مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/02/2005

الهجرة

الهجرة


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 11/02/2005


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد، فيا عباد الله‏:‏


يسأل كثير من المسلمين ولا سيما في هذه الأيام عن الحكمة التي من أجلها اختارت الأمة الإسلامية الهجرة منطلقاً ومحوراً لأحداثها؟ وهلاّ اختارت من ميقات النبوة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم تأريخاً لذلك؟


والجواب عن هذا أيها الإخوة: أن ظاهرة النبوة في شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أمر خاص بينه وبين ربه، ومكرمة أكرم الله سبحانه وتعالى بها عبده محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما الهجرة التي أوحى الله عز وجل بها إليه فهي درس وجهه المصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال سلوكه العملي إلى أمته من بعده إلى قيام الساعة. النبوة منبر انطلق منه هذا الدرس، درس الهجرة، وليست العبرة بالنسبة إلينا نحن، ليست العبرة بالمنبر الذي انطلق منه هذا الدرس، وإنما العبرة بالدرس ذاته، ومن هنا كان اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو اختيار أجمعت عليه الأمة – أن يخلد هذا الدرس في تاريخ الأجيال، وأن تكون هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي معلمة التاريخ الإسلامي، فما هو هذا الدرس أيها الإخوة؟


يتلخص هذا الدرس في كلمات أقولها لكم: وهي أن الأمة الإسلامية لا بد أن يمتحنها الله عز وجل بين الحين والآخر بتناقضات تتجلى بين عقيدتها الإسلامية وسلوكها الذي ارتضاه الله عز وجل لها، وبين مصالح الدنيا ورغائبها المختلفة: فماذا عسى أن تكون حالة الأمة عند ظهور هذا التناقض في حياتها؟ جاء الجواب درساً من الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الذي أوحى الله عز وجل به إلى رسوله.


يقول الدرس: يجب على الأمة الإسلامية في هذه الحالة عندما يتجلى التناقض بين عقائدها الإيمانية وسلوكها الإسلامي من جانب، وبين مصالحها الدنيوية من جانب آخر، يجب عليها أن تعرض عن مصالحها الدنيوية، وأن تضحي بها في سبيل العقيدة الإيمانية الصادقة، وفي سبيل الالتزام بالسلوك الإسلامي الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، والذي أمرهم به، وتجسدت الهجرة تعبيراً عن هذا، وتطبيقاً لهذه الحقيقة. فقد قام هذا التناقض بين العقائد الإيمانية التي توَّج الله عز وجل بها عقول النخبة المؤمنة في مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مصالحهم الدنيوية والمعاشية، فماذا كانت النتيجة؟ وكيف كان الحل؟ كان الحل متمثلاً في هذ الذي أوحى الله عز وجل به إلى رسوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].


الهجرة هي الحل، والتمسك بالمبادئ والمعتقد هو الضمانة التي لا مفرَّ منها ولا استبدال بها، وهكذا كما تعلمون نفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عن الدنيا وزخارفها وعقائدها وممتلكاتها، وعن البيوت والمدخرات، واتجهوا إلى حيث اتجه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس لهم رأس مال بأيديهم إلا إيمانهم بمولاهم الواحد الأحد، إلا بثقتهم بالله سبحانه وتعالى، وكان لسان الحال بالنسبة إليهم جميعاً يقول: بئست الدنيا التي تقف عقبة دون السير إلى الله، ودون الوصول إلى مرضاة الله عز وجل.


ولكن أيها الإخوة: هذا ما أقدم عليه المسلمون بقيادة حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، بأمر من الله عز وجل، وهذا هو الامتحان الذي نفذوه بنجاح، ولكن فما كان موقف الباري سبحانه وتعالى من هذا الذي فعله المسلمون بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ هذا ما فعله العباد، فما الذي فعله ربُّ العباد؟ تلك هي تتمة الدرس.


أكرمهم الله عز وجل بعد أن صمدوا وثبتوا طويلاً، وبعد أن تناسوا الدنيا التي تركوها وأخرجوها من أذهانهم نهائياً، وارتضوا بالله ورسوله قسماً ونصيباً، أعاد الله عز وجل إليهم الدنيا التي نفضوا أيديهم منها، أعاد الله عز وجل الوطن الذي ضحوا به في سبيل المعتقد والمبدأ، وأضاف إليهم إلى جانب ذلك أوطاناً كثيرةً، أعاد إليهم الممتلكات، وأكرمهم بالإضافة إلى ذلك بممتلكات كثيرة أخرى. وذهب هذا الدرس قانوناً يعلن عن سنة الله عز وجل في عباده إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.


الدرس يقول: ما من أمة مسلمة منيت بهذا الابتلاء، قام في حياتها تناقض بين معتقدها الإيماني والتزامها السلوكي من جانب، وبين مصالحها وممتلكاتها الدنيوية من جانب آخر، فضحت بالدنيا وممتلكاتها وأهوائها، وتمسكت بما أمر به الله عز وجل، إلا أعاد الله عز وجل إليها ما تركته، وأكرمها الله عز وجل بالمزيد ثم المزيد.


هذا هو الدرس ومن أجل هذا خلدت حادثة الهجرة لتكون هي محور التأريخ في حياة الأمة الإسلامية.


واليوم أيها الإخوة: ما أحرانا أن نقتطف ثمار هذا الدرس، وأن نسير على النهج الذي سار عليه أولئك الذين كانوا هم فاتحة الدولة الإسلامية، وكانوا هم الرعيل الأول في تاريخ هذه الأمة، وفرق ما بيننا وبينهم أيها الإخوة، أن ذلك الرعيل الأول أقدموا إلى ما أقدموا عليه من التضحية، وهم لم يجدوا بعد نتائج فضل الله وإكرامه إياهم، أقدموا على ذلك معتمدين على الثقة، لا بل أقول: أقدموا على ذلك مضحين بالدنيا إن عادت أو لم تعد، فعلى الدنيا العفاء . أما نحن فإننا نرى بأعيننا نتيجة السعي في هذا الطريق، نرى بأعيننا سنة الله عز وجل الماضية في عباده، ومن ثم فإن دخولنا في هذا الذي دخله أو دخل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيسر، وأولئك غامروا أما نحن فلا نغامر، لأننا نرى بأعيينا النتيجة التي لا يمكن أن تتخلف ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الفتح: 23] قانون لا يتبدل ولا يتغير، وها نحن في كثير من الأحيان نرى تعارضاً جزئياً أو كلياً بين معتقداتنا التي شرفنا الله بها، وبين الالتزام بالسلوك الذي أمرنا الله عز وجل به، وبين الكثير من مصالحنا الدنيوية، والتجربة التي مرَّ بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطق على أسماعنا، تشجعنا: أن ادخلوا في النهج الذي دخلنا فيه، لن تخسروا مالاً، ولن تخسروا نسباً ولا عقاراً، سيكرمكم الله عز وجل بالبديل.


لكن أين هي الآذان التي تصغي إلى هذا الدرس؟ وما يقوله لسان الحال عندما نصغي إلى قصة الهجرة التي يرددها اليوم كثيرون وكثيرون بمناسبة دخول العام الهجري؟ يرددونها قصصاً، ويبدؤون بها إلى نهايتها، ثم يكررونها مرة تلو المرة تلو المرة، وهم عن أخذ العبرة غافلون.


نحن مدعوون أيها الإخوة إلى أن نحل معضلة هذا التناقض اليوم في حياتنا على النهج الذي حله بواسطتها أصحاب رسول الله، وكثيرٌ ممن جاؤوا بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فساروا على نهجه، ولم يشردوا عن طريقه إلى يمنة ولا إلى يسرى، نحن مدعوون إلى هذا أيها الإخوة، ترى ما الذي ستختاره أمتنا الإسلامية اليوم، وهي تقف في مفترق طريقين اثنين: أحدهما الانقياد لما يراد بها، لما يراد بها من البعد عن الله، ومن البعد عن القيم، ومن خلع ربقة الارتباط بأوامر الله سبحانه وتعالى، والضغط وأساليبه وطرقه في ذلك كثيرة لا داعي إلى تعدادها. أما الطريق الثاني فهو أن نجد قصة الهجرة النبوية بأشخاصنا. وهذه القصة لا تكلفنا اليوم أن نرحل من دار إلى دار، وإنما تكلفنا أن ننفض أيدينا عن الدنيا التي تقف في طريق سيرنا إلى الله سبحانه وتعالى، الأمر يسير والضمانة أمامنا، وسنة الله قانونه لا يتبدل ولا يتغير بشكل من الأشكال .


