مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/08/2005

ثلاثة.... يزال الهرج بزوالها

ثلاثة.... يزال الهرج بزوالها


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 12/08/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لا أعلم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أجل وأسمى وأبقى من نعمة هذا الإسلام الذي توج الله عز وجل به عقول المسلمين وقلوبهم، وحسبكم دليلاً على هذا قول الله سبحانه وتعالى وهو يعلن على أسماع عباده هذه النعمة، وينوه بأهميتها، إذ يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3] أي إن النعم مهما كانت كثيرة ومتنوعة؛ فإنها تبقى ناقصة حتى تكمل بنعمة الإيمان والإسلام. ولذلك قال: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [5/3:44-46] والآيات التي ينوه الله عز وجل بها عن أهمية هذه النعمة كثيرة جداً، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل على عظيم محبة الله عز وجل لعباده، الذين توجوا عقولهم بتاج هذا الإسلام، وأسدوا أنفسهم بحقيقة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.


هذه النعمة التي أغدقها الله عز وجل على عباده المسلمين، هي محل طمع ومحل حسد من أعداء هذه الأمة، وأعداء الله سبحانه وتعالى. وكلكم يعلم أن المكائد المتنوعة المختلفة تطوف بقصد السوء بهذه النعمة التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على عباده المسلمين.


إن الخطر الذي يحدق بإسلام وبإيمانهم نوعان اثنان:


أحدهما آت من الخارج، وهو يتمثل كما تعلمون في الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين، والخطط التي تحيل هذه الحرب من مستوى النظر والوعيد والإنذار إلى مستوى التطبيق العلمي، هذا هو الخطر الأول، أو النوع الأول، وهو خطر خارجي.


أما النوع الثاني فخطر داخلي، ولعله الخطر الأشد، ولعله البلاء الأطم، هذا الخطر الداخلي يتمثل في الهرج الذي يتم تحت اسم الجهاد في سبيل الله عز وجل، والهرج شيء حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما تحذير، والجهاد المبرور أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن أنه ماض إلى يوم القيامة.


مسخ الجهاد في أكثر الأحيان لا في سائرها، وتحول إلى الهرج الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح هذا الهرج هو الخطر الأشد، والبلاء الماحق، الذي ينذر بالعاقبة السيئة للإسلام والمسلمين. من المفروض أن يكون المسلمون حراساً على صفحة هذه الإسلام المشرقة ألا تتسرب إليها غاشية، وألا تشوبها شائبة، ولكن هذا الهرج يتجه إلى نقيض ذلك، يتجه إلى هدف يتمثل في لطخ إشراق الإسلام بالسواد، ولسوف يبقى الإسلام مشرقاً، ولكن هذا هو الهدف، ومن أجل هذا يتنامى هذا الهرج، ولا يقف عند حد.


ولعلكم جميعاً تعلمون ما أقصده بالهرج، أنا لا أحب أن أستعمل الكلمات التي لا وجود لها في قاموسنا الإسلامي، كالإرهاب ونحوه، وإنما أحب أن أستعمل الكلمة القدسية التي استعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حذر أي تحذير من هذه الأعمال الغوغائية، من هذا التطرف، من هذا الغلو، هذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال فيما رواه مسلم والنسائي وأحمد: ﴿من خرج من أمتي على أمتي، لا يفرق بين برّها وفاجرها، ولا يتحاشا مؤمنها، ولا يفي بذي عهد فيها، فهو ليس مني﴾. هذا ما أعنيه بالهرج، وكلكم يرى صوراً أو سمع صوراً له.


والشيء الذي أريد أن أقوله - أيها الإخوة - في هذا الصدد، وأرجو أن يبلغ أسماع من يبحثون عن العلاج لهذا الهرج، وعن أقصر سبيل للقضاء عليه، أريد أن أتسائل: ما هو السبيل للقضاء على هذا الهرج الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟


قبل أن أحدثكم عن العلاج ينبغي أن أحذركم من الأسباب التي غذت هذا العمل الغوغائي الذي يهب في تمزيق الإسلام وشرعته، ويهدد صفحة الإسلام بالسواء، ينبغي أن أحدثكم عن الأسباب التي غذت هذا الهرج. إذا عرفنا الأسباب فإن أول خطوة نحو العلاج أن تنقضي على هذه الأسباب التي كانت هي المزرعة الأولى والأخيرة لهذا الغلو، لهذا التطرف، لهذا الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الهرج.


أول هذه الأسباب: أن كثيراً من الدعاة إلى الله ومن الذين يتسمون ويتصفون بالفقه في دين الله عز وجل؛ مرت سنوات على عالمنا العربي والإسلامي وهم ما بين مبرر لهذا الهرج وساكت عنه، ينبغي أن نتذكر هذا إن كنا قد نسيناه، وعندما تتذكرون الغوغاء الذي انتشر في الجزائر، وعندما تتذكرون الهرج الذي انتشر في تلك البقاع التي كانت تتجه إلى الانضباط والتقيد بالإسلام بسرعة عجيبة، عندما تتذكرون ذلك الهرج الذي فوجئت به تلك الأمة في ذلك الصقع العزيز، تذكروا أن كثيراً ممن كانوا يوصفون بالعلماء، ويوصفون بالدعاة إلى الله عز وجل، كانوا ما بين مبرر علناً لذلك الهرج، وما بين ساكت عن ذلك، إلى أن تفاقم الوضع، واشتدت الأمة، وأخذت تنذر بالخطر السياسي إلى جانب الخطر الديني، ارعوى أولئك الناس، وجمعوا جموعهم، وأصدروا بياناً يفندون فيه هذا الذي كانوا يبررونه بالأمس.


واليوم يجب أن نعلم أن أصداء تلك المواقف لا تزال موجودة، أصداء ذلك التبرير لا تزال تسري إلى آذان هؤلاء الناس الذين يمارسون أعمالهم الغوغائية من تفجيرات ونحوها، الأصداء لن تتوقف، ولسوف يقول قائلهم: كيف كان هذا الأمر مبرراً لسنوات طويلة، ثم إنه غدا غير مبرر، والعمل هو هو، لم يختلف قط، هذا هو السبب الأول.


السبب الثاني أيها الإخوة: هو أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لم تعد صافية عن شوائب السياسة كما كانت من قبل، كانت الدعوة إلى الله عز وجل صاخية من سائر الشوائب، ومن ثم فكانت لهجة الدعوة تسري بالثقة إلى نفوس السامعين، وكانت الفتاوى هي الأخرى صافية عن الشوائب كلها، لا تنبعث إلا من عقول مؤمنة، وقلوب تخاف الله سبحانه وتعالى، وتخشى اليوم الآخر. فكانت هذه الفتاوى أيضاً تجد مكان الثقة بها في نفوس الناس. اليوم تمازجت أعمال الدعوة إلى الله عز وجل مع السياسة كما تعلمون، وامتزجت الفتاوى هي الأخرى مع الأهداف السياسية المتنوعة كما تعلمون، لما امتزج هذا بذاك؛ كان لهؤلاء الغوغائين الحق أن يقولوا: ونحن أيضاً نمزج حقيقة الدين بالسياسة التي ينبغي أن نسير على أساسها. دين وسياسية، السياسة تقتضينا أن نفجر، أن نقتل، أن نفعل ما نفعله وإن ذهب ضحية ذلك كثير من البرآء. دين وسياسة، هكذا تعلمنا، وهكذا فهمنا، ونحن نتتلمذ على الشيوخ الذين يقومون بواجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. هذا هو العامل الثاني أيها الإخوة.


أما العامل الثالث، السبب الثالث لهذا الهرج كما وصف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فيتمثل في تكاثر المرجعيات الدينية اليوم، من المفروض والأمة الإسلامية أمة واحدة، وإسلامها إسلام واحد، ومعني الأحكام الإسلامية واحد، هو كتاب الله سبحانه وتعالى، وما السنة النبوية إلا ظل من ظلال كتاب الله عز وجل، وأثر من آثار التمسك بكتاب الله عز وجل، كان المسلمون يعتمدون فيما مضى على مرجعية واحدة، وكانت هذه المرجعية تتمثل في أناس علماء يخافون الله، يضحون بالدنيا والمصالح كلها في سبيل مرضاة الله عز وجل، ويعلمون أن الفتوى توقيع عن الله سبحانه وتعالى، فكانت المرجعية واحدة، وكانت الأمة تثق، ومن ثم لم يكن يتسرب شيء من الفوضى الدينية بين الناس، ولم تكن لتقارع الفتوى الفتوى المناقضة إطلاقاً.


خلف من بعدهم خلف، إذا بهذه المرجعية تتوالد منها مرجعيات كثيرة متنوعة متعددة كما تعرفون اليوم، أَأَعُدُّلَكُمْ هذه المرجعيات؟ لستم بحاجة إلى ذلك.


آخر هذه المرجعيات مرجعية جديدة استقرت في قلب أوربة، أصبحت هي المرجع للإسلام الأوربي كله، انفصلت عن المرجعية المنبعثة من منظمة المؤتمر الإسلامي، انفصلت عن المرجعية الممنفصلة عن مجمع البحوث المنبعث والمتفرع عن الأزهر.


وهكذا مرجعيات تتوالد وتتكاثر، وتتأمل فتجد أنها متخالفة، إن لم أقل في معظم الأحكام، ففي الأحكام الخطيرة التي نحن بأمس الحاجة إلى أن ننزع عن رأي واحد فيها. ننظر فنجد أنها مرجعيات متناقضة، أنا أسألكم أليس للقائمين على هذا الهرج اليوم الذين يسيرون في طريق الغلو والتطرف، أليس لهم الحق ولو من حيث الشكل أن يقولوا: ونحن أيضاً لنا مرجعيتنا المختلفة، ما دامت المراجع كثيرة، ومادامت أنها متناقضة لا تنتهي عند رأي واحد، فنحن أيضاً لسنا أقل من هؤلاء الذين يؤسسون لأنفسهم مرجعية ويدعون الناس إليها. نحن أيضاً نأبى أن نأخذ بالأفكار الأخرى، سنأخذ بأفكارنا، نحن. هذا هو السبب الثالث.


وأنا أقول - أيها الإخوة-: إذا قُضي على هذه الأسبب الثلاثةَ قضى على الهرج. ليعلم هذا الذي أقول القاصي والداني.


لعل هنالك من يقول: ألا ترى أن هذه المشكلات التي من شأنها أن تعصف بالعقل وجعل القيادة للأعصاب، ألا ترى أنها سبب من أهم أسباب هذا الهرج، وهذا العمل الغوغائي، وهذا التقتيل والتذبيح.


وأنا أقول: لا شك أن هذا الواقع موجود، وأن المناخ مليء بهذه الجرائيم، وأن الجراثيم تبعث على الأمراض، وهذا الغلو مرض من الأمراض، لا شك في ذلك. نحن نعلم أن العدو عندما يستشري وعندما يحتل الأرض ويقضي على العرض ويهدد القيم لا شك أن هذا ربما يكون سبباً لغياب العقل عن الرشد، ولتحكيم الأعصاب لصاحبها قد يكون هذا، ولكن مع هذا كله شريعة الله سبحانه وتعالى لها الأولويات دائماً، وحكم الله يعلو ولا يعلى عليه، لا يجوز لنا أن نفير من أوامر الله قط، رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر فيقول: ﴿من خرج من أمتي على أمتي لا يفرق بين برها وفاجرها، لا يتحاشى مؤمنها، لا يفي بذي عهد فيها فليس مني﴾. نعم، الأعصاب مشدودة، لكن بوسعنا أن نعيد الحاكمية إلى العقل المدبر، وأن ننيم الأعصاب ونهدئها إن قضينا على هذه الأسباب الثلاثة التي حدثتكم عنها.


أقول قولي هذا، والله المستعان أن يهدينا إلى سواء صراطه المستقيم. فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي