
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


من يعمل سوءاً يجز به
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
ورد أن ثلةً من أهل الكتاب تنافسوا مع ثلة من المسلمين فقال قائل من اليهود: نبينا موسى الكليم نجي الله سبحانه وتعالى وكليمه. وقالت ثلة من النصارى: بل نبينا عيسى معجزة الله على الأرض أكرمه الله سبحانه وتعالى بإحياء الموتى وشفاء المرضى. وقالت ثلة من المسلمين: بل نبينا خاتم الرسل والأنبياء أُرسل إلى العالم كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصيراً[.
أي إن الأماني لا تقدم الإنسان إلى الله ولا تُأخره، والتباهي بالنسبة ليس هو السبيل إلى بلوغ مرضاة الله سبحانه وتعالى، فلا قيمة للمباهاة التي يعتز بها اليهود أن كان سيدنا موسى الكليم نجي الله عز وجل وكليمه، ولا قيمة لمباهاة الآخرين لما ميز الله عز وجل به سيدنا عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولا قيمة لما يتباهى به المسلمون من الانتماء والانتساب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه الله للعالمين أجمع )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصيراً[.
هذا الانتماء من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه المباهاة بالصلة التي ينتشون بها لن تعفيهم من المسؤولية عن السوء الذي يرتكبونه، ولا يشفع لهم هذا الانتماء قط في هذا الذي يقومون به، وإذا تميز الآخرون عن المسلمين فابتعدوا عن هذا السوء وابتعدوا عن هذا المحرم ولم ينحطوا فيما قد نهى الله عز وجل عنه فلن يمنعهم ما يمتاز به المسلمون مما يتباهون به من أن ينالوا ثمرة سلوكهم وثمرة استقامتهم؛ إن لم يكن في الآخرة لأنهم غير مسلمين ففي الدنيا يكرمهم الله عز وجل بثمرة سلوكهم. وكيف لا وهو القائل: )كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[.
ينبغي أيها الإخوة أن نتذكر هذه الآية وأن نتذكر سببها )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ[ ونحن نمر في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به - لا أقول العالم الإسلامي بل - العالم أجمع، أنظر إلى العالم الإسلامي - قيادات لا شعوبا - وأتأمل في حالهم، وإذا بهم في أحسن الأحوال يستخفون بأوامر الله سبحانه وتعالى، يستخفون بتعاليم هذا الدين الحنيف الذي شرفنا الله عز وجل به وفي أكثر الأحوال يتعالون عن هذه التعاليم ويتجاهلونها، بل لعلهم يستكبرون عن الاصطباغ بها، ولكنهم في الوقت ذاته يتباهون بانتمائهم إلى محمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، يتباهون بانتمائهم إلى الإسلام، يتجلى ذلك في احتفالات عابرة تمر، بمناسبات وذكريات تتكرر في كل عام.
أنظر فأجد مصداق هذه الآية قد تكرر في هذا العصر، ولكأن خطاب الله عز وجل يتجه إلى هذه القيادات يقول )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ[ سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ومعنى ذلك مفهومه المخالف: أن من يعمل صالحاً يجزى به مسلماً كان أو غير مسلم، أما المسلم فيكرمه الله عز وجل في دنياه وآخرته، وأما غير المسلم فيكرمه الله بالجزاء في هذه الحياة الدنيا، وهذا من مظاهر عدل الله سبحانه وتعالى وفضله ورحمته.
مناسبات سياسية تمر في عالمنا العربي والإسلامي، وأتأمل في القيادات الحاضرة في هذه المناسبات وأحاول أن أشم رائحةً لاصطباغهم بهذا الدين، سلوكاً، أحاول أن أشم رائحة لاصطباغهم بحقيقة العبودية لله عز وجل فلا أجد لذلك رائحة، إن هو إلا المظاهر السياسية والكلامية المختلفة وعندما أتساءل عن السر في غياب مظاهر السلوك الإسلامي على الرغم من وجود التباهي بالانتماء إلى الإسلام، أجد بل أعثر على السبب: إنه الخجل من أن يُقال إنهم لا يزالون مرتبطون بالغيبيات القديمة، أو إنه الخجل من أن يُقال عنهم منتسبون إلى الإرهاب وأسبابه.
يا عجبا! أنظر في الوقت ذاته إلى الآخرين الذين يعيثون في الأرض فسادا، الطغاة الذين يريدون أن يطووا العالم كله ويجعلوه تحت آباطهم، أتأمل في أبرز مناسباتهم السياسية المختلفة وإذا بهم يأبون إلا أن يصبغوا مناسبتهم هذه بالدين. لابد أن يصبغوا كلماتهم وأن يتوجوا احتفالاتهم بارتباط بالله سبحانه وتعالى على طريقتهم وبالنهج المعوج الذي عرفوه، وعلى الرغم من أنهم يعلمون أن طقوسهم الدينية هذه لا تتفق مع العلم ولا مع العقل ومع ذلك فلا يخجلون ولا يستحون من أن يؤطروا حفلاتهم ومن أن يتوجوا مناسباتهم بالالتجاء إلى الله على طريقتهم بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى على طريقتهم، لا يشعرون بأي خجل بأن يصبغوا لقاءاتهم هذه بالدين.
في حين أنني أنظر إلى أقرانهم من القادة المسلمين وأتأمل في مناسبات واحتفالات أخرى مناظرة لتلك الاحتفالات فأجد أنهم ينفضون ثيابهم وكياناتهم ومشاعرهم من بقايا الانضباط بدين الله عز وجل، هم يتباهون بالانتماء نعم، يتباهون بالانتماء إلى الإسلام وإلى الحضارة الإسلامية ويعلنون عن ذلك بمناسبة ذكريات تمر ولكن يحاذر الواحد منهم بكل معنى الكلمة أن لا يدخل رائحةً للالتجاء إلى الله، للانضباط بأوامر الله سبحانه وتعالى في مثل هذه اللقاءات.
أنا أعجب أيها الإخوة، المسلمون الذين يعرفون أنهم على حق والذين تتكاثر معجزات البيان الإلهي في كل عصر لتشهد على سمع العالم أجمع أن هذا القرآن كلام الله وأن الإسلام هو الدين الذي ابتعث به الرسل والأنبياء جميعاً، أنظر إلى القيادات الإسلامية التي ينبغي أن ترفع الرأس عالياً بهذا الذي شرفها الله عز وجل به وإذا بها تتجاهله في احتفالاتها وفي مناسباتها السياسية المختلفة، وأتأمل في ذاك الذي يعلن دون خجل عن طغيانه وعن تسييره للعالم كله إلى النهج الذي يفتخر ويحلم به أجده في أغلى مناسبة له يلتجئ إلى الله ويستدعي رجال الدين على طريقتهم ليقوموا بصلاة يلتجؤون إلى الله عز وجل، لا يستحون من أن يتهموا بأنهم مرتبطون بخرافات، بغيبيات أبداً. أما المسلمون الذين هم على حق وأنا لا أتحدث عن الشعوب أتحدث عن القيادات، فهم في خجل دائم، في استحياء من أن يعلنوا أن نصيرهم هو الله وأن ثمن هذا النصر هو الالتزام بدين الله عز وجل.
أيها الإخوة تعالوا نعد مرة أخرى وليت أن القيادات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي وقفت في المحراب تدب أمام هذه الآية )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصيراً[ المجتمع الذي ينتشر فيه الظلم وتضيع فيه الحقوق وتهيمن فيه الرشاوي على ميزان العدالة لابد أن يجزى به من يستمرؤون هذا الظلم مسلمين كانوا أو غير مسلمين. المجتمع الذي تسود فيه العدالة بين أفراده والذي ترعى القيادات شعوبها كما ترعى الأم وليدها رعاية للحقوق وحماية للأمن والطمأنينة وحفظاً لموازين العدالة لا بد أن يجزيها الله الجزاء الأوفى مؤمنة كانت أو غير مؤمنة، إن كانت مؤمنة فإن الله يجزيها الجزاء الأوفى في الدنيا وفي الآخرة، وإن كانت غير مؤمنه فإن الله يكرمها بالجزاء الأوفى في الحياة الدنيا نعم، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة.
ولكن أمتنا الإسلامية عن هذه الحقيقة غائبة، أنظر أيها الإخوة إلى كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأتأمل في ميزان العدالة. وهل جاء الدين إلا لإقرار مبادئ العدالة فوق الأرض؟ هل جاء الدين إلا لإنصاف المظلوم من الظالم؟ هل جاء الدين الإسلامي الذي شرفنا الله عز وجل به إلا لكي يقول من خلال كتابه المنزل وتعاليم نبيه المرسل: يا عباد الله هذه مائدة الله عامرة، أرزاقكم موفورة توازعوها بالعدل، توازعوها فيما بينكم بالإنصاف، لا يلتهمن بعض منكم هذه المائدة كلها وكأنه الجائع الذي لا يعلم الاشتباع معنا ويبقى الآخرون وهم يتضورون جوعا لا الدين جاء من أجل إنصاف المظلوم، من أجل إشباع الجائعين، من أجل أن يحقق قدراً كبيراً لا أقول من المساواة الحرفية بل من المواساة الحقيقية.
وأنظر وإذا بكثير من مجتمعاتنا الإسلامية قد غُيب عنها هذا الميزان، هم مسلمون وأتأمل في كثير من المجتمعات الغربية وأنظر وأتأمل وأعود وأنظر وأتأمل وإذا بتلك القيادات كأنها تقوم مقام الأم الرؤوف في رعاية حقوق شعوبها ورعاياها، وأعود وأتساءل وأجدني أمام هذا البيان الإلهي القائل: )لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصيراً[.
هذه الكلمة تجيب عمن يقول أين هو نصر الله للمسلمين؟ الجواب ليس بأمانيكم، نصر الله للمسلمين لا يأتي بثمن يتمثل في نشوة الرأس إذ أقول أنا أنتسب إلى حضارة الإسلام، أنا أنتسب إلى التاريخ الذهبي الذي حققه الإسلام، ثم ينظر الناس إلى سلوكي فلا يجدون أثراً لهذا الإسلام الذي أنتشي وأتباهى به. هذا هو الجواب أيها الإخوة، لا يريد الله عز وجل منا أن نتباهى بانتساب ولا بانتماء ولو رضي ذلك لرضيه من أصحاب رسول الله الذين تباهى بعض منهم عن اليهود والنصارى بنبيهم أنه خاتم الرسل والأنبياء وأنه المرسل إلى العالم أجمع، لا لا ليس هذا هو الذي يقربكم إلى الله، إن الذي يقربكم إلى الله أن تصطبغوا بحقائق هذا الدين وأن تكون رعاةً لميزانه في المجتمع، تأملوا وانظروا وليذهب كل واحد منكم إن أتيح له إلى الغرب ولينظر إلى الرعاية العجيبة الدقيقة لرعايا تلك المجتمعات الدنيوية، أجل وليعد إلى كثير ولا أقول كل من مجتمعاتنا العربية والإسلامية ليجد كيف أن هذا الميزان قد غُيّب وأي ميزان؟ الميزان الذي أوصى به الله )الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان[ أربع مرات يكررها كلمة الميزان )وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ[ ميزان العدالة )أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان[ أنا أسأل ولكم أن تسألوا، أين هو هذا الميزان وماذا صُنع به؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.