مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/10/2004

الأمانة الكبرى

الأمانة الكبرى


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 15/10/2004


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


هذا هو ذا شهر رمضان المبارك قد أقبل إلينا مرة أخرى، وهو يحمل في طياته من الله سبحانه وتعالى إلى العالم الإسلامي أقدس أمانة، يهيب بهم هذا الشهر المبارك ألا يضيعوها، يهيب بهم أن يصدقوا مع الله عز وجل في حراستها وفي رعايتها والدفاع عنها، عن هذه الأمانة، فما هي هذه الأمانة التي يحملها هذا الشهر من الله عز وجل إلى العالم الإسلامي؟ إنها أمانة القرآن، القرآن الذي تنزل في هذا الشهر المبارك ونوه به بيان الله عز وجل إذ قال: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقانِ﴾ [البقرة: 2/185] هذا الشهر المبارك يحمل إلى الأمة الإسلامية جمعاء أمانة هذا الكتاب، في وقت اتجهت السهام من كل جهة وصوب إلى كتاب الله سبحانه وتعالى من قبل أعدائه مشرقين ومغربين، يبتغون القضاء عليه، يبتغون تمزيقه، يبتغون قطع صلة القربى مما بينه وبين هذه الأمة الإسلامية، التي لم يكن وجودها إلا بسر من هذا الكتاب، ولم تكن قوتها إلا بسر من هذا الكتاب الذي شرفها الله سبحانه وتعالى به.


ترى كيف تستقبل هذه الأمة الإسلامية هذا الشهر وهو يحمل إليها من الله سبحانه وتعالى هذه الأمانة؟ يذكرها بقدسية هذه الأمانة ألا تضيعه وألا تمزق وألا تمكن السهام المصوبة إليها من أن تفعل فيها ما يهدف إليه الأعداء في هذا العصر، في هذا الزمن الذي اتجهت العداوة من كل جهة وصوب - كما قلت لكم - إلى دين الله سبحانه وتعالى.


أما الاهتمام الظاهري بهذا الكتاب متمثلاً في تلاوته والتغني بألفاظه والتسابق إلى إخراج الجميل المزين من طبعاته، فهذا شيء موفور، وهو أمر دنيوي لا يقدم الأمة إلى الله عز وجل شروى نقير. وأما الحفاظ عليه من الخطط الرامية إلى تمزيقه، إلى تضييعه، إلى قطع الصلة مما بينه وبين الأمة الإسلامية، فأحسب أن المسلمين ليسوا من هذا الأمر من شيء، الخطط الرامية إلى أن يضيع القرآن ويستلب به غيره كثيرة، والأهداف الرامية إلى اختزال القرآن والاكتفاء - إن اقتضت الضرورة - والاكتفاء بجزء منه، ونسخ ما يمكن أن ينسخ منه، كل ذلك قائم على قدم وساق.


ولقد امتلك أعداء هذا الدين من الشجاعة في هذا العصر ما لم يمتلكوه في العصور السابقة قط، وذلك عندما رأوا استخذاء المسلمين، وعندما رأوا الضعف الذي ران عليهم، وعندما رأوا أن المسلمين - لا سيما متمثلين في قياداتهم - شأنهم أن يتعاملوا مع الهلع الذي يهيمن على قلوبهم، كما اتهموا بما هم منه بريئون، كلما اتهموا بالإرهاب مثلاً، كلما اتهموا بنبذ الحقوق الإنسانية مثلاً، شأن القيادات الإسلامية أن يركبها الهلع، وأن يكون شأنها أمام هذه الاتهامات الكاذبة أن تنفض عن كاهلها هذه الاتهامات بذل ومهانة.


فإن قيل عن الإرهاب كان شأنهم صباح مساء أن يقولوا لسنا بالإرهابين، وإنما نحن المثل الذي يضرب بالمسالمة والاستسلام والخضوع لكل ما يراد منا. إن اتهموا بأنهم معرضون عن حقوق الإنسان من خلال التزامهم بهذا الدين العظيم، تسابقوا ليثبتوا أنهم متحررون عن هذا الدين، وأنهم يقلدون الغرب (حذو القُذة بالقُذة) كما يقول العرب في رعاية حقوق الإنسان على الطريقة الغربية، بل على الطريقة الأمريكية.


عندما وجد أعداء هذا الدين الأمة الإسلامية التي كانت مضرب المثل في القوة ورباطة الجأش والعزة والهيبة، عندما رأوا أن هذه الأمة أصبحت المثل الذي يضرب بالاستخذاء، المثل الذي يضرب بالذل والمهانة، وجدوا أنفسهم أمام الفرصة السانحة للقضاء على منبع هذا الدين، للقضاء على المصدر الأول له، ومشرقه الذي انبثقت أشعة الدين منه إلى العالم كله، ألا وهو كتاب الله سبحانه وتعالى. وهكذا تجرأ هؤلاء الأعداء الذين كانوا مثال الجبن بالأمس، تجرؤا ليضعوا الخطط الرامية إلى طي القرآن عن المجتمعات الإسلامية، والرامية إلى تنقيح القرآن فيما يزعمون، ويقولون من كل ما ينبغي أن تلفظه الحضارة الغربية، الخطط الرامية إلى هذا قائمة على قدم وساق، والأمة العربية والإسلامية تعلم هذا، وتجد الدلائل على ذلك، وتسمع بالخطط التي تطبخ من أجل تنفيذ هذا الأمر، وغدا إذا رسمت الخطط جاء تدور التنفيذ والقوة المنفذة، هي هذا الذي يذل ويستسلم قادة المسلمين له اليوم، أجل.


ويأتي شهر رمضان ليطل على العالم العربي والإسلامي أجمع، وهو يحمل في طيه مرة أخرى هذه الأمانة القدسية، محمولة إليهم من الله سبحانه وتعالى، أجل. ترى هل سيستيقظ قادة المسلمين اليوم؟ هل يوقظهم وقع هذا الشهر المبارك لينهضوا بالمهمة التي شرفهم الله عز وجل بها؟ وليكونوا حراساً حقيقيين لكتاب الله سبحانه وتعالى ألا تتجه إليه سهام الأعداء من أي جهة، ومن أي صوب؟ هل سيكونون فعلاً أمناء على كتاب الله عز وجل الذي أعزهم بعد ذل، وجمعهم بعد فرقة، وأغناهم بعد فقر؟ هل سيكونون أمناء مع كتاب الله سبحانه وتعالى هذا، فيضعونه في حياتهم موضع القائد؟ يضعونه من حياتهم موضع الدستور الفعال؟ هل سيشرفون بأن يكونوا حراساً لهذا الكتاب الرباني الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهوض بواجباتنا المقدسة في رعايته والحفاظ عليه؟


يروي الترمذي في سننه من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لتكونن فتن مظلمة من بعدي﴾. فقال له علي رضي الله عنه: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ﴿كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله﴾. هذه هي الأمانة التي استودعها الله عز وجل فيما بيننا، والتي يذكرنا بها هذا الشهر كلما أطل هلاله على هذه الأمة العربية والإسلامية. ونسمع كلام الله عز وجل يصك أسماعنا ويصك أسماع هذه الأمة، وكأننا نحن المعنيون بهذا الكلام الرباني: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص:67] نبأ عظيم كتاب الله سبحانه وتعالى.


ولكن تنظر إلى هذه الأمة التي شغلت بحظوظها الدنيوية، شغلت بانقساماتها وخصوماتها الهابطة المهينة، شغلت بالهلع الذي هيمن على قلبها وعلى نفسها، فأصبح شأنها أن ترفع اليدين وربما الرجلين مستسلمة لما يريده العدو الأرعن. هذا هو مصداق قول الله عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص:67].


كيف تستقبل الأمة العربية والإسلامية هذا الشهر المبارك؟ عندما نتأمل بالشكل الذي يستقبل به الأمة هذا الشهر نجد أنفسنا أمام مهانة أخرى، نجد أنفسنا أمام مأساة ثانية عجيبة، تستقبلها بمزيد من أفانين اللهو، تستقبلها بمزيد من أطر الشهوات والأهواء، ولكأنها ظاهرة من ظواهر الهزل، بل الاستهزاء بكتاب الله وبهذا الشهر المبارك. عندما ينعت ذلك كله ويربط بمقدم شهر رمضان، وأي رمضان المبارك، ما من حفل يعلن عنه، وما من أمسية لاهية يستدعى إليها الناس في هذا الناس، إلا وتربط هذه الأمسية وتربط ساعات اللهو هذه، بمقدم شهر رمضان، ولابد أن ينعت هذا الشهر إلى جانب ذلك بالشهر المبارك، ألستم ترون في هذه الظاهرة استخفافاً بهذا الشهر الذي نوه كتاب الله عز وجل بأهميته كما لم ينوه بأي شهر آخر؟ ألستم ترون أن هذا الاستقبال بهذا الشكل فيه من الهزء بشعائر هذا الدين، وبكتاب الله الذي هو الأمانة التي يحملها إليكم هذا الشهر؟ ألا ترون أن هذا النوع من الاستقبال فيه من الاستخفاف ما فيه؟ وفيه من الهزء بهذا الشهر ما فيه؟ ترى ما هي العاقبة لمثل هذا التصرف الأرعن الذي اصطبغت به أمتنا العربية والإسلامية في هذا العصر؟ ألم تكتفِ بأنواع المصائب التي استمطرت وتراكمت عليه؟ أفتنتظر المزيد من المصائب لأن هذه المصائب التي تراكمت ليست كفئاً لمهانتها ليست كفئاً لذلها؟ ومن ثم فهي تستمطر من الله عز وجل مزيداً من المآسي، ومزيداً من العداوة تهيمن، ألم تكتفِ هذه الأمة بالصورة السوداء المهيمنة التي هيمنت على نفوس وأفكار الغربيين بشطريهم الأمريكي والأوربي؟ أفتحتاج هذه الأمة إلى مزيد من الذل؟ أفتطرق باب مزيد من الهوان؟ لا أدري من الذي يجيب عن هذا السؤال، أنا أعلم أن قلة يسيرة من هذه الأمة تستقبل هذا الشهر كما ينبغي، وتتألم لهذا الواقع، وتعلم الداء ومصدره، وتعلم الدواء ومكانه، أعلم هذا ولكني أذكر كلام الله القائل: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً﴾ [الأنفال: 8/25] بالأمس أيها الإخوة - ولابد أن أقولها - شكرت دولة من الدول الأوربية، إذ جعلت من بلدها منبراً تدعو العالم العربي والإسلامي إلى أن يعتلوه ليتحدثوا عن حضارتهم الإسلامية، وليتحدثوا عن حقيقة الإسلام، وليردوا عنه التهم الكاذبة، ولينصفوه.


ولكن كيف كانت استجابة الجامعة العربية لهذه الدعوة التي تشكر عليها تلك الدولة؟ كيف كانت الاستجابة؟ أوفدت جيشاً من الذين سيتحدثون عن الإسلام، لكن من كانوا؟ كان جلهم من المتبرمين بالإسلام، ومن الذين ينادون بالقطيعة قطيعة هذه الأمة عن حضارتها السابقة، ومن المستخفين بكتاب الله، وبدين الله سبحانه وتعالى، كانت الفئات التي أرسلت هي الفئات التي تحمل رسالة الفلوكلور، التي تحمل رسالة الفنون، وأي فنون؟ ليت أنها الفنون التي تتعامل مع الفطرة الإنسانية، ونظرت إلى الدولة المضيفة ونظرت إلى كثير من رجالها، فوجدت كلاً منهم يقول بلسان حاله: أهذه هي حضارتكم؟ أهكذا تريدون أن تردوا غائلة الظلم عن دينكم إذ يوصف بالإرهاب؟ ويوصف بكذا وكذا وكذا؟ أأنتم خصوم لهؤلاء الذين يحاربونكم، أم خدم وحشم لهم؟


أجل أيها الإخوة: هذا هو واقع أمتنا العربية والإسلامية، فلا يقولَنَّ قائل: أين هو نصر الله؟ نصر الله معقود، ولكن لمن؟ لأولئك المؤمنين الذين قال الله عز وجل عنهم: ﴿وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 30/47] والإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولا بالفلوكلورات، ولكن الإيمان حقيقة تهيمن على العقل، ثم إنها تهيمن على مجامع القلب والنفس، ثم إنها تقود الأمة إلى أن تضع كتاب الله في سواد عينها، إلى أن تضع كتاب الله سبحانه وتعالى في مهوى فؤادها، إلى أن تجعل من نفسها قادة وشعوباً حراساً لدين الله سبحانه وتعالى.


ترى هل سيأتي الغد القريب لهذا الواقع الذي نتأمله ونتنظره من كرم الله ولطفه؟ أسأل الله ذلك.


أقول قولي هذا وأستغفر الله.


 


تحميل



تشغيل

صوتي