
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 01/10/2004
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
كلما وقفت على هذه الآية من كتاب الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: 38/67-68] خيل إلي أننا - نحن في هذا العصر - هم المخاطبون بهذا البيان الإلهي: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾.
أجل يخيل إلي أن هذا البيان موجه إلينا وأننا نحن المعنيون بقوله: ﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ وشر أنواع الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى أن يُستخدم لما يحجب الإنسان عن الله عز وجل، شر أنواع الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى، أن يستخدم لجمع دنيا فانية، أن يستخدم للوصول إلى أمل من الآمال الدنيوية المتنوعة المختلفة، وهذا هو الواقع الذي حاق بنا في هذا العصر، نحن معرضون عن كتاب الله عز وجل، ونحن قد ابتلينا بشر أنواع الإعراض من كتاب الله سبحانه.
وأنا أتحدث عن الظاهرة الاجتماعية التي تبدو لكل عين، والتي يلتقطها كل أذن، ولا أتحدث عن الأفراد، عن القلة هنا وهناك.
من مظاهر الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى، أنه اتُخذ اليوم سلعة للتجارة، أصبح التجار يتنافسون ويتسابقون في هذا المضمار، ليس في أذهانهم أي قصد للتقرب إلى الله، وليس في فكرهم أي رغبة في الوقوف على أي أو آية واحدة في هذا القرآن من كلام الله عز وجل، وإنما هي السلعة التجارية غدت وسيلة رابحة، غدت وسيلة تنقل الإنسان من واقع الفقر المدقع وترتقي به إلى مهيع الغنى، إلى منطلق الغنى، أجل وأنا أعتقد أنني لست بحاجة إلى أن أضعكم أمام صور هذه التجارة الدنيئة التي يحاول كثير من الناس أن ينحطوا بكتاب الله سبحانه وتعالى إليها، نعم.
من مظاهر هذا الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى: أنه غدا الأداة التي يعبر بها عن حزن طاف بأسرة، طاف ببيت، بل ربما اتُخذ أداة للتعبير بها عن تبرم بقضاء الله سبحانه وتعالى، وعن انتقاد على حكم قضى به الله سبحانه وتعالى، إذ استلب حياة إنسان في أسرة، تقبل هذه الأسرة إلى كتاب الله عز وجل في مثل هذه المناسبة، لكي تعلن بواسطة هذا الكتاب عن الحزن الذي طاف بها، أو عن التبرم بقضاء الله سبحانه وتعالى الذي حكم به الله سبحانه وتعالى، لا تذكر هذه الأسرة كتاب الله عز وجل خلال الأشهر التي تتصرف وربما خلال السنوات التي تنقضي، ولكن إذا وقعت مصيبة موت في دار، فإن تذكر القرآن يرتبط مع النواح، ويرتبط مع الأسى الذي يطوف بهذه الأسرة، فأنت إذا سمعت صوت المقرئ ينبعث من دار من الدور، فلتعلم أو إنك لتعلم أن هذا يعني أن مصيبة وقعت في هذه الدار، وإن كنت في دارك فسمعت صوت قارئ القرآن يتعالى من وسط الشارع متنقلاً من هنا إلى هناك، علمت أن هنالك حادثة موت، وأن هنالك مصيبة، وأن أهل هذه المصيبة يعبرون عن مصابهم من خلال هذه الآيات القرآنية التي تتلى على مسامع الناس، معرضين أو غير معرضين من كتاب الله سبحانه وتعالى.
وهذه ظاهرة ثانية من ظواهر الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى، كم وكم لاحظت أن أناساً من رجال أو نساء، يستوحشون عندما يسمعون صوت القرآن يتلى من مذياع أو نحوه، يستوحشون وربما تساءلت المرأة أو تساءل الرجل: أهنالك حادثة موت حتى يرتفع الصوت بتلاوة القرآن؟ يتشاءمون ويستوحشون من سماع كتاب الله سبحانه وتعالى، نسيج تكامل في أذهان الناس ونفوسهم من جراء هذا النوع القذر من الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى.
من مظاهر هذا الإعراض وهي صورة معاكسة أن لا يخطر ببال زيد من الناس وقد أراد أن يدعو الناس إلى حفل بمناسبة عقد قران لابنته مثلاً، لا يخطر في باله أن يهدي إلى هؤلاء الذين يدعوهم إلى هذا الحفل، إلا أن يقدم لهم كتاب الله سبحانه وتعالى، حسناً، أهو يقصد من ذلك أن يروج بين الناس عوامل الارتباط بكتاب الله؟ أهو يقصد من ذلك أن يستعيد ذاكرة الناس بعد نيسان أو طول نسيان؟ أهو يقصد أن يستعيد ذاكرة الناس إلى تدبر كتاب الله؟ لا أيها الإخوة، لا إنها ظاهرة تقليدية، ومهما تكاثرت نسخ القرآن في بيوت الناس من مؤمنين وغير مؤمنين فإنه لا يرى بأساً في أن يجعل من هذا العمل التقليدي تعبيراً عن دعوة الناس إلى الاحتفاء بالفرحة التي قد دخلت داره، يعلم أن هذا القرآن ربما يلقى في مكان لا يليق بكتاب الله سبحانه وتعالى من هذا المنزل، ويعلم أن أكثر الذين سيتناولون هذا القرآن سيعرضون عنه، ولسوف يلقونه في جانب قصي من بيوتهم، يعلم هذا ومع ذلك هو عمل تقليدي يوزع بين الناس الذين يدعوهم إلى هذه المناسبة كتاب الله سبحانه وتعالى. لو كان هذا الإنسان غيوراً على كتاب الله لَعَلِم أن كتاب الله ينبغي أن يكون عزيزاً، لَعَلِم أن كتاب الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تتجه إليه القلوب بالخشوع وأن تتجه إليه البصائر بالتحكيم، قبل أن تتجه الأيدي إليه بالامتلاك، ليلقى هذا الكتاب في مكان ما من هذه الدار.
عندما ندخل إلى بيوت الناس - أيها الأخوة - نجد أن في كل بيت نسخاً من كتاب الله سبحانه وتعالى، وكم رأيت هذه النسخ ملقاةً في مكان قصي من الدار، لا أقول يمر الشهر بل تمر السنة والسنوات وكتاب الله عز وجل لا يفتح. من أين تكاثرت هذه النسخ؟ تكاثرت هذه النسخ عن طريق هذه الدعوات التي تتجه إليهم بمناسبة عقد قران، قيمة المصحف أصبح أمام كثير من البصائر والأبصار كقيمة بطاقة الدعوة، قيمة المصحف الذي يقوم في هذه المناسبة غدا في أذهان كثير من الناس مثل قيمة بطاقة هذه الدعوة، لأنها رمز، هذا المصحف الذي يُرسل إلى هذا الإنسان رمز يقول لقد دعوتك إلى حفل بمناسبة كذا في اليوم الفلاني. هذا أيضاً مظهر من أسوأ مظاهر الإعراض عن كتاب الله عز وجل.
وأنا أعلم أن في الناس من يوزعون المصاحف بمثل هذه المناسبة؛ وألسنتهم لا تستقيم على تلاوة آية واحدة بشكل صحيح من كتاب الله سبحانه وتعالى، هذا اللون من الإعراض أسوأ ما يمكن أن يتصوره الإنسان.
من أنواع الإعراض عن كتاب الله عز وجل: تلتفت يميناً تجد أن ثلة كبيرة من التجار أصبحت تتاجر بكتاب الله سبحانه وتعالى، في طباعته ونشره، والتفنن بإخراجه، يعتصر الواحد منهم عقله طويلاً ليتفنن في طريقة جديدة من إخراج القرآن، يخيل إليك أنه إنسان متحرق على كتاب الله، ولا والله إنما هي التجارة، إنما هي استخدام القرآن للوصول إلى عَرَضٍ من الدنيا تافهٍ.
تلتفت يساراً فتجد أن الناس يعبرون بالقرآن عن أحزانهم، يعبرون بالقرآن عن مصائبهم الدنيوية، يعبرون بالقرآن ربما عن انتقاداتهم على الله عز وجل فيما قضى وقدر.
تلتفت آنا آخر، فتجد أن المصحف إنما هو أداة للدعوة قيمتها قيمة دعوة لا أكثر، وأين الذين يخشعون للكتاب الله عز وجل؟ أين هم الذين يتفاعلون مع قول الله سبحانه: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 57/16].
غوغاء عن يمين وشمال، وكلام الله عز وجل يصك الأسماع، وليس ثمةَ مِنْ مُقْبلٍ، أين هم الذين يقفون أمام هذا المثل الذي يضربه كتاب الله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هَذا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 59/21].
لقد آل أمر هذه الأمة إلى أن تصبح أفئدتها أقسى من الحجارة، أقسى من الجبال التي هي رضيم ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هَذا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
أيها الإخوة أصدقكم أنني ما سمعت آيات من كتاب الله تتلى في شارع أثناء مرور في جنازة إلا وتألم قلبي الألم الشديد، ولو استطعت أن أنكب هذه الجنازة بنكبة لما قصرت، أنا أعلم أن هذا مظهر من مظاهر غضب الله عز وجل، نحن بأمسِّ الحاجة إلى أن نعود إلى كتاب الله، نحن بأمس الحاجة إلى أن نخشع لما نسمعه أو نتلوه من كتاب الله سبحانه وتعالى، يؤول بنا الأمر إلى أن يصبح القرآن كمنديل نمسح به أقذارنا، نجعل منه سُلَّماً نرقى بأقدامنا عليه لنصل من وراء ذلك إلى عَرَضٍ من الدنيا قليل، ما الذي سيقوله هؤلاء الناس غداً إذا قام الناس لرب العالمين؟
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشَدَ، وأن يلهم هذه الأمة عوداً حميداً إلى دينه، وأن يدخل أسرار كتاب الله عز وجل المنزَل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في عقولنا إيماناً وإدراكاً، ومن ثمَّ في قلوبنا خشوعاً وحباً وتعظيماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.