
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


متى نصر الله؟
متى نصر الله؟
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 22/10/2004
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
شبهة خطيرة تطوف برؤوس كثير من المسلمين في هذه الأيام، ربما تسببت عنها شكوك ورِيَب، تدخل في عقولهم، تشككهم بوعد الله سبحانه وتعالى، وربما بعدالته، رمضان - هذا الشهر المعظم - يستقبله العالم الإسلامي بترحاب، المساجد تفيض في هذا الشهر بالمصلين، بالركع السجود، والكل يبتهل، والكل يدعو، ومع ذلك فإن فلسطين لا يزال يستمر فيها القتل، والبيوت تهدم على رؤوس أصحابها البرآء الآمنين، والإرهاب الأمريكي جاثم على صدر العراق يفعل ما يفعل، دون أي ملاحظة لما يسمى بحقوق الإنسان، ودون أي ملاحظة للعدل وموازينه ورمضان شهر النصر، فكيف يغيب هذا النصر، وتغيب رحمات الله عز وجل عن عباده في هذا الشهر المبارك؟ وواقع المسلمين على ما قد وصفت. هذه هي الشبهة أيها الإخوة.
ولكن هذه الشبهة إنما تنطلي على من لم يقف على معاني كتاب الله عز وجل، ولم يتعرف على الإسلام وعياً وفهماً وثقافة، وإنما انتمى إلى الإسلام انتماءاً تقليدياً كما يقولون. وها أنا في هذا الموقف أجيب باختصار عن هذا السؤال، محاولاً طرد هذه الشُبَه من أفئدة المسلمين وعقولهم.
أما بالنسبة للمسلمين - قبل أن نتحدث عن الجاحدين، وقبل أن نتحدث عن الإرهاب الأمريكي القذر - أما بالنسبة للمسلمين فإنكم لتعلمون أن الله عز وجل يقول: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً﴾ [الأنفال: 8/25] أي كونوا على حذر من فتنة قد تنتشر في أوساط المجتمع الإسلامي، ويكون سببها بعض المسلمين، ويكون البقية ملتزمين مستقيمين قائمين على العهد. هذا كلام الله عز وجل نقرؤه نظرياً، أما تطبيقه عملياً لقد خلد البيان الإلهي بيان هذه السنة بشكلها العملي في غزوة أحد، غزوة أحد التي كان سداها ولحمتها من المسلمين سبع مئة مقاتل، وعلى رأسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان من المفروض أن يكون النصر حليفهم، وأن يحصنوا بحصن الوقاية الإلهية. ولكن من أجل خطأ اجتهادي وقعت فيه ثلة يسيرة من أصحاب رسول الله، لا يزيدون على خمسة وعشرين، أو ثلاثين رجلاً، من أجل هذه الخطيئة التي وقعت فيها هذه القلة، تحول النصر إلى هزيمة، وتحول التوفيق إلى خذلان، ولم يشفع لذلك وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، بل أصاب رشاش ذلك شخص المصطفى عليه الصلاة والسلام، كسرت رباعيته، شج وجهه، وقع في كمين، كل ذلك لماذا؟ لأن خطأَ وهو خطأٌ اجتهادي، وقعت فيه ثلة يسيرة من أصحاب رسول الله، خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحول النصر بسبب ذلك إلى هزيمة.
فتعالوا يا عباد الله قارنوا بين ذلك الغلط اليسير الذي وقع فيه خمسة وعشرون رجلاً بالنسبة لسبع مئة مقاتل وعلى رأسهم رسول الله، وبين الأخطاء الكثيرة التي ينجرف فيها المسلمون اليوم، ويبتعدون فيها عن حدود الله: إنْ في معتقداتهم، أو في سلوكهم، أو في معاملاتهم، أو في أخلاقياتهم، على مستوى الواقع المدني، وعلى مستوى الواقع العسكري.
عندما تقارنون - كما أقول لكم - بين حجم الأخطاء التي يقع المسلمون فيها اليوم تُجاه ربهم، وحجم ذلك الخطأ الذي وقع فيه المسلمون يوم أحد، عندئذ تعلمون أن ربكم سبحانه وتعالى قد أكرمنا بقدر كبير من الرحمة، نحن نستأهل الخسف بناءً على ما قد عامل به الباري عز وجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بناءً على ذلك المقياس نحن نستأهل الخسف، نحن نستأهل الدمار، والوقت لا يتسع لأستعرض معكم مظاهر الأخطاء، مظاهر الانحرافات، مظاهر الاستخفاف بدين الله سبحانه وتعالى.
هذا بالنسبة لحال المسلمين، فماذا بالنسبة لحال الكفرة الذين مكنهم الله عز وجل من رقابنا، وهلاّ حجب عنهم النصر لكفرهم؟ حجب عنا النصر لأخطائنا فهلا حجب النصر عن أولئك الناس لكفرهم؟
الجواب: مرة أخرى نعود إلى كتاب الله، مرة أخرى نعود إلى سنن رب العالمين مع عباده، انظروا إلى قوله سبحانه ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 6/42-43] صورة طبق الأصل لكفرة الطغاة في هذا العصر: ﴿فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 6/43-44] فتحنا عليهم أبواب كل شيء، أغرقناهم في النعيم، أغرقناهم في أفانين المتع، هيّأنا لهم مظاهر النصر في تقلباتهم وأحوالهم، فتحنا عليهم أبواب كل شيء، وهذه هي الأبواب مفتحة أمامهم اليوم. ﴿حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 6/44].
هذا كلام الله عز وجل، هل تجدون في واقع السياسة الإلهية مع هؤلاء الطغاة الكفرة ما يتعارض مع هذه السنة الربانية، هؤلاء الكفرة الذين نقول إن طغيانهم يجثم على صدر العراق، فعلاً الإرهاب الأمريكي القذر جاثم ولا يزال على صدر العراق، يحتل أرضه، ويأخذ حقه، ويستلب أرواح البرآء. نعم وها هو ذا القتل، يستعر القتل في فلسطين، يستعر بأصحاب الأرض، بأصحاب الحقوق، يستعر بالبرآء. نعم، هذا من معنى من قوله عز وجل: ﴿فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 6/44] تلك هي سنة رب العالمين لكن إلى حين. شاء الله عز وجل أن يفتح لهم أبواب كل شيء، ومن جملة الأشياء النصر كما ترون، لكن إلى حين ﴿حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 6/44] وهذا اليوم قادم لا ريب فيه.
وانظروا إلى تاريخ الأمم الغابرة، جرت فيها سنن رب العالمين على هذا المنوال، وسنن الباري سبحانه وتعالى لا تتبدل، لن تجد لسنة الله تبديلاً.
لبث سيدنا نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ألف سنة والكفر يسرح ويمرح، والطغيان يزداد، وسيدنا نوح بني الله عز وجل موجود بين ظهرانيهم. نعم ومع ذلك فقد كانت بحسب الظاهر ظاهرة النصر للطغيان، كانت ظاهرة التوفيق والقوة والعزة والغنى للطغيان، وكان مظهر التذلل والخنوع لسيدنا نوح، أجل. ولكن ماذا كانت العاقبة؟ ماذا كانت النتيجة؟ ﴿حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 6/44] صدق على قوم نوح هذا الذي قاله الله سبحانه وتعالى، ولكن ضمن هذه السنة الربانية التي ألزم الباري عز وجل ذاته بها، وما جرى لقوم نوح هو الذي جرى لقوم ثمود، وهو الذي جرى لقوم صالح، وهو الذي جرى لقوم لوط، أجل.
عودوا إلى سياسة رب العالمين مع عباده الطغاة التائهين المستكبرين على الله، تجد أنه يملي لهم وهو القائل: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 7/183] الإنسان يستعجل ويريد أن يُخْضع نظام رب العالمين لعجلته، ومن ثمَّ يسأل: أين هو نصر الله عز وجل؟ ولعلكم عرفتم الجواب.
الجواب يتألف من شطرين:
أين هم المؤمنون الذين صدقوا مع الله عز وجل، والذين صَدَّق سلوكُهم دعاوي ألسنتهم؟ أين هم هؤلاء؟ عندما نسأل هذا السؤال نجد أنفسنا أمام ركام من الأغلاط والأخطاء وسوء العلاقة مع رب العالمين سبحانه وتعالى، هذا هو الشطر الأول من الجواب.
الشطر الثاني لا تستعجل، لا تستعجل ما تنتظره من إهلاك الله سبحانه وتعالى للطغاة، لله عز وجل قانون، لله عز وجل سنة، يملي، يملي، ثم يملي، ثم إنه إذا أخذ أخذه أخْذَ عزيز مقتدر.
وأنا أقول لكم من هذا المكان، وأقسم بالله العلي العظيم، أن حَيْنَ أمريكا قادم لا شك فيه، وأن اليوم الذي ستدفن فيه أمريكا في قبر قذر من الهلاك قريب، ولكن الزمن بيد الله عز وجل، والناس يستعجلون، وقانون الله لا يتبدل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.