
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


دور المناخ التربوي في كبح جماح الفساد والإفساد
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
قضى الله سبحانه وتعالى أن لا يولد الإنسان إلا وقد غُرست فيه طبيعتان اثنتان، أولاهما طبيعة الفطرة الإيمانية بالله عز وجل، والأخرى طبيعة الغريزة الحيوانية المهتاجة. يخلق الله الإنسان وقد غُرست فيه هاتان الطبيعتان وكلتاهما تكون راقدتين، كلٌ منهما ينتظر الفرصة السانحة لتستيقظ.
أما الفطرة الإيمانية فإنما توقظها التربية، توقظها الحوار، إيقاظ العقل لمعرفة الذات ولمعرفة الكنه والهوية، فإذا تحقق للإنسان المناخ الذي يوفر له هذه التربية، يمكنه من الوقوف أمام مرآة ذاته ليتبين من هو وما حقيقته ومن أين جاء وإلى أي نهاية يسير، إذا تحقق له هذا الشرط استيقظت الفطرة الإيمانية وقامت بمهامها ورقدت الغريزة الحيوانية أو ظلت راقدةً لا حراك فيها. وأما إن لم يتوفر لهذا الإنسان هذا المناخ، مناخ التربية، مناخ الوقوف عند معرفة الذات وتحقق له بدلاً عن ذلك المناخ الآخر الذي ينمي غريزته الحيوانية والذي يغذي أهواءه وشهواته المختلفة فلسوف تبقى الفطرة الإيمانية عندئذ راقدة وتستيقظ غرائزه الحيوانية المهتاجة لتفعل في كيانه فعلها، وذلكم هو معنى قوله الله عز وجل "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا".
الإنسان لكي يتحقق بإنسانيته ولكي تتفتح براعم المثل العليا التي غرزها الله عز وجل في كيانه ولكي يصبح بذلك خيراً من الملئ الأعلى ومن ملائكة الله عز وجل، لكي يتحقق فيه ذلك لابد له من المناخ التربوي والمناخ التربوي يكون في المنزل ويكون في المدرسة على اختلاف مستوياتها ويكون عن طريق وسائل الإعلام والمرافق الاجتماعية المختلفة.
إذا تحقق للإنسان هذا المناخ فلسوف تتفتح فيه براعم تجعل من هذا الإنسان الذي قضى الله أن يعيش فوق هذا الكوكب الأرضي ملكاً يسير على الأرض، يتصف بالأمانة وهيهات أن يعرف معنى للخيانة، يتصف بالإصلاح أينما ذهب وأينما حل وهيهات أن يركن يوماً ما إلى الفساد أو الإفساد. يتصف بالأخلاق الإنسانية السامية الرضية وهيهات أن يهبط عن مستوى هذه الأخلاق الفاضلة إلى أي منعرجٍ من المنعرجات السيئة التي هي ثمرة استيقاظ الغرائز الحيوانية المهتاجة.
فمن أراد أن يتبين الإنسانية المثلى ومن أراد أن يعرف السبيل إلى أن يكون الإنسان إنساناً مصلحاً في مجتمعه، أميناً على النعم التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها إخوانه وذريته بعيداً عن الخيانة، بعيداً عن الإفساد، بعيداً عن إشعال نيران الفتن فليعلم أن سبيل ذلك رهن بالمناخ التربوي، المناخ التربوي الذي لابد منه لكي تتفتح براعم الفطرة الإيمانية بين جوانح هذا الإنسان ولكي تستيقظ فطرته بعد ركود. هذه حقيقةٌ لا يمكن أن يرتاب فيها مرتاب.
وما أفسد الناس في الأرض وما آثروا الخيانة على الأمانة وما آثروا إشعال نيران الفتن على تحقيق أسباب الأمن والسلام إلا لأن فطرتهم الإيمانية ظلت راقدةً بين جوانحهم، وعاشوا في مناخٍ أيقظ غرائزهم الحيوانية بالوسائل المختلفة المتعددة التي تعرفونها، ومن ثم تحول هؤلاء الناس إلى شرٍ من الحيوانات التي تعيش في الأدغال، نعم وانظروا في هذا إلى قول الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ".
ما قصة هذا الإنسان الذي يتحدث عنه البيان الإلهي ويصفه بأنه يبرز من لسانه مظهر إنسان حضاري متأنق، يستطيع أن يتكلم الكلام الآسر، ولكنك تنظر إلى سلوكه وإلى أعماله فتجد أنه لا ينحط إلا لأسباب الفساد؟.
سلم الله عز وجل الإنسان هذه الأرض صالحةً مصلحة قد تواجدت وتكاثرت فيها كل الشرائط التي تحقق للإنسان رغد عيشه وتحقق للإنسان مقومات سعادته، ولكنه يعمد إلى هذه الأرض التي استصلحها له رب العالمين ووضعها أمانة بين يديه فيمعن فيها إفساداً، يفسد البيئة، يفسد المجتمع، يغرس بين الناس أسباب الفتن، يخون، يستأثر بدلاً من أن يؤثر، يُضحي بالآخرين في سبيل رغد عيشه، يصف البيان الإلهي هذا الإنسان الذي مُسخت إنسانيته لماذا لماذا مُسخت فيه هذه الإنسانية؟ لأنه لم يوقظ فطرته الإيمانية بين جوانحه، لم يتحقق له المناخ الذي يوقظ فيه هذه الفطرة الإيمانية، مناخ التربية.
وكما قلت لكم: مناخ التربية إنما يتحقق عن طريق المدرسة بكل درجاتها ومراحلها، وعن طريق الأسرة، وعن طريق وسائل الإعلام والمرافق الاجتماعية المختلفة. لما تاه المجتمع عن هذا الشرط الذي لابد منه ولما خلت مرافق المجتمع من هذه التربية التي لابد منها، رقدت الفطرة أو ظلت راقدة واستيقظت الغرائز الحيوانية. ومن هنا صدق عليه ما قاله الله عز وجل: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ" جمعت هذه الكلمة كل أنواع الفساد التي تتخيلونها وتتصورونها، لماذا؟ هذا هو السبب وليس ثمة سبب آخر قط أيها الإخوة.
ونحن اليوم نشكو من الفساد والإفساد بأنواعه الكثيرة المختلفة، الفساد الذي يتمثل في الرشوة التي تتحقق ما بين راشٍ ومرتشٍ، تنظر وإذا بهذه الرشوة القائمة على قدم وساق قد شلت فاعلية الشرائع والقوانين. يتمثل هذا الفساد في الخيانة في التعامل، في الكذب والافتراء، في اللصوصية، في اقتناص حقوق الآخرين، في السعي إلى جعل المجتمع فريقين: فريق يزداد فقراً وفاقةً واحتياجا، وفريقٍ يزداد غنى ويزاد تخمةً ويزداد تمسكاً وسكراً بالمال سكر لا ينتهي عن حد. هذا هو الفساد الذي يعبر عنه بيان الله عز وجل.
ما سبب هذا الفساد أيها الإخوة؟ لا يمكن أن يتيه عاقل عن الجواب عن هذا السؤال؟
سبب هذا الفساد أن أبطاله لم يُنشأوا في ظلال التربية الدينية الإيمانية بالله عز وجل، لم يتسنى لهم مناخٌ يقفون فيه أمام مرآة ذواتهم ليعودوا إلى أنفسهم فيتبينوا هوياتهم. من هم؟ من أين جاؤوا؟ وإلى أي نهاية سيرتحلون؟ وما المهمة التي حُملوها؟ ما الوظيفة التي كُلفوا بأدائها؟ هل يتحقق لهم ذلك؟ لما لم يتحقق لهم شيء من ذلك نظروا فوجدوا أن غرائزهم الحيوانية تهتاج بهم، وليس هنالك ما يقلم مخالب هذه الغرائز بشكل من الأشكال، اهتاج الفجور كما قال الله عز وجل ورقدت مشاعر التقوى، وهذا كلام الله.
ما من إنسان إلا وقد فطره الله عز وجل على هذين الجانبين ألهمه التقوى وألهمه الفجور "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا". لم يجد هذا الإنسان من يوقظ مشاعر تقواه فكانت فطرةً راقدة بين جوانحه، لا المجتمع التفت إليه ليحقق له هذا الأمر ولا المناخ التربوي تحقق له لا في مدرسة ولا في مرفق من مرافق المجتمع ولا في أجهزة الإعلام، فلما اهتاجت الغرائز سلك فوق هذه الدنيا مسلك الحيوانات في غاباتها، لا بل أظلم الحيوانات إن قلت ذلك كان شراً من الحيوانات في غاباتها.
وأنا أقول لكم أيها الإخوة بحق: لو علم الله أنه هنالك وسيلة غير وسيلة الإسلام في معتقداته وعباداته ومعاملاته يرقى بالإنسان إلى مستوى الإنسان المصلح لنفسه ولمجتمعه، الذي يحقق لمجتمعه نسيج الأمن والسلام ورغد العيش، إذاً لشرع الله لذلك لهذا الإنسان السبيل الذي يحقق له هذا من دون الإسلام، ولكن الله العلي الحكيم علم أن السبيل الأوحد الذي يحقق في الإنسان هذا المعنى ويجعله يرقى إلى هذا المستوى إنما هو دين الله عز وجل المتمثل في العقيدة.
والعقيدة دورها في هذا أنها تجعل الإنسان تضع الإنسان أمام هويته، عبد مملوك لله عز وجل، أنّا سار وأنّا ارتحل رقابة الله تلاحقه، ثم إن العبادات تغذي هذه العقيدة، تغذي لديه هذه الرقابة فيسير في فجاج الأرض وهو يعمل أن قيوم السموات والأرض يراقبه، ويعلم أن له وقفة بين يدي الله عز وجل، وأنه سيعرض للعقاب إن هو أساء وأفسد وأن الله سيجزيه الجزاء الأوفى إن هو أحسن، يعلم هذا ومن ثم فإن هذا الدين يقلم مخالب الأذية كيانه، يجعله يسير في فجاج الأرض وهو ينشر بين الناس مظلة الأمن والسلام والأخلاق الرضية الفاضلة.
وأنا أضعكم أمام دليلٍ قاهرٍ باهرٍ على هذه الحقيقة، لو أن إنساناً ملحداً له شركة كبرى بحث هذا الإنسان الملحد صاحب هذه الشركة عن موظفٍ يرعى حساباته وجاءه اثنان أحدهما ملحدٌ ذو بصيرةٍ بعلوم الحساب والرياضيات وعلوم الاقتصاد ولكنه ملحد وجاءه إنسان ثانٍ ليس له هذه المكنة كلها ولكنه مؤمن يخاف الله سبحانه وتعالى، أي الرجلين يختار هذا الإنسان الملحد صاحب هذه الشركة؟ كلكم يعلم الجواب، لا يتردد وهو ملحد في أن يختار هذا الإنسان المؤمن الذي يخاف ربه لأنه يعلم أنه لن يخونه ولن يغدر به ولأنه يعلم أنه يخاف من رقابة الله عز وجل عليه وما نقوله عن الشركة ورعايتها نقوله عن المجتمع ورعايته.
رأسمالنا الوحيد أيها الإخوة لضمان مجتمعٍ صالحٍ ومصلح لا تتراءى فيه أسباب الوقيعة والفساد ولا يتراءى فيه ما يسمونه بالإرهاب، الضمانة الوحيدة لذلك كله أن تتحقق التربية الإسلامية على نهجها القويم الصحيح في مختلف مرافقنا الاجتماعية، بدءاً من المدرسة بشتى مراحلها إلى وسائل الإعلام بكل صنوفها إلى الأسرة والبيت.
هذه هي الضمانة وهذا هو رأسمالنا إن تحقق ذلك فلسوف يكون مجتمعنا مضرب المثل في المجتمع الذي تتألق فيه السعادة والأمانة ويتألق فيه السلم والأمن والأمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن إن أعرضنا عن هذا الشرط وإن استخف به المستخفون وطويت هذه الوسيلة من الاعتبار كلياً أو جزئياً فلنعلم أن مجتمعنا لن يسير من فسادٍ إلا لفسادٍ أشد ولنعلم أنا مهما سرنا في جوانب الأرض فلسوف نبتعد عن الصلاح والإصلاح ولسوف نبحث عن الأمن ولا نرقى إليه ولسوف ننشد الأخلاق الرضية الفاضلة ولكننا لن نعثر عليها.
ونحن بحمد الله لم نعان في يوم من الأيام من أصولٍ جانحة في تربيتنا الإسلامية في مجتمعنا هذا، لن تتسرب يوماَ ًما أصابع الدخيل من أجل أن تحملنا على مناهج تربوية لا يرضى عنها ديننا، كنا ولا نزال نرعى شؤوننا التربوية ذاتياً، دون تدخلٍ من أجنبي إطلاقاً، ومن ثم فإن مناهجنا أغنى ما تكون عن إعادة النظر إليها بدافع من أمر أجنبي. لسنا بحاجة إلى أن نصغي السمع إلى من يعلمنا ويرشدنا من الألسن الأجنبية التي لا شأن لنا بها ولن نجد أنفسنا يوماً ما بحاجة إلى أن نذل ونهون أمام أولئك الناس، لم نكن بحاجة إليهم بالأمس حتى ندين بالحاجة إليهم اليوم بشكل من الأشكال، ومن ثم فالمأمول من شامنا هذه والقائمين على أمورنا هذه أن يعلموا أن معين التربية الإيمانية هو معين السعادة لهذه الأمة، السعادة بكل أصنافها، بكل معانيها، كل من كان صادقاً في أنه ينشد الأمن وينشد الصلاح ويحاول القضاء على الفساد بكل أشكاله فليرجع إلى هذا المعين وليغذي هذا المحتمع الإنساني في هذه البلدة المقدسة بهذا المعين الإيماني.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.