديد الذي قمت وقعدت به إنما هو من أجل الغيرة على حرمات الله، الدليل على ذلك أنني إذا دُعيت من قبل هؤلاء الوالغين في المنكر المرتكبين للمحظور، إذا دعيت من قبلهم إلى حوار إلى نقاش أستجيب لهم، وأفرح بهذه الدعوة. عندئذ ينبغي أن أطمئن إلى أن بغضي إنما هو في الله وأن الاستنكار والنديذ وما تبعه من ذيول إنما هو لله سبحانه وتعالى. ذلك لأنني لا أبتغي بهذا الذي قمت به أن أسيء إلى أشخاص أو أن أفرح بتعذيبهم أو إيذائهم أو الإساءة إليهم. وإنما الهدف من وراء ذلك أن أوقظهم إلى ما يأمر به الله عز وجل وأن أقنعهم بأنهم قد ارتكبوا خطأ وساروا في طريق من الشطط والبعد عما ينبغي أن يفعلوه. فإن رأيت بوادر الرجوع إلى الله متمثلاً في رغبة في الحوار وفي النقاش فذلك دليل على أن ما قد قصدتُ إليه قد قَرُب من التحقق والتطبيق، وعندئذ لابد أن أرحب وأفرح بهذه الدعوة وأستجيب لها. أما إن أعرضتُ وحجب الغضبُ دعوتهم هذه المتجهة إليّ، حجب غضبي ما بيني وبينهم من صلة؛ فلم أستمع إلى رغباتهم ولم أُعِرْ طلبهم أي انتباه ولا اهتمام؛ وترفعت عن مستوى الحوار معهم والنقاش في هذا الأمر فلأَعلم أن غضبي لم يكن لله إنما كان لنفسي ولهوى بين جنبيّ واستجابة لرعونات مستكنة بين جوانحي.


هذه الظاهرة تضعني أمام الفرق بين الدعوة الصادقة لله عز وجل التي يتطابق ظاهر اللسان فيها مع باطن القصد والنية ويستبين من هذا الفارق أيضاً الحالات الأخرى. ذلك أيها الإخوة لأن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لها عمود فقري واحد لا ثاني هل؛ هو الحوار محاورة من تريد أن تدعوهم إلى الله عز وجل، سواء كانوا من أبناء جلدتك من الأقربين إليك، أو كانوا من الأباعد، أو كانوا حتى من أعدائك، أو كانوا حتى ممن قامت بيننا وبينهم معارك وحروب، الحوار بين المسلم وبين الآخرين أياً كانوا هو العمود الفقري للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.


واليوم ننظر فنجد أن الناس الذي وجد فيهم من أساء إلى دين الله عز وجل وإلى المسلمين من خلال التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ننظر وإذا بكثرة كاثرة منهم تدعو المسلمين إلى أن يحاوروهم في هذا الدين؛ لأنهم لا يعلمون عنه شيئاً، عندما ننظر فنجد أنهم جادون في هذه الدعوة إلى الحوار، ما الذي ينبغي أن نفعل؟ ليس لنا في هذه الحالة خيار، إن كنا صادقين في رفع لواء الدعوة إلى الله عز وجل والتعريف بدين الله سبحانه وتعالى ليس لنا خيار لأن الله عز وجل قطع سبيل الخيار أمامنا عندما قال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]. جادلهم؛ جادل مَن؟ جادل الآخرين أياً كانوا، أياً كانوا: مسالمين، محاربين، من الأباعد، من الأقارب، من أبناء جلدتنا، أياً كانوا إذا فتحوا باب الحوار فإياكم أن تعرضوا عنه أو أن تغلقوا مما بينكم وبينهم بابه. إذن لا خيار لنا قط بشكل من الأشكال.


فإذا سمعتم أصواتاً ترتفع هنا أو هناك تدعو إلى نبذ هذا الاستدعاء، والإعراض عن هذا الطلب، وتدعو إلى عدم الحوار، ومقاطعة ما بيننا وبين أولئك الذين أوغلوا بالأمس في هذا المنكر، فلتعلموا أنهم بعيدون عن البغض في الله، ولتعلموا أن التنديد الذي مارسوه، مارسوه لذاته. لا من أجل أن يكون التنديد خادماً للدعوة إلى دين الله. ولتعلموا أن ما دعونا إليه بالأمس من المقاطعة الاقتصادية وغيرها؛ إنما طُلِب ونُفِّذ لذاته. لا من أجل أن يساق أولئك الناس بطريقة ما إلى أن يعودوا عن غيِّهم، إلى أن يعودوا إلى رشدهم، هؤلاء الذين يأبون الاستجابة للحوار، إنما بغضهم لأنفسهم، لإرواء أحقادهم، لإرواء رعونات نفسية بين جوانحهم، الصورة صورة غضبة لله، والحقيقة ليست كذلك. ونحن نعاني اليوم أيها الإخوة من ظاهر مخالف للباطن، هذا بلاؤنا الأطم بالنسبة لواقع المسلمين اليوم، ظاهرنا مبشر وباطننا يبعث على التشاؤم.


هل لنا من خيار في أن نعرض عن الحوار الذي ندعى إليه؟ ولنفترض أن هذا الحوار محكوم عليه بالفشل سلفاً، هل نحن الذين نقدّر النهايات؛ أم الله سبحانه وتعالى؟ نحن مكلفون بتنفيذ الأوامر، أما ثمار هذه الأوامر فهي بيد الله سبحانه وتعالى. قال لي الله: ﴿وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125] إذن ينبغي أن أقول: سمعاً وطاعة، سأجادلهم. ربما نجح الجدل وربما لم ينجح، وفي كلتا الحالتين ينبغي أن أسمع وأطيع. ألا ترون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ضحّى يوم الرجيع في سبيل الحوار بسبعة من أفضل أصحابه، ضحّى بهم، قتلوا جميعاً في سبيل الحوار وفي سبيل النقاش على طريق الدعوة إلى الله عز وجل. وبعد أقل من عام ضحّى المصطفى صلى الله عليه وسلم بسبعين من أصحابه يوم بئر معونة في سبيل الحوار، لم يقل إن هؤلاء الذين سأرسلهم إلى نجد ليحاورا المشركين ربما لن يستفيدوا من حوارهم شيئاً، فيم أغامر بحياتهم، لم يقلها، لأنه مأمور بشيء محدد، مأمور من قبل مولاه بأن يحاور ويجادل الآخرين، ولم يكشف الله له سجاف الغيب، ولم يعطه حق القضاء على الأمر بموجب النتائج. أذكر هذا الموقف لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الرجيع في سبيل الحوار مع الآخرين غامر بحياة سبعة من أفضل وأبرز أصحابه، بعد أقل من عام أرسل سبعين من أصحابه إلى نجد دعاة إلى الله، أي محاورين، أي مناقشين ومجادلين، لم يرجع منهم إلا واحد.


واليوم نسمع من يقول: ليس بيننا وبين أولئك الذين ارتكبوا بالأمس ذلك المنكر أو تلك المعصية ليس بيننا وبينهم حوار. إذن ما الذي بينك وبيهم يا أخ؟ ماذا بينك وبينهم؟ بينك وبينهم الحقد؟ الضغيننة؟ أناس يقولون: تعالوا حاورونا، نحن لا نعلم عن إسلامكم شيئاً، تعالوا ناقشونا، حدِّثونا عن نبيكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويأتي من يقول: لا. لكن ما المشكلة أيها الإخوة؟ المشكلة أننا في هذا العصر كثيراً ما نوظف إسلامنا لمصالحنا. كثيراً ما نوظف منهج دعوتنا إلى الله عز وجل لمصالحنا الشخصية، لانتماءاتنا الحزبية - وأقولها بصراحة - أجل أيها الإخوة. وعندما أنظر فأجد حال المسلمين فيه هذا البلاء الأطم، فيه هذه الجرثومة الخطيرة كيف أستطيع أن أتفاءل بعد مشرق ينتصر فيه دين الله سبحانه وتعالى؟ نعم، أنا أتفاءل، ولكنه انتصار سيأتي على أيدي أناس آخرين. أغلب الظن أن الإسلام الذي سينتصر يقيناً تنفيذاً لما وعد به الله عز وجل إنما يكون انتصاره بواسطة أناس صدقوا مع الله عز وجل، صدقت سرائرهم مع الله قبل ألسنتهم، هؤلاء أناس يتكاثرون ويعيدون في سلوكهم ومنهجهم سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


وأخيراً فأنا فيما قلت لا أدعو إلى التراجع عن شيء دعوت إليه، الاستنكار يجب وينبغي أن يستمر، التنديد بما فعلته بعض الصحف الأوربية ينبغي أن يستمر، وعقاب المقاطعة الاقتصادية ينبغي أن يستمر، ونحن أحرار. الأصل في الأمة الإسلامية أن يكون الصادر والوارد في سبكة حياتها الاقتصادية بينها، لا تخرج في حاجاتها وسلعها الاقتصادية إلى خارج دائرتها الإسلامية، بقطع النظر عن مشكلات بيننا وبين الآخرين، لماذا لا يكون هنالك تكامل اقتصادي بيننا كما هو موجود في حياة الدول الأوربية اليوم؟ دعوكم من الأسباب التي من أجلها ندعو إلى القطيعة، ينبغي لهذه الأمة ألا تحتاج في استقدام سلعة أو بضاعة إلا من إخوانهم المسلمين في بلادهم الإسلامية. هذا مع صلة الإنسانية التي ينبغي أن تسري بيننا وبين الآخرين جميعاً، ولكن هذا الذي دعونا إليه شيء، وما نُدعى نحن اليوم إليه من الحوار مع أولئك الآخرين شيء، كلا الخطين ينبغي أن يسيرا إرضاء لحكم الله سبحانه وتعالى. غضبنا ليس لأنفسنا، وإنما هو لمولانا وخالقنا، وسبب الغضب: المعصية، لا الأشخاص، أما الأشخاص: كلهم نحن نشفق عليهم، نحن نود أن تتحقق لهم الهداية كما تحققت لنا، ونود ألا يكونوا يوم القيامة حطباً لنار جهنم. بهذا الدافع ننصحهم، وبهذا الدافع ندعوهم، وبهذا الدافع ينبغي أن نستجيب لحوارهم إذا طلبوا.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي