
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


رأس مالنا للنصر هو الالتجاء إلى الله
رأس مالنا للنصر هو الالتجاء إلى الله
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 03/09/2004
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
ذكر العلماء أن أجمع آية حوت آداب القتال في سبيل الله وتعالى وواجب المسلمين عندما يحيط بهم العدو ويتلقون منه التهديدات، هي قوله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النّاسِ﴾ [الأنفال: 8/45-47] وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقف يوم بدر مستقبلاً القبلة وبسط كفيه إلى السماء منفذاً تعاليم الله وأوامره في الآية التي تلوتها عليكم فكان من دعائه أن قال: ﴿اللهم أنجذ لي نصرك الذي وعدتني، اللهم آتني نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من المسلمين فلا تعبد في الأرض﴾، وظل يدعو إلى أن سقط ردائه عن منكبيه. وروى الشيخان البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته انتظر حتى إذا مالت الشمس - أي إلى المغيب - قام في الناس فقال: ﴿أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا واصبروا﴾ ثم أخذ يدعو وكان من دعائه: ﴿اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب، اهزمهم﴾. وروى النسائي والترمذي وأبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا لقي عدواً في غزوة من الغزوات: ﴿اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أحول وبك أصول وبك أجول﴾.
وهكذا أيها الإخوة! فلقد كان من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه إذا أحاط بهم كرب وداهمهم عدو، ولقوا أنفسهم في غزو أمام عدو يريد بهم شراً، كان من دأبه أن ينفذ وصايا رب العالمين في الآية الجامعة التي تلوتها عليكم، وإن يكثر الالتجاء إلى الله والتضرع إليه، والاستغاثة إليه، وهكذا حق النصر والتأييد من الله لرسوله، وأثبت البيان الإلهي هذه الحقيقة، الربط بين صدق الالتجاء إلى الله والتضرع إليه والاستقامة على صراطه والنصر الذي وعد الله به عباده أثبت البيان الإلهي ذلك إذ قال: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 8/9] والحديث من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وعن شدة التجائه إلى الله، وكثرة تضرعه بين يدي الله حديث يطول، والأحاديث في ذلك كثيرة.
وليس المهم أن نستعرض المزيد من هذه الدعوات التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما الذي أريد أن أنتهي إليه هو أن أطرح على نفسي وعليكم السؤال التالي:
نحن مسلمون مؤمنون بالله عز وجل، أين هو حظنا من هذا الالتجاء إلى الله عز وجل؟ أين هو نصيبنا من تنفيذ الوصايا التي أوصانا بها الله عز وجل وأمرنا بها؟
﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 8/45-46] أين هو نصيب هذه الوصايا التي أوصانا الله عز وجل بها من حياتنا؟ أين هو حظنا نحن من هذا الذي شرفنا الله عز وجل به وأمرنا به قدوتنا رسول الله (ص)؟ ورسول الله معصوم من الآثام ومن الذنوب، أليس هو الذي قال عنه مولاه وخالقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 68/4]، أليس هو الذي خاطبه ربه قائلاً: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 93/5] فما حاجته إلى الاستغاثة والتضرع والالتجاء إلى الله، وكأنه مثقل بالأوزار، مثقل بالتبعات والأخطاء والمعاصي، فإذا كان هذا هو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المعصوم الذي وعده ربه بأن يعطيه ما يرضيه، إذن ما الذي ينبغي أن يكون عليه حالنا نحن، ونحن الذين نزعم بأنا مسلمون، وبأنا مؤمنون، وبأنا مرتبطون بكتاب الله سبحانه وتعالى.
ها هي ذي التهديدات تحيط بنا، وها هو ذا العدو الشرس يعلن عن بغيه وفجوره، ويعلن عن طغيانه وعن أهدافه المستشريه، وهي كلها تدور حول محور واحد يتمثل في القضاء على دينكم، في القضاء على إسلامكم، أين هي الاستجابة لأمر الله في معسكراتنا؟ أين هو صدق الالتجاء إلى الله الذي ينبغي أن يصطبغ به الجنود صباح مساء؟ أين هو التضرع إلى الله عز وجل على الثغور؟ أين؟ أنظر وأتامل والعدو يشد من ضغطه ويزيد من تهديداته، أتأمل وأبحث فلا أجد إلا نقيض ما أمرنا به بيان الله، لا أجد إلا نقيض ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
من هم أيها الإخوة أَوْلى الناس بالوقوف على باب الله منكسرين ملتجئين ضارعين، الذين يتقلبون في بيوتهم آمنين مطمئنين؟ أم الذين يقفون على الثغور؟ كلنا نعلم، كلنا مكلفون بالالتجاء إلى الله، لكن أشد الناس احتياجاً إلى هذا الالتجاء هم الذين يقفون على الثغور، هم الذين ينالهم التهديد مباشرةً، هم الذين يقفون حراساً للوطن ولمبادئه ولقيمه، هؤلاء ما رأسُ مالِهِم في النصر بعد الذي أمر الله عز وجل به إذ قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 8/60]؟ ما هو رأسُ مالِنا للنصر بعد هذا الذي أمرنا الله عز وجل به؟ ليس لنا إلا رأسُ مالٍ واحدٍ لا ثانيَ له أبداً، إنه الالتجاء إلى الله، إنه الاصطلاح قبل ذلك مع الله سبحانه وتعالى، إنه الوقوف على أقل المراتب، موقف المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إنه الاستغاثة، عدونا يطاردنا، إلى من نفر؟ الجواب: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 51/50] ليس لنا إلا ملجأ واحد، ملاذ واحد ألا وهو الله سبحانه وتعالى. إنني أبحث ولعلكم جميعاً تبحثون عن انعكاسات هذا الذي أمرنا الله به، وهذا الذي كان يثابر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حياتنا، على الثغور وفي المعسكرات، وأحاول أن أبحث ثم أبحث، فلا أجد رائحة لالتجاء إلى الله، لا أجد رائحة لوقوفٍ بضراعة على باب الله سبحانه وتعالى.
