مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/12/2005

الإيمان والعمل الصالح وحب الله عز وجل

الإيمان والعمل الصالح وحب الله عز وجل


خطبة الإمام الشهيد البوطي في ستراسبورغ


تاريخ الخطبة: 30/12/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن الوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وجنته رهن بأمرين اثنين:


أولهما: الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلهاً واحداً لا شريك له هو النافع والضار وهو المتصرف في شؤون الكون أجمع.


ثانيهما: العمل الصالح.


فمن كان مؤمناً بالله عز وجل ولكن ليس له حظ من العمل الصالح في هذه الحياة الدنيا فإن إيمانه لا يفيده، وإن الذي يملأ عملاً صالحاً بكل أنواعه ولكن رحل عن هذه الدنيا دون أن يؤمن بالله إلهاً واحداً لا شريك له لا فائدة له من عمله الصالح. هما أمران اثنان لابد منهما؛ الإيمان العقلي بالله عز وجل إلهاً واحداً لا شريك له، ثانيهما: العمل الصالح.


أما الإيمان بالله عز وجل رباً واحداً لا شريك له فالسبيل إلى ذلك العقل والفكر والتأمل في هذه المكَّونات، فمن وجّه عقله إلى هذا العالم الذي يعيش فيه أدرك أن له صانعاً، وأدرك أن هذا الصانع هو قيوم السماوات والأرض.


وأما العمل الصالح: فسبيل ذلك الحب، محبة الله عز وجل، ومن ثم الخوف من الله عز وجل. العقل لا يقدم لك إلا اليقين بوجود الله سبحانه وتعالى، يريك أن الله حق وأنه هو الصانع، وأنه هو قيوم السماوات والأرض ولكن العقل لا يملك شيئاً بعد هذا، لا يسوقك إلى عمل. الذي يدفعك إلى العمل الصالح إنما هو حرارة الحب، حرارة الخوف من الله عز وجل. وكما قال الربانيون: تيار الحب هو الحادي، هو السائق، هو المحرك، هو الذي يقرّب البعيد، وهو الذي يليّن الحديد، هو الذي يدفعك إلى الأعمال الصالحة التي أمرك الله سبحانه وتعالى بها.


والمشكلة أيها الإخوة لا تكمن في اليقين العقلي بالله عز وجل. كلنا نتمتع بعقول راشدة ولله الحمد. ومن فكر بعقله هُدي إلى الله شاء أم أبى، مسألة رياضية كقولنا واحد زائد واحد يساوي اثنين. من تأمل وله عقل نيّر في هذه المكوَّنات التي من حوله أدرك أن لها صانعاً وأن هذا الصانع هو الذي يدير مملكة هذا الكون أجمع. ولكن المشكلة تكمن بعد ذلك في العمل. ما الذي يحفزني ويُنْهضني إلى الأعمال الصالحة في داري ومنزلي مع أهلي وأولادي؟ ما الذي يحفزني إلى العمل الصالح في السوق مع الناس الذين أتعامل معهم؟ ما الذي يدفعني إلى العمل الصالح في سائر تقلباتي وأحوالي؟ ما الذي يبعدني عن الأعمال المرذولة السيئة؟ اليقين العقلي؟ لا يكفي. الذي يقودني إلى العمل الصالح ويبعدني عن العمل الصالح هو الحب؛ محبة الله عز وجل.


وكأنكم تسألونني: كيف السبيل إلى أن نغرس محبة الله عز وجل في قلوبنا؟


السبيل سهل أيها الإخوة، السبيل: هو أن تربطوا النعم بالمنعم، ما من لحظة من اللحظات إلا ولله نعمة يرسلها إليك. السبيل لكي تتفجر محبة الله عز وجل في قلبك أن تسأل نفسك: من أين جاءتني هذه النعمة؟ والجواب واضح؛ من لدن من خلفك فسوّاك فعَدَلك في أي صورة ما شاء ركبك. فإذا ربط نِعم الله عز وجل به، ربطها بالمنعم ودمت على هذا فإنه لا يمكن إلا أن يتفجر ينبوع محبة الله عز وجل في قلبك. هل فيكم من يجهل نِعم الله؟


عافيتك: نعمة. اربطها بالله الذي منّعك بها. تفكيرك: نعمة، اربطها بالله الذي متعك بهذا الفكر. لسانك الذي تنطق به نعمة، اربطها بالمنعم، المائدة التي ستجلس إليها بعد قليل لتتناول منها غداءك: نعمة، اربطها بالمنعم، الطعام الذي أمامك من أين جاء؟ من سماء أمطرت؛ من أرض أنبتت، من أنعام سخرها الله لك لحوماً وألباناً. هذه هي مصادر الرزق والطعام. من الذي أتحفك بهذا؟ مولاك وخالقك إذا جاء المساء وتمددت على فراشك لترقد، من الذي يكرمك بنعمة الرقاد؟ الله. إذا أخذت قسطك من الراحة والرقاد، من الذي يعيد الحياة إلى كيانك ويعيد اليقظة إلى شعورك؟ الله. اربط هذه النعم وأمثالها كثير بالمنعم. وأنتم تعلمون أن النفوس جُبلت على حب من أنعم عليها من أحسن إليها.


إن أنت ربطت النعم التي تأتيك ولم تغفل عنها بالله عز وجل لا يمكن إلا أن تعشق الله. لا يمكن إلا أن تحب الله عز وجل. وعندئذ تكون ممن قال الله سبحانه وتعالى عنهم: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54] نعم. والحب لله هو الذي يولِّد الخوف منه. إذا أحببت الله عز وجل خِفت من التقصير في جنبه. أنا عندما أحب مولاي وخالقي الذي يغمرني بنعمه وآلائه أخجل منه أن أقصّر في أوامره. أستحي أن أنصرف عن أوامره وأن أرتكب نواهيه. ومن ثم أخشى المحب يخشى محبوبه، لا لأنه يخشى عقاباً صادراً منه، لا. ولكن لأن المحب يخشى من أن يسيء إلى محبوبه. محبوبنا الله، إذن ينبغي ألا نقصّر في حقه، ينبغي أن نؤدي ما قد فرض. ومن ثم فالحب هو الذي يقودك إلى العمل الصالح. الحب زائد الخوف من المحبوب هو الذي يسيرك بالطريق الذي يوصلك إلى الله سلوكاً، هو الذي يبعدك عما يغضب الله سبحانه وتعالى.


إن دخلت منزلك مساءً واستقبلتك زوجك وأولادك حضرت محبتك لله عز وجل فمنعتك من أن تسيء إلى زوجك، منعتك من أن تسيء إلى أولادك. حبك لله عز وجل يجعلك تُقْبل إلى أهلك وأولادك بالحب، لأن حب الزوجة فرع غصْن منبثق من حب العبد لله عز وجل. من أحب الله عز وجل أحب عباده - أحب عباده - منسوبون إلى الله عز وجل. إذا خرجت من منزلك إلى السوق ساقتك، محبة الله عز وجل إلى الالتزام بأوامره في كلامك، في أعمالك، في معاملاتك، في أخلاقك، إذا رأيت أياً من عباد الله عز وجل التائهين الشاردين الضالين الملتزمين فسوف تعاملهم بمقتضى محبتك لله عز وجل وبمقتضى خوفك من الله سبحانه وتعالى.


وأنا - أيها الإخوة - انظر إلى نفسي وأجد أن مشكلة اليقين بالله غير موجودة، أنا موقن بالله، آلياً أتوماتيكياً العقل يؤمن بالله، لكن المشكلة هي السلوك. سلوكنا كثيراً ما يكون منحرفاً، أخلاقنا كثيراً ما تكون مثيرة لغضب الله، مثيرة لسخط الله عز وجل إن في المنزل مع الأهل والأولاد أو في السوق أو مع الناس عموماً. تلك هي المشكلة. ما حلها؟ ما دواء هذا المرض؟ دواءه محبة الله. ضعوا أيديكم على قلوبكم وتساءلوا أين هي محبة الله عز وجل من أفئدتكم؟ مولاك خلقك لم تكن تملك فكراً ولا عقلاً ولا رُشداً. أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. أين هو شكر المنعم؟ ربنا عز وجل يسخر لنا سماءه وأرضه وأنعامه لكي تخدُمنا هذه المكوَّنات. تكريماً عجيب يكرِّم الله هذا الإنسان . أين هو شكر المنعم؟ بل أين هو حب هذا العبد لهذا الإله الذي يدلِّله، يكرمه، يعطيه، يتفضل عليه؟ اغرسوا محبة الله عز وجل بين جوانحكم، حاولوا ليل نهار أن تتعهدوا هذه المحبة. كما أن النبات لا ينمو إلا بالسُّقيا فكذلكم محبة الله عز وجل توجد نواتها عن طريق ربط النعم بالمنعم المتفضل، لكنّ هذه النواة لا تنمو ولا تعلو ولا تقوى إلا بالإكثار من ذكر الله. وأنا لا أعني بذكر الله قرقعة السُّبحة في اليد. أعني بذكر الله أن تتذكر الله، أن يكون عقلك غير غافل عن مولاك الذي سترحل إليه غداً أو بعد غد. أعني بالذكر المعنى الذي يعبر عنه بيان الله بقوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205].


مشكلتنا أن العمل الصالح كثيراً ما نكون بعيدين عنه لاسيما في بيوتنا. وأعجب ما يَعْجَب له الإنسان أن يعلم أن في المسلمين من يغشَوْن المساجد ويسمعون المواعظ فإذا آب أحدهم إلى منزله أساء، ضرب، شتم، ونسي الله الذي يسجد ويركع له والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق﴾ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿أقربكم مني مجلساً يوم القيامة ألطفكم بأهله﴾. لكن كيف يتحقق الخُلُق السليم؟ وكيف نتنزّه عن الخُلُق الذميم؟ إذا فجرنا محبة خالقنا عز وجل في قلوبنا. ومن أغرب الغرائب وأعجب العجب أن تجد عبداً يؤمن بالله عقله ولا يحب الله بقلبه! يؤمن عقله بالله خالقاً قيوماً منعماً متفضلاً، ويؤمن أن له وقفة بين يديه غداً. أما قلبه ففارغ عن محبة الله، مليء بحب الشهوات والأهواء والرغائب، أسأل الله عز وجل أيها الإخوة أن يجعل قلبي وقلوبكم جميعاً أوعية لحبه هو لا لحب غيره. إذا أحببنا الله تحققت لنا سعادة الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل