
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


اللغة العربية بين غزو الأعداء وحصون الأمناء
اللغة العربية بين غزو الأعداء وحصون الأمناء
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 09/07/2004
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
ظاهرة في كتاب الله عز وجل ألفت نظري وأنظاركم إليها، ما يتحدث كتاب الله عز وجل وبيانه عن القرآن إلا ويربطه باللغة العربية التي تنزل بها، ولا تكاد تجد هذه العلاقة تنفصل في وقت ما، فهو يقول مثلاً: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 16/103] ويقول مثلاً في مكان آخر: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 26/192-195]، ويقول أيضاً: ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 12/2] ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ [طه: 20/113] إلى آخر الآيات الكثيرة التي نلاحظ كيف أن البيان الإلهي يربط ظاهرة هذا الكتاب الرباني المبين بهذه اللغة العربية التي تنزل بها فما الحكمة من ذلك؟
الحكمة من ذلك - والله أعلم - أن نتبين قيمة هذه اللغة وأهميتها وأنها اللغة الوحيدة التي تصلح أن تكون ترجماناً لخطاب الله سبحانه وتعالى لعباده، ثم إن من وجوه الحكمة أيضاً في ذلك أن البيان الإلهي يلفت أنظار الناس إلى التفاعل الساري ما بين القرآن واللغة العربية، فكلما ازداد الإنسان عمقاً في معرفة كتاب الله عز وجل والتبصر بأسلوبه ومنهجه وخصائصه؛ ازداد دراية بهذه اللغة العربية وخصائصها ومزاياها، وكلما ازداد معرفة باللغة العربية وقواعدها وآدابها، وازداد عمقاً فيها؛ ازداد دراية في كتاب الله عز وجل وازداد معرفة بالمعاني العميقة الثّرّة الكثيرة في هذا الكتاب الرباني المعجز. فكأن بيان الله عز وجل يقول لنا: إن شئتم أن تزدادوا معرفة بأسرار هذا الكتاب الذي خاطبتكم به فما عليكم إلا أن تزدادوا معرفة بهذه اللغة التي جعلت منها ترجمان حديثي إليكم، وإن كنتم تريدون أن تزدادوا معرفة فهذه اللغة وتذوقاً لآدابها فما عليكم إلا أن تزدادوا دراسة ودراية لهذا الكتاب الرباني.
إذن بين القرآن وهذه اللغة العربية تفاعل كبير، وإن من الظواهر المعروفة في العالم كله أن الإسلام كلما ازداد اتساعاً فوق هذه الأرض ازدادت اللغة العربية معها اتساعاً. وهذه ظاهرة بينة واضحة لا داعي للتدليل عليها، وكدليل تجريبي على ذلك أقول: إن المعاهد المعنية بتدريس اللغة العربية لغير العرب في بلدنا معاهد قليلة جداً، ولعلها في دمشق معهد واحد يضاف إليه معهد فرعي آخر. فيما مضى لم تكن ثمة حاجة إلى المزيد، لم يكن المقبلون إلى دراسة اللغة العربية والآتين من الآفاق البعيدة من غير العرب لم يكونوا أكثر من العشرات، أما اليوم فإنهم يعدون بالمئات، ولقد ضاق هذا المعهد أو هذه المعاهد ضاقت ذرعاً بهؤلاء المنتجعين من شتى بلاد العالم لمعرفة اللغة العربية، فعلامَ تدل هذه الظاهرة أيها الإخوة؟ ما الذي يحدوهم إلى أن يأتوا إلى بلدة كهذه البلدة أو غيرها لتعلم اللغة العربية؟ وما الذي جعلهم يحنون إليها وهم لا يعرفونها؟ إن الذي جعلهم يحنون إلى التعرف إلى هذه اللغة حبهم للإسلام، حنينهم إلى التبصر بكلام الله عز وجل الذي جاء خطاباً للإنسانية جمعاء.
والذي أريد أن أنتهي إليه من هذا: أننا كما نتبين هذه الظواهر التي تثلج الصدر، فإن أعداءنا يتبينونها أيضاً، نحن نتبينها وقصارى ما يمكن أن نجنيه من آثار لذلك أن نشكر الله، وأن يطفح السرور على وجوهنا لهذه الظاهرة وأمثالها، ثم إننا لا نحرك ساكناً بعد ذلك، أما أعداؤنا فإنهم لا يكادون يجدون هذه الظاهرة إلا ويجتمعون في الأقبية المظلمة ليضعوا الخطط لإجهاض هذا الأمر، لإجهاض هذا التوجه، ولوضع خطط أخرى تعاكس هذا التوجه العارم إلى معرفة اللغة العربية، من أجل أن يتشرفوا بمعرفة كتاب الله سبحانه وتعالى.
آخر خطة عثرت عليها وتبينتها ترمي إلى أن يفصل كتاب الله سبحانه وتعالى عن هذه اللغة. كيف يتم الفصل؟ يتم الفصل بالرجوع إلى الملف الذي نشر في الخمسينات من القرن الماضي، وحاول الكثيرون من أعداء هذا الدين ومن العملاء الموظفين لهم حاولوا جاهدين أن ينفذوا الخطة التي يحويها ذلك الملف، لكنه فشل، ولم ينجحوا في مسعاهم ذاك، طوي الملف، لا أقول أهمل، ولكني أقول ألقي برفوف النسيان.
اليوم يعود أولئك الناس أو خلفاؤهم لإعادة هذا الملف ونشره من جديد، ينبغي تطوير اللغة العربية، يقول قائلهم: علينا أن نيسر لهؤلاء الوافدين إلى البلاد العربية وإلى سورية خاصة علينا أن نيسر سبيلاً لمعرفة اللغة العربية لهم، وإنما سبيل التيسير أن نبسط من قواعدها، وأن نغير منها، نغير أساليب الوقف على الكلمة، نغير ضبط الإعراب، نغير كثيراً من القواعد، لا لشيء بل تيسيراً لهؤلاء المقبلين الذين يريدون أن يتعرفوا على هذه اللغة العربية.
ما الهدف من ذلك؟ الهدف فصل هذه اللغة عن الينبوع المقدس ألا وهو كتاب الله عز وجل. فإذا تم التلاعب بقواعد اللغة العربية، إذا تم التلاعب في إعرابه، إذا تم التلاعب في كثير من آدابها وأساليبها، قام فاصل كبير بين هذه اللغة وبين كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن ثمّ فإن الهدف الذي من أجله جاء هؤلاء الناس يلهثون إلى هذه البلدة العربية الإسلامية من أجل الوصول إلى التبصر بكتاب الله، هذا الهدف لن يستطيعوا أن يصلوا إليه، تقوم الحواجز بينهم وبينهم.
أما الخطة الثانية الأدهى والأمر فهي ترمي إلى أن على عملاء هؤلاء أو هذا الفريق الذي يضع الخطة تلو الخطة بالقضاء على دين الله عز وجل، على هذا الفريق أن يطبق المنهج التالي: يصاغ القرآن من جديد معاني ودلائل دون ارتباط بقوالب هذه المعاني التي تنزل بها، وهي اللغة العربية، لا نغير من معاني القرآن شيئاً، ولكن نختصر الطريق لمن يريد أن يدرس كتاب الله عز وجل، وأن يعانق هذا الدين، نصوغ معاني القرآن صياغة مطلقة غير منضبطة بقواعد اللغة العربية التي تنزل بها، هذه هي الخطوة الأولى.
أما الخطوة الثانية فينبغي أن يصار من خلالها إلى تطوير كثير من المبادئ والألفاظ والشعارات والمصطلحات الموعودة في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك مثلاً كلمة (اليهود) ينبغي أن يستبدل بها كلمة (السامية) هذه هي الخطوة الثانية.
أما الخطوة الثالثة فهي أن يستبدل بالقرآن كله غيره هذه الخطة رسمت وإسرائيل هي المخطط المباشر، أما الخادم الذليل فهي أمريكا.
أجل علينا أيها الإخوة مع استبشارنا لهذا الذي قد قلته في فاتحة حديثنا أن نضع الخطط نحن أيضاً لتحصين هذه النعمة التي نراها، لتحصين هذه الظاهرة التي هي مظهر لقول الله عز وجل: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: 15/9]، لاشك أن سورية مشكورة بإيجاد هذا المعهد القائم الذي يتولى تدريس اللغة العربية لغير العرب، لكن إنني أقول من هذا المنبر، وأوجه النصيحة إلى الوزراء المعنيين في هذه البلدة، أن يضاعفوا من أعداد هذا المعهد، وأن يقيموا الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، وأن يضعوا لذلك الميزانية اللازمة، فإن عجزت فما أكثر الذين يستعدون أن يدعموا هذه الميزانية، نفتح أبواب هذه المعاهد لسائر الإخوة الوافدين من الآفاق المختلفة لتعليم اللغة العربية، لا نبدل منها، لا نغير شيئاً من قواعدها، نحن أمناء على قواعدها، مبادئها، آدابها، هل في هذا العمل ما يثير تخوفاً؟ هل في هذا العمل نوع من الإرهاب؟ هل في هذا العمل شيء يتجاوز حدود الثقافة؟ حدود مورثنا الحضاري الذي نعتز به كما تعتز كل أمة بمورثاتها الحضارية؟
نعم. هذه وصيتي وأنا أرجو وآمل أن تهتم هذه الدولة متمثلة كما قلت في الوزارات المعنية بأن تضاعف من المعاهد التي تستقبل الوافدين لتعليم اللغة العربية لغير العرب، ولن يستطيع أحد بشكل من الأشكال أن يتهمنا في هذا العمل بشيء، أهذا إرهاب؟ وما أدراك أن كل عمل ثقافي، وأن كل جهد حضاري، إذا كان مآله أن يزدهر الإسلام من ورائه فلسوف يأتي من ينعته بنعت الإرهاب؟ لا، بل ينبغي أن يقول: إن هؤلاء الأعداء باختصار الإسلام من حيث هو إرهاب يجب اجتثاثه. ليقولوا ذلك: ونحن نقول لسنا نحن الذين غرسنا في تربة الأرض هذا الإسلام، ولو كان الإسلام قد غرس بأيدي الناس إذن لاجتث هذا الغرس منذ آمادٍ بعيدة، ولَذَرَتْهُ الرياح، ولم يبقَ منه أي أثر، لكن الإسلام - والله الذي لا إله إلا هو - ليس ثقافة ابتدعتها رؤوس بشرية، وليس شتلاً أودعه في الأرض أصحاب العبقرية، إنما هو تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبه- على قلب المصطفى - لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين.
هذه وصية أزجيها وأنقلها إلى الوزارات المعنية، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن نتلقى صدىً إيجابياً وموقفاً إيجابياً لهذه الدعوة التي تفرح كل صديق، بل تفرح كل إنسان يحب الإنسانية، ويحب الثقافة من حيث هي، ويحب ازدهار الحضارات أياً كانت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.