فكيف أيها الإخوة يتأتى لي أن أبسط كف الرجاء إلى الله، وأدعو بعد قليل أن ينصرنا الله؟ أليس ثمة ما يحول بيني وبين هذا الدعاء، أليس ثمة جدار من الخجل يحول بيني وبين هذا الدعاء؟ لكأني أسمع نداء الله عز وجل يصك أذني يقول: النصر قريب لكن أعلنوا عن حاجتكم إليه، النصر قاب قوسين، ولكن اطرقوا بابي، وأعلنوا أنكم تريدون النصر. ألم أقل لكم: ﴿وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 30/47] برهنوا على إيمانكم، برهنوا على صدق ارتباطكم بالله عز وجل، وخوارق النصر بين أيديكم، لكأن بيان الله هكذا يقول عندما أسأل الله عز وجل وأدعوه أن ينصر أمتنا، وأن يبدد طغيان هؤلاء الذين يلاحقوننا بتهديداتهم صباح مساء. أما آن لهذه التهديدات ولهذه الضغوط أن توقظنا من سباتٍ؟ أما آن لنا جميعاً على اختلاف رتبنا وفئاتنا أن نصطلح مع الله سبحانه وتعالى؟ أحد شيئين: إما أننا صادقون في إيماننا وإسلامنا، صادقون في يقيننا بأن هذا القرآن الذي يتلى على مسامعنا هو كلام الله، إذن ينبغي أن نضعه موضع التنفيذ، ينبغي أن نضع هذا الكلام الجامع موضع التنفيذ: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 8/45-46] أو لعلنا لسنا صادقين، لعل قلوبنا لا تصدق ألسنتنا، ولعلنا لا نقيم لهذا الكلام كله وزناً، إذن ينبغي ألا نعتب إذا غاب النصر عن حياتنا، إذن ينبغي ألا نحاول ونناقش صباح مساء: أين هو نصر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؟ وأني لأخشى أن يكون الذي حاق بنا هو الحال الثانية، وكنت ولا أزال متفائلاً، ولا أحب التشائم، ولكني أخشى أن تكون الحال الثانية هي الحال التي تصدق علينا، ومن أكبر الأدلة على ذلك أن كتاب الله عز وجل الذي كان مصدر هيبة المسلمين لله، ومصدر خوفهم منه، ومصدر حبهم له، ومصدر استغاثتهم لله سبحانه وتعالى، أصبحت له مهمة أخرى في حياتهم.
ألا ترون القرآن أصبح شعاراً يعلن من خلاله الناس أن حادثة مَوت وقعت في دار، إذا وقعت حادثة موت، فالأداة الوحيدة التي تكون سبيلاً للإعلان عنها بين الأوساط أن توضع أشرطة يتلى من خلالها كتاب الله عز وجل، من الذي يصغي؟ من الذي يتأمل؟ لا أحد، كل ما هناك أنه شعار يعلن من خلاله أصحابه أن حادثة وفاة وقعت، فانظروا! فانظروا إلى النتائج والله عز وجل يطلع، انظروا إلى موقف مولانا وخالقنا منا ونحن قد دنسنا كتابه، وجعلناه أداة لهذا الأمر، حتى أصبح كثير من الناس رجالاً ونساءً يتبرمون من سماع القرآن في المذياع أو غيره في البيوت، ويتصورون أنه نذير شرٍّ ربما قال قائلهم، أو قالت امرأة منهم! ماذا؟ أهنالك حادثة موت حتى تسمعنا هذا القرآن؟ كم وكم قيل هذا! بالأمس كان كتاب الله عز وجل دستور الأمة، كان كتاب الله عز وجل الضياء الساطع، للصراط الذي ينبغي أن يسير عليه الناس، كان كتاب الله سبحانه وتعالى النظام الهادي للحضارة الإنسانية المثلى، أما اليوم وقد أصبح كتاب الله عز وجل أداة ارتزاق، يطبع كتاب الله كثيراً، وما أكثر الذين لا يؤمنون به ولكنهم يطبعونه مراراً وتكراراً من أجل أن يملؤوا جيوبهم من ورائه بالمال، وكم وكم أسيء إلى القرآن وهو يطبع، نعم. يوزع في المناسبات، لا من أجل التمسك به والالتجاء إليه، ولكن من أجل التجمل بإطاره.
أجل أيها الإخوة هذا ما آل إليه كتاب الله، ونحن نقول: إننا مؤمنون ومسلمون. فقارنوا بين موقف المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما كان يواجه العدوان وتهديداته، وقارنوا بين موقفنا اليوم، ولعل من الخير أن تفيض قلوبنا خشية من الله، وخشية من الأيام السوداء المقبلة، إلا إذا أصلحنا الله، وهدانا إلى سواء صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.