مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/08/2004

الحصن الخفي

الحصن الخفي


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 27/08/2004


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من المعلوم أن للشام ذكراً، وأي ذكر على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد كثرت الأحاديث النبوية عن ذكر الشام وأهميتها، والمزايا التي اختصها الله سبحانه وتعالى بها، وقد أفرد كثير من المحدثين بالكلام عن الشام وفضله أبواباً خاصة، بل إن في العلماء من أفراد للحديث عن الشام والأحاديث الواردة فيها كتباً ومؤلفات خاصة. ولا ريب أن قلب الشام وهي بلاد واسعة كثيرة، لا ريب أن قلب الشام فيما ذكره لنا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما هو دمشق، ومن أصح ما ذكره ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله: ﴿فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى على أرض يقال لها الغوطة، جانبها مدينة يقال لها دمشق، هي خير منازل المسلمين يومئذ﴾.


وفسطاط المسلمين هذه الكلمة تعني الموئل والملجأ والملاذ، أي أن دمشق وما حولها بكل ضواحيها سيجعل الله عز وجل منها ملاذاً وملجأ وموئلاً للمسلمين، يتواردون إلى هذه الأرض من سائر الجهات، بحثاً عن وسائل التقرب إلى الله، وبحثاً عن مزيد من التبصر بعلوم الشريعة الإسلامية المختلفة.


ولا ريب أيها الأخوة أن الزمن يبين ويشرح الغامض من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الذي بينه، وإنها آية من آيات كثيرة تنطق بنبوة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد شاء الله عز وجل بمنه وجوده أن تكون الشام هذه وقلبها دمشق معيناً لعلوم الشريعة المختلفة، وأن تكون معيناً للروحانية الإيمانية، ينتجعها المسلمون في هذه البلدة وعلى هذه الأرض، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يتجلى الإسلام في هذه البلدة موزوناً بميزان كتاب الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن غلو الغالين، وبعيداً عن تطرف المتطرفين، ومن ثم فقد شاء الله عز وجل أن تكون هذه الشام منتجعاً وموئلاً لعشاق الشريعة الإسلامية، لعشاق دين الله سبحانه وتعالى، أولئك الذين يفرون من الغلو ومن الإفراط والتفريط، ويبحثون عن الإسلام الحق الموزون بميزان الكتاب والسنة، فلا يجدون أمامهم إلا هذه الأرض التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصف.


وقد كانت الشام - أيها الإخوة - ممثلة في أهلها الذين شرفهم الله عز وجل بالاستيطان فيها، وكانوا ولا يزالون يرحبون بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهل وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها المسلمين من بعده إلا العناية بهؤلاء الذين يهاجرون إلى الله في سبيل العلم؛ يهاجرون من دويرة أهلهم، من أوطانهم البعيدة إلى حيث يستطيعون أن يتبصروا فيه بدين الله، وأن يتعلموا شريعة الله عز وجل؟ هل يمكن أن تفسر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير هذا؟ أليس هو القائل: ﴿إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع﴾ أي أينما ذهب طالب العلم فإن ملائكة الله عز وجل تبارك له غُدُوَّهُ ورَواحه وهجرته إلى الله عز وجل، وتيسر له السبيل معبداً إلى ذلك، وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بهذه الكلمة: ﴿تضع الملائكة أجنحتها﴾ أي في طريقه إلى التبصر بدين الله عز وجل وتعلم شريعته ﴿رضا بما يصنع﴾.


كان أهل الشام ولا يزالون يقولون: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تلك مزية تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يضيق الوقت عن استعراضها وذكرها، تحدث عنها، عن هذه البلدة، عن الشام عموماً، وعن دمشق بصورة خاصة.


وما هي ضريبة هذه المزية التي شرف الله سبحانه وتعالى دمشق وما حولها بها؟ الضريبة التي ينبغي ألاَّ تنسى، وينبغي أن نؤديها حق الأداء، هي شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة التي اختصنا بها، وليس الشكر - كما قلت لكم أكثر من مرة - كلمة تقليدية تردد على الألسن، ولكن شكر الله سبحانه وتعالى إنما هو تجنيد السلوك والنعم التي متعنا الله بها لاستنزال مرضاة الله سبحانه وتعالى.


الضريبة التي أُثبتت في أعناقنا أمام هذه المزية التي شرفنا الله عز وجل بها، أن نردد هذه الكلمة التي يرددها أسلافنا، منقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا قلنا فينبغي أن نضع في هذه الكلمة معناها ينبغي أن نرحب بالمهاجرين إلى الله والذين تأملوا خيراً في هذه البلدة التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر لها ما ذكر من المزايا. إذا قلنا هذه الكلمة التي كان يرددها أسلافنا، ينبغي أن نضع فيها معناها، وألا تكون كلمة خاوية عن المدلول، وألا تكون كلمة تنطق بها الألسن، ثم يناقضها السلوك والفعل.


أيها الإخوة! أعيد إلى الذاكرة كلاماً كنت قد ذكرت أن الذين أعلنوا حربهم التي كانت خفية قبل اليوم، هؤلاء الذين أعلنوا حربهم لدين الله سبحانه وتعالى؛ لم يتركوا شيئاً مما كان خفياً بالأمس إلا وجهروا به، وتحدوا المسلمين به، اليوم هؤلاء يتخذون لحربهم هذه وسائل لا تكاد تنفد، ولكن لعل من أخطر هذه الوسائل أنهم يحاولون أن يسربوا إلى الصفحات الإسلامية الوضاءة المتمثلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله، والمتمثلة في سلوك النخبة الصالحة من عباد الله عز وجل، يحاولون أن يسربوا إليها غبش الكدورة، غبش الأخطاء، غبش التصرفات التي لا يقرها دين الله سبحانه وتعالى. يحاولون أن يختلقوا التطرف بكل الوسائل، يحاولون أن يختلقوا ما يسمونه (الإرهاب) وأن يغذوه سراً وجهراً بكل الوسائل المختلفة، ثم يسرِّبوا مظاهر هذا الذي يسمونه الإرهاب إلى الصفحات الوضاءة من دين الله سبحانه وتعالى، لكي يتخذوا من ذلك ذريعة لحرب الإسلام والكيد له، ثم امتلاخه من جذوره. هذه واحدة من الوسائل التي تُتَّخَذ اليوم للقضاء على الإسلام، ولعلها من أخطر الوسائل.


ونحن نعلم - أيها الإخوة - أنه ما من مبدأ من المبادئ إلا ويحتضن في وقت من الأوقات تطرفاً ذات اليمين وتطرفاً ذات الشمال، فلا يمكن أن تجد مذهباً من المذاهب، فكرة من الأفكار، سلوكاً من أنواع السلوك المختلفة، إلا وتجد فيه فترة من الفترات تطرفاً ما لأسباب مختلفة كثيرة، وأصحاب هذه المبادئ من شأنهم أن تقودهم غيرتهم إلى تطهير مبدئهم هذا من الإفراط والتفريط، ولقد علّم المسلمون منذ بعثت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، علّموا الإسلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تبينوا المنهج السليم الذي لا غلوّ فيه ولا إفراط ولا تفريط، وتشبعوا في هذا بقول الله عز وجل: ﴿وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 6/153],


نحن المسلمين - لا سيما في شامنا هذه - نعلم الصراط المستقيم الذي لا كدورة فيه ولا انحراف، ولا يمكن أن يتقبل إفراطاً ولا تفريطاً، نعلم ونعلم السبل المتعرجة التي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وكنا ولا نزال نحذِّر طلابنا وأبناءنا، ونحذر أنفسنا من سلوك أي منهج إليها. ونحن نعلم هذه الحقيقة، ومن أهم مزايا هذه الشام أنها كانت ولا تزال تلفظ كل إفراط وكل تفريط، وتحتضن الصراط العريض السوي الذي نبهنا إليه ربنا عز وجل إذ قال: ﴿وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 6/153] أعداء هذا الدين يحاولون أن يخيفوا قادة المسلمين بهذه الحجة الماكرة، دينكم اليوم يحتضن الإرهاب، يحتضن الإفراط، دينكم اليوم ليس أكثر من قنابل موقوتة تتفجر آنا هنا وآنا هنا وآنا هنا. إذن ينبغي أن تكونوا على حذر من هذا الدين، وينبغي أن تكونوا على حذر من احتضان الذين يحاولون أن يعكفوا على دراسته، ويحاولون أن يكونوا دعاة في لعالم كله إلى هذا الدين. هذه هي النقطة التي يحاول أعداء الله عز وجل. وأنتم تعلمون من الذي يخطط لهؤلاء الأعداء، إنها الصهيونية العالمية، إسلامكم اليوم غدا معيناً للإهاب، إذن فإياكم وتبني هذا الإرهاب، ولن تستطيعوا أن تتخلصوا منه إلا إذا جردتم بلادكم عن احتضان هذا الدين، إلا إذا جردتم بلادكم عن المعاهد التي تستقبل الوافدين إلى هذا الدين، إياكم.


ولكن هذه الأخدوعة على من تسري؟ لا المغفلون يمكن أن تسري عليهم هذه الأكذوبة. ولا البسطاء والسذج يمكن أن تسري عليهم هذه الأكذوبة، نحن الذين نحارب الإرهاب وليسوا هم، هم صُنّاعه ونحن الذين نحاربه، وخير وسيلة لمحاربة الإهارب أن نبصِّر الناس بحقيقة دين الله عز وجل، وأن نجعلهم يتذوقون حلاوة هذا الإسلام، وأن نجعلهم يدركون أن المسلم هو ذاك الذي يكون أشفق الناس على عباد الله، وهو ذاك الذي يكون أرحم الناس بخلائق الله تعالى، ما من إنسان درس سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا وحصنته دراسته ضد ما يسمى بالإرهاب، ما من إنسان عكف على دراسة الشريعة الإسلامية ودقائقها إلا وغذيت إنسانيته بأعلى درجات الغذاء الإنساني الذي يتسامى فوق ما يسمى بالإرهاب، أو الإفراط والتفريط.


نحن نقود لأولئك الأعداء: نعم نحن الذين نحارب الإرهاب، وأنتم صُنّاعه، وأنتم الذين تزرعونه في بلادنا، وإنما السبيل الأوحد إلى القضاء على الإرهاب أن نكون أمناء على ما وظفنا الله سبحانه وتعالى به، أن نكون أمناء على المزايا التي ميز الله عز وجل بها شامنا هذه، أن نكون أمناء على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول كما كان يقول أجدادنا للوافدين إلى هذه البلدة ابتغاء دراسة دين الله صافياً عن الشوائب، نقول لهم: (مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم). والدليل على هذا أن المنطقة التي تكون أكثر اهتماماً بالإسلام، وأكثر لا غيرة على الإسلام، وأكثر عكوفاً على دراسة دين الله وشرعه، تكون أبعد المناطق عما يسمى بالإرهاب، وأبعد المناطق عما يسمى بالمغالاة، أو الإفراط والتفريط، وبلدتنا هذه كانت ولا تزال معين العلوم الشرعية، معين المعارف الإسلامية، ومن هنا كانت هذه البلدة أبعد ما تكون عن الغلو وأبعد ما تكون عن الإفراط والتفريط.


وأخيراً! أُذكِّر ما قلت أيضاً: إنني على يقين، ولا يسألني أحد عن دليلي، فأنا لست مخولاً بذكر الدليل: إن هنالك حصناً غير مرئي يحصن هذه البلدة ضد سائر الفتن، وضد كل ما يراد بهذه البلدة الشريفة، هو حصن مهم جداً ولكنه غير مرئي، هل تعلمون ممَّ يتكون نسيجه؟ هل تعلمون ممَّ يتكون سَدى ولُحْمَتُه؟ هذا الحصن إنه يتكون من هؤلاء الوافدين إلى بلدنا هذه لدراسة دين الله سبحانه وتعالى، هؤلاء الذين يأتون من أقاصي المعمورة شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، هؤلاء الذين تتشرف بهم هذه الأرض غادين رائحين، تفيض بهم المساجد، تفيض بهم المعاهد، ينتجعون دراسة الشريعة، تركوا أوطانهم، تركوا أموالهم، تركوا زوجاتهم، تركوا الدنيا كلها لحاقاً بدين الله، وسمعوا أن الأرض الأولى التي تستقبل الوافدين لمعرفة الشريعة ودراستها إنما هي الشام، تماماً كما أن مكة تستقبل الوافدين إليها للتطواف حول بيت الله العتيق، فإن الشام هي التي تستقبل الوافدين إليها لدراسة دين الله سبحانه وتعالى والتبصر بشرعه، هؤلاء الوافدون هم الحصن غير المرئي، عرف ذلك من عرف، وجهله من جهل.


طالما كان هذا الحصن باقياً، وطالما كانت هذه البلدة ترحب بهؤلاء الوافدين بعين حذرة، أجل بعين ساهرة، طالما كانت وفية بهذا، فأنا على يقين وأنا أبشر بأن هذه البلدة لن تستطيع أن تخترقها مكائد العدوان، أين كانت وأين كان شكلها، لن تستطيع أن تتسرب إليها.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي