مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/02/2005

ضعف تضامن المسلمين نتيجةٌ لضعف الوازع الديني

ضعف تضامن المسلمين نتيجةٌ لضعف الوازع الديني


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 18/02/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من الحقائق التي لا يعتريها ريب ولا شك أن الوازع الإيماني والديني كلما ازداد قوة في أفئدة المسلمين ازدادت مشاعر التضامن الإسلامي قوة فيما بينهم، وازدادت حقيقة الأخوة الإيمانية فاعلية في علاقة بعضهم ببعض، وكلما ضعف الوازع الديني والإيماني في أفئدة المسلمين ضعفت مشاعر التضامن وضعف الوازع الذي يدعو إلى الإخاء الذي ثبته وقرره بيان الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]. وعندئذ تحل الأثرة في محل الإيثار، والأنانية في محل التعاون والتضحية، هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها تضامن المسلمين رهن بالوازع الديني الذي يهيمن على قلوبهم، فإن رأيت أمة تتخاذل بدلاً من أن تتضامن، وتتدابر بدلاً من أن تتلاقى وتتعاون، ويشمت بعضها ببعض بدلاً من أن تغار الواحدة منهم على الأخرى، فاعلم أن الوازع الديني في القلب ضعيف، أو لعله غائب.


وكم هو دقيق وعجيب هذا المعنى الذي لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظارنا إليه في الحديث الذي يرويه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ﴿المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره﴾ ثم قال: ﴿التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره – كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله، بحسب ارمئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم﴾.


ألا تتساءلون أيها الإخوة: ما العلاقة بين هذا الذي ينبه المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلمين إليه من ضرورة إحياء الأخوة الإسلامية فيما بينهم، ومن ضرورة تسيار شبكة التعاون والتآلف والدفاع عن الحق فيما بينهم؟ ما العلاقة بين هذا الذي يذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله وكأنها جملة اعتراضية: ﴿التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا﴾. ويشير إلى صدره؟ العلاقة هي ما قلته لكم أيها الإخوة: الوازع الديني مكانه القلب، إذا وجد الوازع الديني وتكامل في القلب لا بد أن تتحقق من جراء ذلك ثمراته، وثمراته في المجتمع الإسلامي التضامن، ثمراته التآلف، ثمراته الأخوة التي قررها بيان الله عز وجل وأمر بأداء حقوقها إذ قال: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] نعم، فإذا وجد هذا الوازع فلا داعي إلى التنبيه إلى ضرورة التضامن، ولا حاجة إلى التنبيه إلى تحقيق الوحدة الإسلامية أو الأخوة الإيمانية، لأن الوازع الديني الذي هيمن على القلب هو وحده كاف لتسيير الأمة في هذا الطريق، ولتحقيق شبكة الألفة والتضامن والتعاون والتآخي فيما بينهم.


ولكن عندما يغيب هذا الوازع، عندما يغيب الوازع الديني من القلب فانتظر ذلك، ذلك لأن الإنسان بطبعه أناني النزعة، فهو يجنح إلى الأثرة بدلاً من الإيثار، ويجنح إلى إرضاء غروره الشخصي بدلاً من مدِّ يد التعاون إلى إخوانه، أجل هذه هي الحقيقة.


وانظروا إلى المزيد والمزيد من حكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ودقة قوله، لعل في الناس ممن يسمع هذا الكلام الذي أقوله يؤكد أن الوازع الديني موجود، ولا أدل على ذلك من الشعارات الإسلامية التي ترتفع هنا وهناك، لا أدل على ذلك من التلاوات المتكررة لكتاب الله عز وجل في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة المختلفة، لا أدل على ذلك من الاحتفالات التي تقام في المناسبات الدينية المختلفة، والخطب الرنانة التي تتم في هذه الاحتفالات، يأبى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد على هؤلاء المتفيهقين ﴿التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا﴾. الوازع الديني لا يتلألأ في الشعارات، الوازع الديني لا يتجلى في الأصوات المفخمة الجميلة التي تتلو كتاب الله عز وجل في المذياع والتلفزيون، الوازع الديني لا يتجلى في الاحتفالات، الوازع الديني ينبوعه القلب، مكانه القلب، إذا وجد هذا الوازع وهيمن على القلب، تحققت الأخوة، وتحقق الإصلاح ما بين الإخوة، وتحقق التضامن والتعاون ودفاع الأخ عن أخيه.


ولكن إذا غابت التقوى التي لا مكان لها إلا القلب، فلا قيمة لهذه الشعارات المعلنة، لا قيمة لهذه المظاهر البراقة، النفاق موجود منذ عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرأيتم إلى دقة هذا الكلام في سياق هذا الحديث أيها الإخوة: ﴿المسلم أخو المسلم لا يظلمه لا يخذله لا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره – بحسب امرئ مسلم أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله﴾.


ما الضمانة؟ ما الضمانة ليحقق هذا في المجتمع الإسلامي؟ التقوى ينبغي أن تهيمن على القلب؛ واليوم أيها الإخوة داؤنا العضال الذي لم نتنبه إليه بعد غياب هذه التقوى، داؤنا غياب هذا الوازع الذي لا مكان له إلا الفؤاد، عدونا كما قالوا: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك. هذا هو العدو الأول. أما العداوات الأخرى التي تتجلى بأبصارنا هنا وهنا وهناك فإنما هي أصداء ونتائج ثمرات لعمل هذا العدو الألدّ، ألا وهي النفس، فعلاً أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، هذا العدو هو فرق وحدة الأمة اليوم، هذا العدو هو الذي جعل الدول العربية والإسلامية، أقول العربية والإسلامية، لأن العروبة سر من أسرار الإسلام، ولأن العروبة سلم إلى فهم بيان الله سبحانه وتعالى، فمسؤولية العرب من المسلمين راسخة عليهم قبل غيرهم، عندما ننظر فنجد أن هذه الدول متدابرة متفككة الأوصال، كل يعكف على ملاذه، كل يعكف على الضمانات التي لا بد منها لبقاء كرسيه، أخوه وجاره الذي إلى جانبه يهدد، وتزداد عوامل التهديد والإنذار، وتضيق ثم تضيق، ثم تكاد أن تأخذه بالخناق، والجيران مشغولون عن هذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بالنظر إلى مصالحهم، بالنظر إلى أنانياتهم، الأثرة هي السوط السائق، وهي الهادي، وهي القائد، وليس الإيثار. الأثرة حلت في حياة المسلمين محل الإيثار أيها الإخوة، عندما تنظر فتجد كيف أن أوصال الأمة الواحدة التي كانت إلى الأمس القريب الواحدة قد تفككت، وأصبحت كل قطعة من هذه الأمة تسخر لأيذاء القطعة الأخرى، كل قطعة من هذه الأمة تسخر للإيقاع بالقطعة الأخرة، تمتد وتشيع الشماتة بين هذه القطع، بدلاً من أن تمتد آصرة التعاون، بدلاً من أن تمتد آصرة التآخي. نعم لماذا؟ لأن الوازع الديني، ولأن مكانه التقوى فارغ، ليس فيه إلا الأنا، وليس فيه إلا المصالح الذاتية، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها. لَمّا آل أمر المسلمين إلى هذه الحال، وتفككت عرى التضامن، تمزقت حقيقة الأخوة التي قرأها بيان الله عز وجل لنا، ظهرت العداوات المختلفة من حولنا، كأثر لهذا العدو الألدّ النفس الأمارة بالسوء، عدونا الأول ليس ذاك الذي يتهددنا، ليس ذاك الذي يصبح ويمسي ويكرر تحذيره ويكرر تهديده ووعيده وما إلى ذلك. صدقوني أيها الإخوة، عدونا الألدّ ليس هذا هذا لما يقرره العدو الآخر الكامن بين جوانحنا؛ نفوسنا الأمارة بالسوء.


أرأيتم لو أن الأمة العربية والإسلامية التي ستكون عروبتها حجة عليها غداً يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين، أرأيتم لو أنها كانت تجنح إلى قَدْر حقيقي من التضامن، لو أنها جميعاً تتخذ من الخندق الإسلامي والإيماني مجتمعاً لها، إذا تهدد عدو جاراً لها أو أخاً لها هبّوا جميعاً ليعلنوا أنهم أمة واحدة، لأنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿كالجسد الواحد﴾ لو أن المسلمين كانوا على هذا المنوال – ولن يكونوا إلا إذا هاجت التقوى من بين الجوانح لتقود – لو أنهم كانوا على هذه الشاكلة أفكان لعدو مشرقاً ومغرباٍ أن يتهددكم؟ معاذ الله. أفكان له أن يطرب وأن يسكر وأن ينتشي بكلمات التهديد التي تزبد وتُرغي على ألسنة الناطقين بسياستها؟ معاذ الله. لكن ما الذي هيجها لتهدد؟ الذي هيجها أنها تنظر إلى ما كان يسمى الأمة العربية الواحدة، وإذا هي مضرب المثل بالتخاذل، مضرب المثل بالتدابر، كل من هذه الدول إنما تبحث عن ضمانات وجودها، أي وجود؟ الوجود التافة، الوجود الرخيص، الوجود الذي لا يحقق للأمة سعادة، ولا ينسج لها قيمة بشكل من الأشكال. هذه الحقيقة، ليت أن الأمة العربية تسمعها، وليت أنها تنغض الرأس بعقلانية وتدبر ويقظة.


أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن علاقة المسلمين بعضهم مع بعض: ﴿التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا﴾ نعم التقوى غائبة، ومن ثمَّ فيوشك لو أن العدو الأرعن شاء أن يقضي قضاءه المبرم – كما يتخيل – على أي قطعة من قطع هذه الأمة، أو أي دولة من هذه الدول، لرقص الآخرون على هذا المنظر بشماتة ما مثلها شماتة، ولصفقت منهم الأيدي والنفوس قبل الأيدي، تبينوا هذه الحقيقة لتعلموا الداء، فإذا شُخِّصَ الدواء وعرف الجميع حقيقة يوشك أن تستيقظ هذه الأمة لتعالج داءها ولتعود إلى بيان الله عز وجل: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:  10]. يوشك أن تعود فتصلح ما بينها وبين إخوانها، أصلحوا ما بين أخويكم بالدفاع عن المظلوم، أصلحوا بين أخويكم بمدِّ نسيج الألفة والتضامن، أصلحوا بين أخويكم بجعل القوة نابعة من مصدر واحد، آيلة إلى نتيجة واحدة، يوشك أن يتحقق هذا والله هو المستعان.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي