مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/01/2006

لماذا تخلف المسلمون حضارياً

لماذا تخلف المسلمون حضارياً


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 20/01/2006


القاهرة بمسجد حراء


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد، فيا عباد الله‏:‏


سؤال ما يزال يتطارحه كثير من الناس، بعض منهم يتطارحونه بحثاً عن المعرفة وتخلصاً من الجهل وأسبابه، والبعض الآخر يطرحونه من أجل بعث مزيد من الريب والشكوك في دين الله سبحانه وتعالى.


السؤال هو ما يخطر في بال كثير من الناس: من أن دول البغي والظلم ماضية في بغيها، ماضية في طغيانها واستكبارها على الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهي تتقلب في نعيم وافر، وهي تعيش حياة سعيدة، وتتقلب في رغد من العيش. والمسلمون وإن كان اليوم قد تناسوا الكثير من مبادئهم الفكرية والسلوكية ولكن صلتهم بالله عز وجل لا تزال قائمة، واعترافهم بعبوديتهم لله عز وجل لا يزال موفوراً، ومع ذلك فهم يعانون من تخلف إثر تحلف، ويعانون من ضعف بعد ضعف، فأين هو مصداق ما يعد الله عز وجل به عباده الصالحين وما يتوعد به الطغاة والمارقين؟


هذا هو السؤال الملح الذي يتطارحه كثير من الناس.


وقبل أن أجيب عن هذا السؤال - أيها الإخوة - ينبغي أن ألفت النظر إلى مشكلة هي مبعث كثير من هذه الأسئلة وأمثالها.


كثيرون هم الذين لا يعودون إلى كتاب الله عز وجل ليتبينوا فيه سنن الله في عباده وقوانينه التي يأخذهم بها. ولو أنهم فعلوا ذلك - بقطع النظر عن المنهج الذي ابتغوه والعقيدة التي تمسكوا بها - إذن لأغناهم ذلك عن طرح هذا السؤال، ولوحدوا الجواب عنه في تضاعيف كتاب الله سبحانه وتعالى.


يقول ربنا عز وجل في محكم تبيانه: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ [الإسراء: 20] هذا قانون أيها الإخوة. وكم في كتاب الله عز وجل من آيات تشرحه وتبينه. ومعنى هذا الكلام الرباني: أن الله عز وجل جلّلت حكمته قضى وهو العدل أن يعطي كل أمة أياً كان نهجها وأياً كان معتقدها، أن يعطيها في دار الدنيا ثمرة جهودها، ثمرة أتعابها. فالأمة أو الفرد الذي يبذل الجهد ويصبّ العرق في سبيل غاية يسعى إليها يدفع الثمن لبلوغ هذه الغاية، من الجهد الذي ينبغي أن يدفعه، من الفكر الذي ينبغي أن يتمتع به، فلابد أن يكرمه الله سبحانه وتعالى بثمار جهده هذا. مؤمناً كان أم كافراً مستكبراً على الله سبحانه وتعالى، أم متجلبباً بجلباب العبودية له.


هذا معنى قول الله تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾


تعالوا فانظروا من خلال هذه الآية، بل من خلال هذه السنة؛ إلى الجواب الدقيق المطمئن عن هذا السؤال.


دول البغي هذه أيها الإخوة بذلت في يوم من الأيام ما بذلته من جهد، وبذلت ما بذلته من عرق، وجهود كثيرة مختلفة من أجل إنشاء حضارة، من أجل الرقي إلى مستوى باسق من العلم في ذلك الوقت، وحسب معايير ذلك الزمان، كان لابد بناء على هذه السنة الربانية أن يوصلها الله عز وجل إلى ما ابتغت، وأن يحقق لها ثمار جهودها تلك بقطع النظر عن معتقداتها بقطع النظر عن صلتها بالله سبحانه وتعالى. هذه الأمم تتمتع اليوم بثمرات جهود سابقة بذلتها، تتمتع اليوم بثمرات جهود ارتقت من خلالها في سُلَّم الرقي علماً وتقدماً وحضارة واقتصاداً وقوة.


تعالوا ننظر الآن إلى الأمة العربية وإلى مهد الرسالة الإسلامية إلى الجزيرة العربية. كيف كانت هذه الجزيرة العربية؟ وكيف كانت الأمة العربية التي من حولها؟ كانت كما تعرفون مضرب المثل في الجهالة وفي التخلف وفي الضعف وفي الفقر، ولم تكن تبذل أي جهد للتخلص من شيء من هذه المعاناة التي كانت قد رانت عليها، ولا داعي إلى أن نفتح ملف التاريخ لبيان هذه الحقيقة، إنْ في الجزيرة العربية أو في أي صقع من الأصقاع القريبة منها أو المحيطة بها. ولكن الله عز وجل تدارك هؤلاء الناس المتخلفين التائهين الكسالى الذين كانوا يرقدون في مهد الجهالة والدَّعة، تداركهم الله عز وجل بالإسلام وأكرمهم ببعثة خاتم الرسل والأنبياء الذي جدَّد الإسلام. ولا أقول: أوجد الإسلام - جدد الإسلام، فالإسلام هو الدين الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء منذ فجر الوجود الإنساني. ولما هداهم الله عز وجل لأيٍ وبعد جُهد وبعد جهاد؛ لما شرح الله عز وجل صدرهم للإسلام فاعتنقوا هذا الدين بصدق؛ نقلتهم السنة الربانية بموجب قانون آخر نقرؤه في كتاب الله عز وجل طفرة من قاع التخلف إلى أعلى قمم القوة والحضارة والرقي والعلم. هل بذلت هذه الأمة - أيها الإخوة - جُهداً كالذي بذلته الأمم الأخرى في سبيل قوة، في سبيل علم، في سبيل حضارة؟ إطلاقاً. إنما الذي انتشلهم من ذلك الوادي السحيق إلى قمة القوة والحضارة إنما هو الإسلام، سُلَّم الإسلام، سُلَّم الإسلام هو الذي جعلهم يتعشقون العلم، سُلّم الإسلام هو جعلهم يتعشقون القوة ﴿المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف﴾. سُلم الإسلام هو الذي وحدهم بعد شتات.


أرأيتم إلى هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ فماذا يقول قانون الله عز وجل؟


يقول هذا القانون الذي ينبغي أن نتدبره كأنه يقول لهذه الأمة: ما دمتم أمناء على هذا الدين الذي سما بكم، ما دمتم مخلصين لسُلَّم الإسلام الذي ارتقى بكم طفرة إلى صعيد القوة فالحضارة التي كسَفَت الحضارات الأخرى؛ فلسوف تظلون في متعة، ولسوف تزداد دون قوة إلى قوتكم.


هذه الحقيقة أدركها الرعيل الأول، أدركها أصحاب رسول الله، أدركها التابعون، فمن بعدهم ومن بعدهم. ولذلك تمسكوا بهذا السُلّم الذي سما بهم، لأنهم عرفوا أنهم لو تنكروا له فلابد أن يرجعوا إلى النقطة التي انطلقوا منها. أجل. واليوم ما هي حال المسلمين أيها الإخوة؟ هل هم لا يزالون أمناء على هذا الدين الذي انتشلهم من ضعف؟ سما بهم إلى القوة بعد الضعف، إلى العلم بعد الجهل، إلى الاتحاد بعد التخاذل والشتات والخصام؟ هل لا يزالون أمناء؟


دعكم أيها الإخوة من الأفراد، دعكم من الثغرات التي نحمد الله عز وجل على أنها لا تزال مَشْرِقاً لحقائق الإسلام والدعوة إليها. لكنني استنهض أفكاركم للنظر في عامة الوضع الإسلامي؛ بدءاً من القيادات إلى القاعدة الشعبية، المسلمون اليوم في مجموعهم - لا أقول في جميعهم - تبرموا بهذا الدين، وكأنه طعام طال بهم العهد في تناوله حتى اجتروه وملُّوه فهم يبحثون عن طعام آخر. يجلسون على مائدة الإسلام ولكنهم يلتفتون يميناً وشمالاً بحثاً عن أطعمة أخرى هنا وهناك تلوح لهم.


دعوة الحداثة تعرفونها.. العلمانية تسمعون بها، التبديل والتغيير الذي تسمعون الحديث عنه والدعوة إليه صباح ومساء.


ولا أريد هنا أيضاً في هذه الوقفة القصيرة أن أفتح ملف المواقف التي تتعارض مع دين الله سبحانه وتعالى، المواقف التي تحلم بخلع هذا الرداء والاستبدال بغيره، فالوقت يضيق عن ذلك. إذن هذه الأمة في مجموعها اليوم تعلن بلسان حالها أنها قد تبرمت من هذا الدين ومبادئه وشرائعه وأحكامه، كان الرب عز وجل يخاطبنا قائلاً: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل ‌عمران: 28] وأكثرنا اليوم يقول بلسان الحال: بل لابد أن أتولى هؤلاء الطغاة المارقين الخارجين على أوامر الله وسلطانه، لأنهم الأقوياء، ولابد أن ندعم ضعفنا بقوتهم. ربنا سبحانه وتعالى أهاب بنا ألا نبدل دين الله عز وجل، وحذّرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا التبديل والتغيير، وأنبأنا عن الذين سيذادون (يُطْرَدون) عن حوض المصطفى يوم القيامة لأنهم بدّلوا وغيرّوا في حياتهم التي كانوا يعيشونها، ومن ثم فلسوف يقول لهم: سحقاً وسحقاً وسحقاً.


ما الذي ننتظره أيها الإخوة وقد سمعتم الآن قانوناً من قوانين الله عز وجل التي ألزم الله بها ذاته في محكم تبيانه؟ عندما تقول هذه الأمة، وهي لا تزال تنتشي بالنصر الذي متعها الله به، لا تزال تنتشي بذكرى القوة التي أكرمها الله عز وجل بها، الحضارة التي توج فكرها بها، عندما يرانا الله عز وجل.


ونحن نريد أن نخلع رداء هذا الدين ونستبدل به غيره، عندما يرانا الله عز وجل وإن أعيننا تشت ذات اليمين وذات اليسار افتتاناً بما عند الآخرين؛ لابد بمقتضى هذا القانون أن يقول لنا الله عز وجل: حسناً فارجعوا إلى ما أترفتم فيه، ارجعوا إلى ما كنتم عليه، إن كانت لكم جهود بذلتموها بعيداً عن الدين وسُلم الإسلام للوصول إلى الشأو الذي أوصلتكم إليه فانعموا بهذا الشأ وبناء على الجهود التي بذلتموها.


وتعود هذه الأمة لتلتفت إلى الوراء ستجد أنها لن تبذل من الجهود التي بذلتها الأمم الأخرى شيئاً إطلاقاً، إنما هو الإسلام. ومن ثم فما ينبغي أن نتعجب إذا رأينا وقد ركل كثير منا هذا السُّلم، سُلم الإسلام برجله، إذ رأى نفسه وهو ينتشي في قمة القوة والحضارة وما إلى ذلك - لا يتعجبنَّ إن اقتضاه قانون الله عز وجل أن يعود إلى القاع الذي كان فيه إلى أسفل الوادي الذي انتشله الله عز وجل منه، تلك هي سنة الله.


أما الآخرون، لماذا يتمتع أولئك الطغاة بقوة لا نتمتع بها؟ لماذا يتمتعون بعلوم لا يتأتى لنا الوصول إلى شأوها؟ أولئك بذلوا الجهد عَرَقُوا، فعلوا ما ينبغي أن يفعلوه من أجل دنياهم - والرب عادل، لا يتحيّز لفئة من عباده ضد فئة، ميزان العدالة لابد أن يُطَبَّق ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ﴾ بذلوا الجهد ومن ثم لابد أن يقطفوا ثمار جهودهم.


أيها الإخوة دعوني أضرب لكم هذا المثل لأنه يجسد هذه الحقيقة التي أقولها لكم:


أسرة زجها الضعف والفقر في العراء. أسرة: زوج وزوجة وأولاد. مرّ بهذه الأسرة رجل غني شهم كريم، تحرك قلبه بالشفقة على هذه الأسرة، نظر إليها، أخذها وأقام هذه الأسرة في بنيان بازخ، فيه من النعمة كل ما يحلم به الإنسان، وكل ما يحتاج إليه، وأجرى على هذه الأسرة جِراية من المال كافية وافية، دون أن تبذل هذه الأسرة أي جُهد، تمتعت هذه الأسرة أمداً بهذه النعمة، ورأت حلماً ما كانت تتصور أن يُطَبَّق وأن يُحَقَّق، ولكن الأهواء طافت برؤوسها، وسُكْر النعمة هيمن على مشاعرها، فتنكرت لهذا الرجل، ولم تعد تقيم له وزناً، أو تحرك لسانها بأي شكر له، بل أخذ أفراد هذه الأسرة كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً يُعرِضون عنه ويتسامون عليه. ما الذي ينتظره المنطق وأصحابه؟ ما الذي ينبغي أن ينتظره أفراد هذه الأسرة؟ الشيء الطبيعي أن يطرق هذا الرجل الشهم الكريم باب هذه الأسرة وأن يقول لربها: يبدو أنكم لم تعودوا محتاجين إلي. وإن كان الأمر كما أظن وكما أتوقع فتفضلوا واخرجوا إلى الجهود التي جعلتكم تستغنون عني، اخرجوا إلى ثمار قُوَّتكم غناكم أموالكم التي جعلتكم في غنىً عن عطاء مثلي. لابد أن يقول لهم هذا الكلام. فإن قال لهم رب هذه الأسرة ولكن انظر إلى البيوت الأخرى مالك لا تطردهم أيضاً منها؟ لماذا تُخْرِجنا نحن والناس الآخرون من حولنا يتمتعون بمثل ما نتمتع به، هلاّ طردتهم كما تطردنا؟ الجواب واضح أيها الإخوة أم لا؟ سيقول لهم: أولئك بذلوا جهودهم في بناء بيوتهم، بذلوا الجهود التي بذلوها في التأثيث، بذلوا ما بذلوه من جهد ومن عرق في سبيل المال الذي جمعوه. أما أنتم فما الجُهد الذي بذلتموه؟ لا يحق لي أن أطرد أحداً منهم، لأنهم يقطفون ثمار جهودهم، أما أنتم فتقطفون ثمار جهدي أنا.


واللهٍ الذي لا إله إلا هو تلك هي قصة الأمة العربية والإسلامية أمام المجتمعات الغربية التي نتساءل صباح مساء: لماذا تتمتع تلك الأمة بالرفاهية والنعيم، وننتقل نحن من ضعف إلى ضعف، ومن شتات إلى شتات؟


من المؤسف - أيها الإخوة - أن هذا المعنى أدْرَكَهُ الرعيلُ الأول، أدركه السلفُ الصالح، أدركه أصحابُ رسول الله، ثم إنه تحول إلى قانون علمي خُطَّ في كتبنا الحضارية، عقد له ابن خلدون فصلاً كاملاً في مقدمته.


عمر بن الخطاب كلكم يذكر يوم وصل إلى مشارف بيت المقدس وهو يَلْبَس ثوبه الذي تعرفون الذي رقعه باثني عشرة رقعة بعضها من جلد، قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أباطرة الشام سيستقبلونك عما قريب فلو غيَّرت من هيئتك أمامهم. هتف له أمير المؤمنين عمر على هذا الوتر الذي أحدثكم عنه. قال له: ﴿أوّه يا أبا عبيدة لو غيرك قالها! نحن أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله﴾.


أنا سأكون لئيماً لو أنني أبرزت نفسي في صولجان رائع وتاج نادر وبِزّة أتعالى وأسمو بها في أعين الناس. فأنا إذن أظهرت أمام هؤلاء الناس أنني سموت إلى هذا الشأو الحضاري بهذا المظهر، وهذا هو اللؤوم بذاته، ماذا يفعل الله عز وجل بي إن أنا تنكرتُ للسُّلَّم الأوحد الذي سما بي إلى هذه الدرجة؟


بل لابدَّ أن أبقى كما أنا، ليعلم هؤلاء الناس أنني لم أتمتع في سبيل هذا الشأو الذي وصلت إليه، لم تتمتع أمتي بعلم كالذي عرفوه، لم أُتعِب نفسي بنسيج حضارة كالتي نسجوها، لم أبذل جُهداً كالذي بذلوه في سبيل استحضار قوة. لابد أن أُبرز لهم أن مولاي وخالقي هو الذي انتشلنا من وهدة الضياع، من هذا الوادي السحيق إلى هذه القوة، إلى هذا الشأو الباسق، الشأو الحضاري، بهذا المظهر لابد أن أُبرز لهم هذه الحقيقة.


لم يتهِ عمر بن الخطاب عن هذا المعنى، لكننا نحن الذين تُهنا عنه. ارجعوا إلى ما يقوله ابن خلدون في مقدمته. فصل، جعل عنوانه: "فصل في أن الأمة العربية لا يُصْلِح شأنها إلا الرجوعُ إلى الإيمان والدين". انطلاقاً من هذه الحقيقة التي أقولها لكم.


هذا هو الجواب أيها الإخوة. هذا هو الجواب عن هذا السؤال الذي يتطارحه بعض الناس بدافع جهالة ورغبة في علم. ولكن هناك كثير من الناس يتطارحونه من أجل بعث مزيد من الشك والريب عن الإسلام في عقول عامة المسلمين.


بقي أن أقول لكم شيئاً: وهؤلاء الطغاة الذين قضى قانون الله هذا بأن يمتعهم بثمار قوتهم. إلى متى يتمتعون؟ أليس أيضاً من مقتضى عدالة الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟ نعم. لكن هذا يقتضي أن نرجع إلى سُنة أخرى من سنن الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه، وكلكم يقرأ هذه السنة في كتاب الله عز وجل.


﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3]  ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: /48].


هذا قانون رباني معروف أيها الإخوة. ولكني أعود أدعو نفسي وأدعوكم أيها الإخوة إلى أن نتدبر كتاب الله عز وجل، ونتبين سنن الله عز وجل في عباده الصالحين والطالحين، وألا نقرأ القرآن هكذا قراءة عشوائية، ولو أننا تدبرنا سنن الله في عباده لسُدَّت منافذ الاستشكالات كلها والأطروحات كلها.


وبعد: فما هي الثمرة التي أريد من نفسي ومنكم أيها الإخوة جميعاً أن نقطفها من وراء هذا الكلام؟


الثمرة التي أريد من نفسي ومنكم أن نقطفها هي: أن نعود فنصطلح مع مولانا وخالقنا من جديد. وأن ندين بالولاء للواحد الذي لا ثاني له. انظروا كيف يلقننا الله عز وجل هذا العقد ما بين العبد والرب. كيف يلقننا هذا العقد عندما يعلمنا أن نقول، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]. كونوا صالحين يتولاكم قولوها لقادتكم، قولوها لأولي الفكر في مجتمعاتنا، قولوها لأنفسكم، قولوها لسائر الطبقات، نحن عبيد أيها الإخوة، لا مناص من هذه الهوية، لا يمكن أن تنفك هذه الهوية عنا، وأَعْظِمْ بها من هُوية. أَنْعِمْ بها من نسب بين العبد ومولاه وخالقه، كونوا على يقين من هذا الذي يقوله لنا الله: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ﴾.


لا أقول لكم جربوا. لا. بل أقول: اصطلحوا مع الله تجدوا النتائج التي ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، النصر قريب وليس بيننا وبينه إلا اصطلاح - خلال دقائق - مع الله عز وجل.


لكن الاصطلاح يكون على درجتين: درجة القمة ودرجة الأمة. لابد منهما، وأنا أقول دائماً: الالتجاء إلى الله هو مفتاح الفرج، لكن الالتجاء إلى الله لا يتم عن طريق التوكيل، العقود في الشريعة الإسلامية تتم عن طريق التوكل، أستطيع أن أوكل من يشتري لي داراً أو يبيع لي داراً، لكن الالتجاء إلى الله لا يصلح فيه التوكيل. لا يصلح أن يقول القائد في أمته أو الرئيس أو الملك في مملكته للعلماء والصالحين، اسألوا الله، التجئوا إلى الله أن ينصرنا، ثم يذهب هو إلى شأنه وشأوه ويُسْدِل حجاب الغفلة بينه وبين مولاه وخالقه. لا. قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم جاءه رجل من الصحابة. قال له: يا رسول الله: ادعُ الله لي أن أكون معك في الجنة، فقال له: ﴿أعني على نفسك بكثرة السجود﴾. إذا خضع جبار الأرض استجاب جبار السماء. حقيقة لا إشكال فيها تاريخنا الأغر يشهد بذلك، وتاريخنا السلبي اليوم يشهد بذلك.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 

تحميل