
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الثقافة الإسلامية هي المنجاة من الدجل الذي يمارس ضدنا
الثقافة الإسلامية هي المنجاة من الدجل الذي يمارس ضدنا
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 28/10/2005
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
ها أنتم قد وصلتم إلى العشر الأخير من الشهر المبارك، ولعلكم تعلمون أن أسرار هذا العشر الأخير من هذا الشهر المعظم تتلاقى في ليلة القدر.
وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعريف بليلة القدر وأهميتها والأسرار المودعة فيها: من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عمران بن حصين وغيره قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ليلة القدر، فقال: ﴿هي في شهر رمضان، في العشر الأخير، ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو الليلة الأخيرة من شهر رمضان﴾. وقد ورد هذا بصيغ متقاربة بروايات وأسانيد مختلفة.
والذي ينبغي أن نعرفه - أيها الإخوة - أن ليلة القدر ليست كما يظن كثير من عوام الناس محصورة في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر، ومن ثم فالاحتفالات إنما تقام في هذه الليلة، وكثير من الناس بسبب ذلك يخيل إليه أن ليلة القدر محصورة من هذا الشهر في هذه الليلة، ومن ثم فهو يعرض عن الاهتمام بها البحث عنها في الليالي الأخرى، وهذا من الأخطاء الخطيرة التي تحجب الإنسان عن ليلة القدر والاحتفال بها في الليالي الأخرى التي تنبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الشهر؟
الشيء الذي أريد أن أضيفه إلى هذا، هو أنني أعلم كما تعلمون أن كثيرين هم الذين يحتفلون في هذه الليالي قياماً قعوعاً تضرعاً إقبالاً إلى الله عز وجل بالأذكار وتلاوة القرآن، وأنا أعلم كما تعلمون أن كثيراً من المساجد تفيض لا بمن يصلون التراويح فقط؛ بل بمن يقومون الليل ويتهجدون. ولكن كما قد قلت لكم مرةً: هذه الظاهرة تتجلى في شريحة واحدة في عالمنا العربي والإسلامي، فماذا عن الشرائح الأخرى؟ هذا ما ينبغي أن نتبينه وينبغي أن نتساءل عنه.
شرائح أخرى كثيرة متنوعة متفاوتة في الرتب معرضة عن هذا الشهر وأميته، معرضة عن هذا العشر الذي يمرّ بكم، معرضه عن البحث عن ليلة القدر التي يتزاحم الناس إقبالاً إليها في كثير من مساجدكم، لاشك أن رحمة الله سبحانه وتعالى قريبة، ولكن الله عز وجل ينظر من عباده على اختلاف فئاتهم، وعلى اختلاف مستوياتهم ودرجاتهم، ينتظر الله عز وجل من عباده أن يقفوا على بابه وأن يلتصقوا بأعتابه، وأن يعلنوا عن صدق عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، ما ينبغي أن نتصور أن الله عز وجل سيقبل إقبال هذه ا لشريحة البسيطة القليلة من الناس إلى الله، ويرضى أن يكونوا شفعاء لكثرة الكاثرة المعرضة عن الله، بل لكثرة الكاثرة المستخفة بشعائر الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً﴾ [الأنفال: 25] نعم، لو كان الأمر على العكس من ذلك لرجونا أن يكرم الله هذه الأمة بقضها وقضيضها، لو كان الأمر على العكس: لو كانت الكثرة الكاثرة من هذه الأمة هي التي تقبل إلى الله وتحتفل بهذه الليالي المباركة؛ التجاءً إلى الله وتقرباً إليه بالصلاة والركوع والسجود، ولكن هنالك شرائح قليلة وبسيطة ومعرضة؛ إذن لرجونا أن يجعل الله عز وجل من الكثرة شفيعاً لقلة، ولكن الأمر على العكس كما تعرفون وكما تتصورون.
لا تقفوا أمام الحشود التي يتحدث عنها صباح مساء كثير من الناس التي يتلاقى في المساجد، تساءلوا عن الكثرة الكاثرة في ردهات الفنادق، تساءلوا عن الكثرة الكاثرة في الأبهاء والأندية المختلفة، تساءلوا عن البيوتات التي يتزاحم فيها الناس معرضين تائهين عن الله عز وجل، تساءلوا عن الطبقات والفئات المختلفة التي طوت أهمية هذا الشهر عن ذكرها وفكرها، ولقد كنت أتمنى لو أن هذا الكلام وأمثاله يبلغ سماع تلك الشرائح، لكن المصيبة الأدهى أنهم محجوبون حتى عن سماع الكلمة، محجوبون حتى عن النصح الذي ينبغي أن يطرق أسماعهم، والمصائب كثيرة، المصائب قريبة، ونحن منها على شفا جرف، والله عز وجل من شأنه أن يرسل المنبهات والموقظات لعباده لكي يرعوا ويعودوا هذه مسألة ينبغي أن ألفت النظر إليها، وأكرر الحديث عنها.
شيء آخر تتكرر الحاجة إلى بيانه في مثل هذه المناسبة في كل عام، المواقع التي آل أصحابها أن يقفوها على الهجوم على الإسلام، وعلى الكيد لدين الله عز وجل بسلاح من الدخل، بسلاح أخرق من الجهالة كثيرون، والمواقع كثيرة، وأنا لا أخشى على دين الله منها، لكن واجبنا أن نبين الحقائق، وأن نزيل الغاشية التي تمتد من أعمال هؤلاء الناس ربما إلى أذهان البعض، كثيرون هم الذين يعلقون عن الحديث عن ليلة القدر مستخفين مستهزئين: الليالي والأيام تتوزعها هذه الكرة الأرضية، وربما كانت هذه الساعة في بلدنا هذه إنما هي منتصف الليلة، ولكنها بذاتها تكون في رقعة أخرى من هذه الأرض في رابعة النهار، فكيف يمكن أن نفهم ليلة القدر المحددة في ميقاتها والمعنية في زمانها كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإن المكان الذي هو ليل هو نهار في مكان آخر.
هذا كلام يقال، وهو ينبني على أمرين اثنين: أمر على جهالة كبرى، وينطوي على دجل أكبر. ولكن المشكلة نقص التربية التي تعوز أمتنا الإسلامية، لكي يلفظ هذا الدجل ويبصق عليه.
من قال: أن السر ليلة القدر ينبع ويتفجر من طبيعة الزمن. من قال هذا حتى تكون ليلة القدر في ليلة هنا وفي نهار هناك؟ مزية ليلة القدر لا تنفجر عن طبيعة الزمن، الأزمان نجدها واحدة، ولكنها نفحات رحمانية تتجلى من الله عز وجل في الوقت الذي يشاء على عباده هنا وعلى عباده هناك، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إن الله في أيام دهركم نفحات إلا فتعرضوا لها﴾ لله لا للزمان ﴿إن في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها﴾. ليلة القدر التي وصفها الله عز وجل بأنها خير من ألف شهر سرها كامن بتجليات الله على عباده، فإذا كانت ليلة الثالث والعشرين مثلاً هي ليلة القدر هنا في الساعة الفلانية من الوحدة الزمنية في الليل أو النهار؛ فمعنى ذلك أن ليلة القدر تكون في السقع الآخر في ليلة الثالث والعشرين عندهم لا عندنا، ومعنى ذلك أن ليلة القدر تكون في ليلة الثالث والعشرين في سقع ثالث كما هو عندهم لا عند الفريق الأول ولا الفريق الثاني. الأيام تختلف، والأزمنة تختلف في الكرة الأرضية فيما بين ليل ونهار، ولليلة القدر تتبع هذا الواقع المختلف، لا الواقع المختلف يتبع ليلة القدر، ولكن الدجل لا يستطيع أن يرقى إلى مستوى المنطق، والجهالة العمياء لا يمكن أن تتعرف على العلم، لا يمكن للجاهل أن يبث دجله إلا في نجوة من العلم، إلا بعيداً عن ضياء العلم، إلا في ظلمات التخلف والجهالة.
ولكني أعود فأقول لكم: المصيبة - أيها الإخوة - ليست في تدجيل المدجلين، قد كان في العصور الغابرة مدجلون، ولربما كانوا أكثر، وهذه سنة الله عز وجل في عباده، لا بد من وجود زنادقة كفرة طغاة مدجلين. إنما المشكلة بأن المسلمين المقتلين إلى الله تعوزهم الثقافة الإسلامية، تعوزهم الحصانة ضد الجهالة وضد الدجل، هذه هي المصيبة - أيها الإخوة - جيلنا المسلم الصاعد يحتاج إلى حصانة ثقافية تحصنه ضد هذه السهام القذرة المسمومة.
هذه الثقافة من أين تأتي أيها الإخوة؟ تأتي عن طريق التربية، تأتي عن طريق المدرسة، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى ما رواءها، الثقافة الإسلامية هي الدعامة الأولى للحضارة الإنسانية في مجتمعاتنا الإسلامية، نحن بحاجة إلى تغذية هذه الثقافة عن طريق التربية الإسلامية، لابد من مضاعفة العناية التامة الصحيحة الوقية للتربية الإسلامية في مدارسنا، بدءاً من الابتدائي، فالإعدادي، فالثانوي، بل لابد من أن تشيع مادة الثقافة الإسلامية في جامعاتنا العربية والإسلامية قاطبة، هذا هو الحصن الذي يقي الأمة من الدجل، من المواقع الكثيرة التي تسمعون عنها، أو تزورونها وتقرؤون عنها.
نعم آن - أيها الإخوة - أن يدخل مقرر التربية الإسلامية في المعدل في الشهادة الثانوية، آن أن نحيي هذا المقرر الحياة التي ترضي الله، الحياة التي تحضنا ضد مكر الماكرين، وضد طغيان الطغاة، وضد هؤلاء الذين يتهموننا صباح مساء بما نحن برآء منه.
قلت بالأمس: الأقنعة التي بها نحارَب كثيرة، مرة يوضع قناع سياسي، مرة يوضع قناع قانوني يتمثل في الأحوال الشخصية ونحوها، مرة يوضع قناع اجتماعي. الأقنعة كثيرة لكن الهوية واحدة أيها الإخوة، الهوية التي تمثل هذه الخطط الماكرة كلها، والوافدة إلينا من العالم الغربي الذي تعرفون، هي تلك التي تبحث عن الإسلام يجتث من جذوره، هذا هو الهدف، وتلك هي هوية تلك الخطط الماكرة، ليست الهدف أمراً سياسياً، صدقوني - أيها الإخوة - ليس الهدف أمراً اجتماعياً، ولا اقتصادياً، ولا قانونياً، بما هو يتعلق بالمرأة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، وإنما يدنون الجميع كلهم اتجاهاً منهم إلى غاية واحدة: هذا الإسلام ينبغي أن يجتث بقرار اتخذه العالم الغربي الذي أعلن حرباً صليبية جديدة على الإسلام.
وإذا كنا نعلم هذا؛ فما لنا لا نحصن أنفسنا ضد هذا الأمر؟ وكيف يكون التحصين؟ بأن نعود إلى إسلامنا، هذا فنعانق من جديد، ونجدد البيعة مع مولانا وخالقنا، نصطلح معه من جديد، نمت جذور الثقافة الإسلامية في مجتمعاتنا، في مدارسنا، في وسائل إعلامنا، كما أمر الله سبحانه وتعالى. قلت بالأمس أيها الإخوة: عدو لك ينظر إليك شذراً وينظر بين الحين والآخر إلى متاع تحمله إلى حقيبة بيدك، وقد عرفت أنه يبتغي هذه الحقيقة لأنه يشعر أن خطراً يسري إليه مما يوجد في داخلها، ما الذي يدعوه إليه عقلك؟ ما الذي ينبغي أن تفعله؟ بأي قدرة عقلية تتمتع بها أن تتمسك بحقيبتك هذه، وأن تتزداد تمسكاً بها، وتزداد إصراراً عليها، وأن تزداد اعتزازاً بها. سمعنا وعرفنا وقرأنا والوسائل كثيرة كل ذلك يؤكد ويكرر أن حرباً معلنة أو غير معلنة على الإسلام تم منذ سنوات، وأن خططاً قد رسمت بليل، وأنها اليوم تنفذ.
إذن ما الذي يقتضيه المنطق من العالم العربي والإسلامي قادة وشعوباً؟
هل يقتضي الأمر أن يخلعوا هذا الإسلام وأن يركعوا للوافدين والغزاة؟ هل يقتضي الأمر أن يقولوا نعم تعالوا فلقد تبرأنا من الإسلام الذي تخافون منه، ومن ثم فليس هناك شيء يخيفكم في حياتنا؟ من الذي يقول هذا؟ أي عقل يؤكد هذا الكلام، ونحن مؤمنون، ونحن لسنا ملحدين، ولسنا تائهين عن ديننا، نحن مؤمنون بالله عز وجل على كل المستويات، فلماذا لا نضع الأمور في نصابها؟ لماذا تبقى علاقتنا بإيماننا علاقة نظرية؟ لماذا لا نتبع الأمر النظري بالواقع التطبيقي؟ هذا الكلام أيها الإخوة يجرنا إليه عن الحديث عن ليلة القدر، والمشكلات التي تختلق بصددها، يجرنا إليه عن الحديث عن القرآن والهجوم الكثير الكثير الكثيف الذي ربما تسمعون عنه أو ترونه على كتاب الله سبحانه وتعالى، والحديث عن الهجوم على كتاب الله اعتماداً على الدجل، واعتماداً على الجهال، حديث طويل الذيل، لكن ما المناجاة منها؟ المنجاة منها الثقافة الإسلامية، ما الذي يحضنا ضد هذه التربية الإسلامية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.