ولكن ما أكثر المغفلين، بل الحمقى الذين يتصور أحدهم أن الإيمان هو السلم الذي وعد الله عز وجل عباده إن هم ارتقوا به أن يوصلهم هذا السلم إلى نعيم الدنيا، إلى بسطة العيش، إلى التمكن في الأرض. أجل. فإذا نفضنا أيدينا من الدنيا ماذا نكون قد استفدنا؟ وهل نحن اخترنا هذا النهج الذي أمرنا الله عز وجل به إلا لكي نتمكن في الأرض؟ إلا لكي نزداد غنى وترفاً؟ إلا لكي نهيمن على مصالحنا؟ ولربما استشهدوا في هذا بقول الله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97] فإذا نفضنا أيدينا عن الحياة الطيبة فما فائدة المعتقد والسلوك بعد ذلك؟ أغبياء وكثيرون هم الذين يقولون هذا الكلام، أرأيتم إلى هذا الكلام هذا شأنه كشأن الأحمق الذي يملك بستاناً من الأشجار الكثيفة والكثيرة، وقد أينعت ثمارها وحان قطافها، وجاء عدو قوي متسلط، دخل بستان هذا الرجل الأحمق، وخيره بين أمرين اثنين: أن يقطف الثمار ويترك له الأشجار خاوية عارية، أو أن يقتلع الأشجار ويأخذها ويترك له الثمار. فقال له الفلاح الأحمق: لا إنني تعبت وبذلت الجهد في رعاية بستاني هذا من أجل هذه الثمار، نعم، إذن أنا ضنين بها، ولكن خذ الأشجار العارية الخالية الخاوية، ودع لي هذه الثمار. ونفذ العدو ما قاله هذا المغفل الأحمق، ترك له الثمار في صناديقها، واقتلع الأشجار ومضى بها، ما الذي ينتهي إليه أمر هذا القرار الذي اتخذه هذا المغفل؟ سيأكل هذه الفواكه أسبوعاً و أسبوعين و ثلاثة أسابيع، ثم ينظر فإذا هو لا على الثمار أبقى ولا على البستان أبقى، وعاد صفر اليدين مثل الأمة الإسلامية اليوم، إذ تؤثر أن تتمسك بالثمار، تتمسك بالدنيا ومصالحها وأهوائها وشهواتها وملاذّها بحجة أن الدين إنما تمسكنا به من أجل الوصول إلى هذه المغانم، موقف هؤلاء كموقف هذا الأحمق.


إذا ذهبت العقيدة، وابتعدت الأمة عن صراط الله عز وجل، ونهجت النهج الذي يريده لها هؤلاء الطغاة الذين تعلمون، ربما فرحت بملاذّها وأهوائها سنوات، ولكنها سرعان ما تفتقر إلى الأهواء إلى الثمرات وإلى الدنيا وإلى العقارات وإلى الوطن بعد أن ابتعدت عن المبدأ والمعتقد. هذا هو الأمر، بل هذه هي النهاية التي تتربص بأمتنا العربية والإسلامية، فإما أن تركل بقدمها الدنيا التي تتعارض مع المعقتد والمبدأ والدين والسلوك، وعندئذٍ والله ينظر بما سنختار لا بد أن تعود في هذه الأمة سيرة سلفنا الصالح، وأن يكرمنا الله كما أكرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف الممتلكات الدنيوية التي كنا نملكها، أو أن تركب رأسها كما يبدو بحسب الظاهر، فتخلع ربقة الإيمان بالله شيئاً فشيئاً من كيانه، وتترك النهج الذي تركنا عليه كتاب الله وتركتنا عليه سنة رسول الله شيئاً فشيئاً، اتباعاً للنهج الذي يخطه لنا هؤلاء الطغاة، والتزاماً لما يريده منا، إذن فلسوف نجد أنفسنا فقراء في أمور ديننا ودنيانا، لا على أوطان سنبقي، ولا على قيم ومبادئ شرفنا الله عز وجل بها سنبقي.


أسأل الله العظيم أن يلهم أمتنا الرشد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي