مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/01/2006

هل حافظنا على نعمة الماء؟

هل حافظنا على نعمة الماء؟


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 13/01/2006


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


 روى الشيخان من حديث زيد بن خالد الليثي رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح في الحديبية في إثر سماء في تلك الليلة - أي إثر مطر هطل علينا في تلك الليلة - فلما انصرف أقبل إلى الناس فقال: ﴿هل علمتم ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال عليه الصلاة والسلام: قال - أي قال الله عز وجل -: أصبح مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالنجوم. وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب﴾.


ونحن نقول: اللهم إنا مُطِرنا بفضلك وبرحمتك، لا بنوء ولا بسبب من الأسباب غيرك، فاكتبنا اللهم من المؤمنين بك الواثقين من فضلك ورحمتك وجودك.


يا عباد الله! هذا عطاء الله سبحانه وتعالى، أكرمنا به بعد انتظار، وأكرمنا به بعد إلحاف ودعاء، وهو عطاء مستمر بحمد الله ونعمته. فما الذي بقي؟ بقي أن نؤدي شكر هذا العطاء الرّباني، ومظاهر الشكر كثيرة. والذي أريد أن أتحدث عنه في هذا الموقف شيء واحد، هو أن نوظف هذا العطاء الذي أكرمنا، ولا يزال يكرمنا، الله سبحانه وتعالى به لما قد وظفه الله من أجله. هذا الماء الذي قضى الله عز وجل أن يكون سرّ حياة الإنسان، وصدق الله القائل: ﴿وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]. ينبغي أن نوظفه لما قد قضاه الله سبحانه وتعالى وأراده. ينبغي أن نوظف هذا الماء لحياة الإنسان، ندخره في الأماكن الصالحة والمصلحة له. ينبغي أن نوظفه لحياة البهائم والحيوانات التي سخرها الله عز وجل لنا لحوماً وألباناً. ينبغي أن نوظف هذا الماء لحياة النبات. والنباتات تتمتع هي الأخرى بالحياة، وهي تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : ﴿وفي كل كبد حَرَّى صدقة﴾. ينبغي ألا نُهدِر هذه النعمة التي أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها. فإن أهدرناها لسبب ما - أياً كان ذلك السبب - فقد أعلنا بذلك أننا في غنى عن هذا العطاء، وقد أعلنا بذلك أننا في غنى عن هذه النعمة التي كم وكم بسطنا أكفنا إلى السماء نستمطره هذه النعمة ونستزيده منها.


ومن عجب أيها الإخوة أننا ننظر ونتأمل وإذا بنا لا نعلم كيف نوظف هذه النعمة التي أسداها الله عز وجل إلينا، بل لعلي لست مبالغاً إن قلت: إننا نعلم كيف نوظف هذه النعمة ونستبقيها لأنفسنا ولبهائمنا ولنباتاتنا، ولكنا نعرض عن ذلك أيَّما إعراض، وهو إعراض مخيف مرعب. ومن عجب وهو عجب أشد وأغرب أننا نتداعى في ميقات معين من كل عام إلى غرس الأشجار في السفوح وهنا وهناك ونتذكر في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ﴿إذا قامت الساعة وفي يمين أحد منكم فسيلة - أي شتل - فليغرسها﴾ نذكِّر إخواننا وشبابنا ونذكِّر أنفسنا بهذا الحديث، ونتداعى إلى غرس الأشتال في السفوح هنا وهناك، وفي الوقت ذاته يكرمنا الله عز وجل بهذه الأمطار السخية، وننظر إلى فروع هذا النهر الدافق الذي يؤرخ حياة هذه المدينة التالدة القديمة، نتأمل في الفروع، في الأنهر المتفرعة من هذا النهر التاريخي القديم وإذا بها جميعاً قد طُمِسَت طمساً في ليل مظلم وفي ميقات لم يشعر به أحد. نتأمل في هذه الأمطار السخية التي تملأ ما بين ضفتي هذا النهر والمفروض أن تتوازعها الفروع؛ فروع هذا النهر الدافق المنبثة في هذه الغوطة التالدة، فبماذا تُفَاجَأ هذه المياه الهامية الهاطلة من سمائها؟ تُفاجَأ بأنها قد طمست كما قلت طمست طمساً، ولا أقول سُدَّت بأغطية، فماذا يكون مصير هذه المياه؟ تتسرب هنا وهنا وهناك لتضيع بين الشوارع وبين الأزقة وبين المنحنيات. وننظر إلى الأشجار، أشجار هذه الغوطة، هذه النعمة العظيمة الجليلة وإذا بها تموت موتاً تدريجياً، تموت موتاً مبرمَجاً. نعم - هذه الغوطة التي نوّه بها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يقوم قال: ﴿فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى على أرض يقال لها الغوطة، إلى جانبها مدينة اسمها دمشق هي خير منازل المسلمين يومئذ﴾ نوَّه بالغوطة قبل أن ينوّه بدمشق. وهذا التنويه على أهمية كبرى، وعلى أن الله سبحانه وتعالى قد قلّد جِيْد هذه البلدة بعِقد ما مثله عِقد. ولكنّ هذا العقد اليوم يُؤْذن بالانتهاء.


إنني أشفق على نفسي - أيها الإخوة - من الدخول في الغوطة التي يُنْتَقَص منذ سنوات من أطرافها، أُشفق على نفسي لأنني لا أستطيع أن أنظر إلى الأشجار التي كانت بالأمس باسقة خضراء، كانت معطاءة، كانت لها ظلالها الوارفة، وإذا بها اليوم تَئِنُّ لليبوسة تئن اصفراراً، لا أقول في الشتاء، بل في ذروة الربيع، لماذا؟ لأن سبيلها إلى نعمة الله عز وجل قد سُدّ. ولماذا؟ ما هي اليد التي سدت هذه المنافذ؟ ما هي اليد التي طمست هذه الفروع؟ ولماذا؟ وفي أي ليل مظلم فعلت ذلك؟


منذ سنوات لفت النظر وبيّنت وقلت: الخطر محدق، الغوطة آيلة إلى زوال. ولا أدري ما الذي تم بعد ذلك. ولكن الذي أعلم أن الغوطة كانت وما تزال يُنتقص من أطرافها، ينتقص من أطرافها بوسائل مختلفة. أهمها وأخطرها هذا السد المفتعل بين هذا النهر التاريخي الدافق الذي تعتز به دمشق، نهر بردى، وبين فروعها المنتشرة كالأوردة التي تنتشر في جسم الإنسان الحي. الوسيلة الثانية هذه الأبنية التي تُغْزى بها الغوطة من أطرافها؛ الملاهي الليلية وما يشبهها وما يتبعها في تكاثر عجيب. راضٍ زراعية كيف وتحت مظلة أي مبدأ غُزيت هذه الأراضي التي هي كنز هذه البلدة غُزيت غزواً بالملاهي الليلية عُدُّها، لن تُحصى، وما يشبهها وما يماثلها.


نحن أيها الإخوة بالأمس دعونا الله وتضرعنا إليه أن يسقينا الغيث وقد سقانا، ولكن كأنه جل جلاله يقول: ها أنا ذا قد استجبت دعاءكم وحققت رجاءكم؛ ولكن عليكم أن تؤدوا الواجب الذي كلفتكم به. الهدر معصية من أكبر المعاصي. والغريب أيها الإخوة أننا بين الحين والآخر نقرأ ملصقات على الجدران وفي ردهات بعض المؤسسات تحذر من إهدار الماء. أجل. يا عجباً! يا عجباً لإنسان يبني باليمين ويهدم بالشمال! كيف كيف أفهم هذا؟! يُطلَب منا ألا نهدر الماء لأنه ربما قَلَّ في يوم من الأيام، وفي الوقت ذاته تُهدَر مياه هادرة تملأ ما بين الضفتين تريد أن تسيل عبر أوردتها إلى غوطتنا المعطاءة؛ ولكنها لا تجد السبيل، ومن ثَم تتسرب شمالاً ويميناً، وتتبدد هنا وهناك.


أيها الإخوة! هذا الذي أقوله جزء لا يتجزأ من أوامر مولانا وخالقنا جل جلاله: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]. ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها﴾ الإصلاح من الله والإفساد من عبد الله، الإفساد منه. أصلح الله عز وجل لنا الأرض عندما أمر سماءه أن تمطر فأمطرت، ثم جاء الإنسان بدافع من رعوناته أو بدافع مما لا أدري أهدر وأفسد، هذه الأشجار تتمتع بالحياة، تتمتع بنوع من الحياة عظيم، تنتظر رزقها، تنتظر حقها من هذا الذي أكرمها الله عز وجل به، ولكن أيدٍ خفية جاءت فحالت بينها وبين هذا الحق.


تُرى هل سيتجدد الاهتمام بالبحث عن الأسباب التي دعت إلى طمس هذه الأنهر المتفرعة عن بردى بعد أن أُهمِل البحث في ذلك؟


تُرى هل سيجري تحقيق دقيق للبحث عن اليد التي طمست؟


كل ذلك متيسر لو أن غَيرة حقيقية على هذه الأمة، على حقوقها، على المبادئ، على القيم كانت موجودة.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمي أمتنا من الدخيل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمي حقوقنا ومنوزنا من الغرباء من أعداء هذا الدين الين يسيل لعابهم على هذه الحقوق؛ فيتسربون عن يمين وشمال إلى إفساد هذه البلدة؛ وإلى إفساد حقوق هذه الأمة والقضاء عليها


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي