مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/06/2005

الحفاظ على هوية الأمة

الحفاظ على هوية الأمة


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 10/06/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


ترددت على لسان أعلى في هذه البلدة خلال الأسبوع الفائت كلمة الهوية، الهوية العربية، أو هويتنا الحضارية، ترددت هذه الكلمة على لسان أكبر سلطة في الأسبوع الماضي، لدينا بصدد ضرورة حمايتها، بصدد ضرورة رعايتها ضد الكائدين لها، والمتربصين بها، وإنها لحقيقة لا ريب فيها، فصلاح الأمر ينطلق من رسوخ الهوية، وفساد الأمر منطلقه ضياع الهوية. ولذلك فقد كان التركيز على هوية الامة وضرورة حمايتها أمراً محورياً وأساسياً لن يبتغي إصلاح الأمور، وتجنب الفساد في هذه البلدة.


ولكن ما هي هويتنا؟ إن شئت أن تقول: العربية، أو إن شئت أن تقول: الحضارية.


يقول العلماء: إن هوية الشيء هي الذاتيات التي يتالف منها ذلك الشيء، الذاتيات التي يتكون منها شيء ما هي التي تنعت بالهوية، أما الأعراض التي تأتي وتذهب ولا تستقر فهي صفات، وهي لا تنعت بالهوية قط.


الدار لا يمكن أن نتصور أن الأثاث جزء من هويتها، لا يجوز لنا أن نتصور أن طلاءها جزء من هويتهان لأن الأثاث يتغير، والطلاء يتبدلن هوية الدار تلك الجدران والسقوف والغرف والمواد التي يتألف منها البيت، أو تتألف منها الدار.


هوية هذه الأمة ذاتيتها التي لا تنفك عنها، والتي إن ودعت هذه الدنيا رحلت إلى الله عز وجل بها، تلك هي الهوية، وقد صدق الله عز وجل القائل: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً، كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدّاً، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً﴾ [مريم: 77-80].


الأعراض التي يتباهى بها في دار الدنيا، الأعراض التي تمر بحياته، وتبعث النشوة في رأسه، وتخلى عنه، ولن يرحل إلى الله عز وجل إلا فرداً، أن إلا بهويته الذاتي التي لا تتبدل، ما هي الهوية التي يرحل بها الإنسان من هذه الدنيا إلى الله مجرداً من الأعراض المختلفة التي كان يركن إليها ويتباهى بها؟


هي كينونته عبداً لله عز وجل، هي مملوكيته لله سبحانه وتعالين هذه هي الحقيقة إذن.


فهوية هذه الأمة إنما هي صلة ما بينها وبين الخالق سبحانه وتعالى، وصلة ما بين العبد وخالقه إنما هي صلة المملوك بالمالك، صلة العبد بالمولى والسيد مهما تقلب الإنسان، ارتفع أو هبط، استغنى أو افتقرن تعلم أو جهل، قوي أو ضعف، كل ذلك أعراض، وكل ذلك سيودّعه إلى غير رجعة، لكنّ شيئاً واحداً لا يفارقه لأنه داخل في كينونته، ومن ثم فهل يمثل هويته، ألا وهو عبوديته لله سبحانه وتعالى.


مهما تقلب الإنسان في أهوال وظروف يظل عبداً لله عز وجل، وصدق الله القائل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} [مريم: 93-95] أي متخلياً عن الأعراض التي كان يخدع بها، والتي كان يتباهى بها في دار الدنيا.


وأحسب أن هذا الذي اهتم بالحديث عن الهوية، وهو أعلى سلطة في بلدتنا المباركة هذه، إنما كرر هذه الكلمة إمعاناً في ضرورة المحافظة عليها، وتأكيداً لضرورة التوصية بها وترسيخها، المحافظة عليها، ضد المتربصين بها، والكائدين لها.


ولكن ما السبيل إلى محافظة هذه الأمة على هذه الهوية؟ هوية الأمة المتمثلة بعبوديتها لله، ومن ثم في الذيول المتعلقة بهذه العبودية، ضرورة الانقياد لأوامر الله، والخضوع لسلطانه، وتغذية هذه العبودية بغذائها الضروري. ما السبيل إلى حماية هذه العبودية وتغذيتها في أمتنا هذه؟ هل السبيل إلى ذلك إيجاد حزب إسلامي طال ترقب كثير من الناس له؟ ولقد طرح هذا بالأمس القريب.


أيها الإخوة! أنا ممن فكر في هذا كثيراً، وتأمل في هذا كثيراً، من منطلق الإخلاص لدين الله، ومن منطلق السعي إلى خدمة عبوديتنا لله عز وجل، انتهيت إلى أن هذا السبيل لن يخدم هويتنا بشكل ما عندما يتألف حزب إسلامي، فمعنى ذلك أن قطعة تبتضع وتقطع من هذه الأمة، لتكون مظهراً لهذا الحزب الإسلامي.


ولاشك أن الذي سيقود هذا الحزب - وأقولها بصراحة لكي تتبينوا الأمر، ولأفرض أنني أنا الذي سأختار لذلك - سأجدني أمام ضرورة المنافسة، منافسة الأحزاب الأخرى على مسرح السياسةن لابدَّ وأنا أنافس تلك الأحزاب أن استعمل السلاح ذاته، والسلاح على مسرح هذه المنافسة إنما هو سلاح السياسة، ولسوف أمشي بضع خطوات وأنا أستخدم السياسة لما يرضي الله، ولكنني الحق أقول، وأنا بشر ولست ملكاً، سأجدني فيما بعد وقد أصبحت أضع السياسة غاية في طريقي، بل سأجدني فيما بعد وقد أصبحت أستخدم الدين للسياسة.


هذا الواقع - أيها الإخوة - الذي أعتقده وأجزم به نتيجة تجارب مرت في مجتمعاتنا وفي مجتمعات أخرى أيضاً.


كثيراً ما وجدت الذين يقودون أحزاباً تعلن عن نفسها أنها أحزاب دينية، ولكنها تتحرك بين أمواج السياسة، كثيراً ما رأيتهم يستبدلون بدين الله من أجل غايات سياسية، يغيرون ويبدلون من أحكام الله عز وجل من أجل طموحات سياسية، وربما تأولوا، وربما برروا، وربما اجتهدوا، إذن ليست هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لحماية الهوية التي ينبغي أن تكون محور أعمالنا لحماية هذه الأمة على كل الأصعدة.


إذن: ما السبيل أيها الإخوة؟


السبيل هو ما قد قلته لكم قبل بضعة أسابيع، لابدَّ أن تكون لهذه الأمة في بلدتنا الإسلامية المباركة مرجعية واحدة عليا، تمتص الغلو، الإفراط، التفريط، الشذوذ، لابدَّ أن تكون ثمة هذه المرجعية العليا متمثلة فيما: سميته بالمجلس الإسلامي الأعلى، لابدَّ أن يتألف هذا المجلس الإسلامي الأعلى من علماء ثبتت بشهادة هذه الأمة استقامتهم على الحق، ثبتت بشهادة هذه الأمة عدالتهم في المعتقد والسلوك، ثبتت بشهادة هذه الأمة أنهم يضحون بالأدنى في سبيل الأعلى، يضحون بمكاسب الدنيا في سبيل مرضاة الله عز وجل، شهدت لهم الأمة بالوسطية، بالمرحمة بحسن الظن، ولابدَّ أن يكون لهذا المجلس الإسلامي الأعلى صلاحياته التامة، ولابدَّ أن يكون منوطاً بأعلى سلطة، هذا المجلس الإسلامي الأعلى بهذا الشكل، والذي يشكل هذه المرجعية هو الضمانة لحفظ هذه الهوية، هو البديل عما قد يتصوره بعض الناس من ضرورة وجود حزب إسلامي إلى جانب أحزاب سياسية أخرى، نعم.


الحصن الذي يحمي هوية هذه الأمة هذه المرجعية والمتمثلة في المجلس الإسلامي الأعلى، عندما يتحقق موصوفاً بهذه الصفات، مقيداً بهذه الضوابط، فلسوف يكون هذا المجلس الإسلامي الأعلى مظلة تتحرك تحتها كل المؤسسات الحزبية، كل الاتجاهات المتنوعة المختلفة، لأنها الهوية، ولأن هذه المؤسسة المرجعية هي الرقيب الأول لهذه الهوية، هنا لا يمكن أن تتنافس السياسات المختلفة المتصارعة، ولا يمكن لسلطان الدين أن يقع تحت سنابل السياسيات المهتاجة المتحالفة والمتنافسة والمتسابقة فيما بينها، مظلة هذه المرجعية تتميز بالفوقية، مظلة هذه المرجعية تتميز بالشمول، من كان مؤمناً بالله ومسلماً كان واجبه أن يغذي هذه المرجعية ويتعامل معها بالإيجاب، ومن لم يكن ملتزماً بعقائد الإسلام فواجبه ألا يعارضها، واجبه ألا يحاربها، أجل. لأن الوحدة الوطنية إنما تنبثق من هذا النهج الذي أقوله لكم، أيها الإخوة، نعم.


ولقد ذكرت لكم كلمة ما أنساها، قالها أكبر سلطة يوماً ما في هذه البلدة: الناس كلهم في هذه البلدة مسلمون مؤمنون بالله، أما المسلمون فانتماؤهم إلى الإسلام بالعقيدة والوطنية، وأما غير المسلمين فانتماؤهم إلى الإسلام بالوطنية والتاريخ.


وهكذا فهنالك جامع مشترك بين هذه الفئات كلها، ولاشك أن حرية المعتقد حصن آخر يقي هذه الوحدة التي ينشدها دائماً.


أيها الإخوة! لعل فيكم من يتصور ويتساءل: لماذا تفتح الأبواب للأحزاب المختلفة المتعارضة، ثم يحظر على الإسلام في هذه البلدة أن يعبر عنه بحزب. لا، الجواب ذكرته مراراً، ينبغي أن تتبينوه. الإسلام - أيها الإخوة! كما قلت مرةً - هو المعصم الذي يحتصن هذه الأصابع كلها، وإذا قلنا: لا، بل فلنجعل للإسلام حزباً آخر، له كرسي سادس أو سابع أو خامس إلى جانب الأحزاب الأخرى، فمعنى ذلك أننا مسخنا هذا المعصم، وجعلناه إصبعاً سادساً في هذه الأصابع كلها.


نحن إنما ننظر إلى الإسلام على أنه هوية هذه الأمة كلها، الإسلام هو هوية كل الأحزاب التي يمكن أن تظهر وتنهض يوماً ما في الساحة، فلتتحرك سياسياً ولا حرج، أما الجذع فهو الهوية، والهوية كيف تغذى؟ تغذى بهذه المرجعية التي كنت ولا أزال أحلم بها، والتي كنت ولا أزال أقترحها وأوصي بها، وأسال الله عز وجل أن يكون ميقات تحقيقها وولادتها قد أزف.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي