
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


سرّ النصر الالتجاء إلى الله وأول المكلفين بذلك قادة المسلمين
سرّ النصر الالتجاء إلى الله وأول المكلفين بذلك قادة المسلمين
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 14/10/2005
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
لعلكم جميعاً تعلمون أن أول غزوةٍ كانت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرفه الله فيها بالنصر الخارق، والتوفيق المعجز، إنما كانت في منتصف هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، ألا وهي غزوة البدر.
وأنا لست بصدد الحديث عن هذه الغزوة، ولست بصدد أن أقصى عليكم أحداثها، فقد غدا الحديث على ذلك في هذا العصر نوعاً من التسلية التي لا تقدم ولا تؤخر، بل لعلها غدت أقرب ما تكون إلى نوعٍ من اللهو الذي لا جدوى من ورائه. كلكم تعلمون من كثرة التكرار الذي طرق آذانكم في مثل هذه المناسبة المباركة أحداث غزوة البدر، وكيف أن الله عز وجل وفق الشرذمة القليلة اليسيرة من المؤمنين من عباد الله عز وجل على أضعاف هؤلاء المؤمنين من صناديد الشرك والكفر.
ولكني أريد أن أقف على مَعْلَمةٍ واحدة من معالم هذه الغزوة بكم، من أجل أن نقارن بين هذه المعلمة وبين واقعنا المتردي اليوم، لكي نعلم أن الله عز وجل لم يظلمنا، كما أنه لم يظلم ذلك الرعيل الأول أيضاً: لم يظلمهم إذ نصرهم الله وأيدهم بالأعاجيب والخوارق، ولم يظلمنا إذ حوّل عزنا إلى ذل، وحول انتصارنا إلى هزيمة، وإذ جعل القوى المعادية والكافرة تتقلب علينا.
في ليلة السابع عشر من رمضان، وكانت ليلة الجمعة، وكان الحشد الكبير من المشركين تصطك أسنانهم حقداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وكان بغيهم يزمجر على ألسنتهم أشكالاً وألواناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك، لم يكن رسول الله فقط، بل كان أول رئيس أول دولة إسلامية، فماذا كان موقف رئيس هذه الدولة.
وقف عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة إلى فجر يوم الجمعة يلتجئ إلى الله ويستغيثه ويتضرع إليه ويجأر إليه بالشكوى، بذل وضراعة وإنكار، يقول: ﴿اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادُّك وتكذبُ رسولك، اللهم نصرك الذي وعتني، اللهم أَحِنْهُمُ الغداة، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم)). وظل يبكي، وظل يناشد الله عز وجل نصره، وظل يستغيثه، من أيها الإخوة؟ رئيس الدولة. وكان صحبه من ورائه، كان هو المتقدم فيهم بهذا الالتجاء وهذه الضراعة، وكان هو أولهم في هذا المضمار، حتى إنَّ أصحابه أشفقوا عليه. قال له الصديق رضي الله عنه: كفى يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد.
هذه هي المَعْلَمةُ التي أريد أن أقف بكم عليها، ولسوف تعلمون كيف جاء النصر الخارق والتوفيق العجيب المعجز بعد هذه الوقفة من رئيس الدولة، وقفة الانكسار، وقفة الذل، وقفة الضراعة على باب الله سبحانه وتعالى. هذا النصر جاء نتيجة لهذا الموقف. وهذا الموقف النبوي الذي تمثل في شخص رئيس الدولة - مرة أخرى أقولها - كان الثمنَ الأوحدَ لذلك النصر. أجل، ألم يقل الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَما النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 8/9-10] ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ هذه الكلمة أوضحت العلة والمعلول، السبب والمسبَّب ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ مَنِ المستغيثُ أيها الإخوة؟ أولهم وقائدهم رئيس الدولة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان هو الثمن، وسرعان ما جاء المُثًمَّن، جاءت البضاعة نصراً مؤزوراً من الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 123-125].
يكفي أن أقف بكم أمام هذه المعلمة، ولكن... تعالوا نقارن بين موقف رئيس الدولة، حبيب الرحمن إلى الملك الديات، وبين موقف قادة المسلمين اليوم، من هو هذا الذي يعفر رأسه بالتراب ساجداً متضرعاً إلى الله عز وجل أن ينزل نصره الذي وعد به عباده المؤمنين؟ تخيلوا وسائلوا أنفسكم، من هو هذا القائد أو الحاكم أو الرئيس أو الملك الذي يقف على باب الله عز وجل منكسراً متضرعاً مستغيثاً وجلاً خائفاً، يسأل الله عز وجل نصره، يستنزله التوفيق من لدنه، يتجلبب بجلبات العبودية، ينسى مكانته، ينسى عرشه، ينسى القوى التي بهرته، ينسى كل شيء عدا كونه عبداً مملوكاً لله سبحانه وتعالى، ينسى أن الضعيف في سلطان الله عز وجل، ينسى أن الذليل تمت مظلة عزة الله سبحانه وتعالى، ينسى كل شيء، لا يذكر إلا أنه عبد ذليل منكسرٌ يقف على أعتاب الله سبحانه وتعالى.
أروني - أيها الإخوة - قائداً من قادة المسلمين، وأطلقوا عليه ما شئتم من الألقاب، أرونيه وهو واقف وقفة رئيس الدولة حمد عليه الصلاة والسلام ليلة بكاملها يستنزل النصر من عند الله عز وجل. أعتقد أنكم لن تعثروا على أيٍ منهم يقف موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن هو رسول الله؟ ومن هم قادة المسلمين اليوم؟ من هو رسول الله؟ ومن نحن في هذا العصر؟ رسول الله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، الذي هو بإجماع الأمة أحب الخلائق إلى الله سبحانه وتعالى، ذاك الذي قال له الله عز وجل: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5] ومع ذلك نسي ذلك كله، ولم يذكر إلا أنه عبد لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ووقف من المساء إلى الفجر يلتجئ إلى الله، ويتضرع على باب الله، ويستنزل النصر من عند الله سبحانه وتعالى. أليس قادة المسلمين إليهم أولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الضراعة؟ ألسنا نحن المحجوبون عن الله بذنوبنا، بمعاصينا، بأهوائنا، بمُنْسياتنا ومُلْهِياتنا؛ أولى بأن نقف موقف الخائف الوجل المستغيث المتضرع على باب الله عز وجل؟.
وأنا أركز - أيها الإخوة - على قادة المسلمين، ذلك لأنني ركزت على المعلمة التي سمعتموها، من كان قائد المسلمين يوم بدر في الالتجاء إلى الله؟ هل كان الناس هم الذين يتضرعون وليكون، رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على عرشه منصرف إلى شأنه؟ لا بل كان أولهم وقوفاً على باب الله، وأكثرهم تذللاً على أعتاب الله، وأكثرهم انكساراً رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إذن يتبقى أن يكون المسلمون اليوم أيضاً كذلك.
أنا لا أقف باهتمام كبير عند منظر أناسٍ من أمثالكم يتضرعون في المناسبات، في الليالي المباركة، يلتجئون إلى الله، يبسطون أكفهم بالضراعة أمام أعتاب الله عز وجل، لا أقف باهتمام كبير أمام هذا المنظر، على أني أعلم وتعلمون أن شأن العبد أياً كان أن يكون دائم التضرع، دائم الانكسار لله سبحانه وتعالى، كثير التبتل على أعتاب الله، لكن عندما نستنزل النصر من عند الله، عندما تحيط بنا عداوة الطغاة والبغاة والمتحكمين، فإنّ المطلوب أولاً وبالذات أن يكون المتضرع على أعتاب الله، والتجلبب بجلباب العبودية على باب الله، قادةُ المسلمين، حكامُ المسلمين، ملوكُ الأرض من المسلمين، كما كان الشأن يوم بدر، وفي الغزوات الأخرى أيضاً.
عندما أنظر فأجد أفراد الناس، وربما كانوا كثراً، يلتجئون إلى الله عز وجل، ويضرعون على بابه، وتهيمن عيونهم بالدموع خوفاً من عقابه. ولكني أنظر فأجد قادة المسلمين، قادة هؤلاء الملتجئين إلى الله عز وجل منصرفين إلى لهوهم، منصرفين إلى شؤونهم، قد حجبوا عن الله عز وجل، ولذة العبودية له بحجب كثيرة وكثيفة جداً، عندما أنظر فأجد هذه المفارقة بين الشعوب وبين القادة، لا أستطيع أن أتفاءل بالنصر، ولا يمكنني أن أعتب على الله، وأنّى لي ذلك، هيهات لابدَّ أن أوقن بأن الله عز وجل لا يظلم أحداً من عباده، سننه ماضية، قانونه ماضي لا يتبدل ولا يتغير، ترى لماذا ؟ يا أيها الإخوة لا يؤوب هؤلاء القادة إلى الله؟ لماذا لا يكونون أئمة الناس في وقوفهم على أعتاب الله، في التضرع أمام باب الله سبحانه وتعالى، كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بل كما كان شتى الخلفاء من بعده، بل كثيراً من الملوك أيضاً من بعده، الوقت يضيق عن وضع المشاهد الغريبة العجيبة لملوك تناسوا ملكهم، تناسوا عروشهم، نسوا كل شيء إلا الذل على أعتاب الله سبحانه وتعالى، فنصرهم الله وقال لهم بلسان الحال: لبيك.
نعم، انظروا إلى تاريخ الحضارة الإسلامية، ما من خليفة من الخلفاء؛ ما من ملك من الملوك؛ إلا والتجأ إلى الله في هالة الضيق، على أنهم لم يكونوا معصومين، كانت فيهم الأخطاء، كانوا ربما يرتكبون المعاصي، وربما زلت بهم الأقدام في ليالٍ من اللهو والنسيان وما إلى ذلك، ولكن جذوة العبودية لله لم تنطفئ في قلوبهم، ولكن هوياتهم كانت ماثلة أمام مرآة ذواتهم، كانوا يعلمون أنهم عبيد مملوكون لله عز وجل، وما منهم واحد إلا والتجأ إلى الله بصدقٍ أثناء الضيق، أثناء الأخطار، أثناء إقبال الأعداء من شرق أو من غرب إليهم، وكما قلت لكم: الوقت يضيق عن بيان ذلك.
إذا رأينا هذه المفارقة؛ فلا يعتبى أحد أيها الإخوة على المخطط التي تحاك ضد هذه الأمة، والتي نجد ثمارها، والتي نجد أن أصحابها ينتصرون، ونجد أن أصحابها يتغلبون، لا يعتبى أحد على الله عز وجل عندما يجد أن الذل قد حاق بالمسلمين الذين كانوا بالأمس القريب أعزة، وأن الفقر قد حاق بالمسلمين الذين كانوا إلى الأمس القريب أغنياء، عندما نجد كيف أن الضعف قد حاق بهم وقد كانوا إلى الأمس القريب أقوياء، رمضان شهر الالتجاء إلى الله، الناس يلتجؤون، الناس في المساء ذكوراً وإناثاً يهرعون إلى المساجد، لكن هذا لا يكفي أيها الإخوة، لابدَّ أن يتوج ذلك بإقبال قادة الأمة متضرعين متذللين خاشعين لله عز وجل.
وبدلاً من أن نرى ذلك نرى مظاهر عصبية وغريبة، لأختراق قدسية هذا الشهر المبارك، هل أحدثكم عن الخيام الرمضانية وما فيها؟ أنتم تعرفون. هل أحدثكم عن الليالي المزدهرة في أبهى الفنادق وفي المطاعم ذات الترف، وكيف نستقبل شهر رمضان؟ هل أحدثكم عمن تمشي بهم هذه الأبهاء وهذه المطاعم من أناس موقفهم من هذا الشهر موقف المستخف، موقف المستهزئ، موقف الذي يقول: نحن لن نلتقط من قدسيتك - أيها الشهر - إلا ما ينسينا ويلهينا؟ أليس هذا ما ترون؟ عندما نلاحظ هذه الظواهر لا تتعجبوا من أن تستقبلوا غيوماً إثر غيوم من مظاهر سخط الله.
على أن نعود فنتذكر أن رحمة الله سبقت وغضبه، وأن في عباد الله أناساً شعثاً غبراً لو أقسم أحدهم على الله لأبر قسمه، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هؤلاء الشعث الغبر شفعاء لنا، شفعاء لتقصيرنا وتقصير قادتنا، ونسأله سبحانه أن يكرمنا برحمته التي سبقت غضبه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.