مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/05/2004

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم دافع لاتباعه

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم دافع لاتباعه


                                                 خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 07/05/2004


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن المشكلات التي تعصف بالعالم العربي والإسلامي اليوم كثيرة وخطيرة، وهي معروفة ولا داعي إلى إطالة الحديث فيها، ولا عاصم اليوم هذه المشكلات إلا شيء واحد، هو أن يتآلف المسلمون وتمتد فيما بينهم جسور المحبة والود، ومن ثم يلتقوا على كلمة سواء، هذا هو العاصم الوحيد لهم من مغبة هذه المشكلات، ولا يمكن لجسور الألفة والحب أن تمتد فيما بين قلوبهم إلا بشرط واحد لابدَّ منه، هو أن تفيض قلوبهم قبل ذلك بمحبة الله سبحانه وتعالى، ومن ثم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمحبة الله ومحبة رسوله إذا أينعت في القلب كانت في كيان الإنسان كجذع الشجرة، لابدَّ أن تتفرع من هذا الجذع أغصان لا نهاية لها، تتمثل في حب المسلم لأخيه المسلم، تتمثل في شبكة الوداد التي تتنامى بين أفراد المسلمين جميعهم.


أما محبة الله عز وجل فكلكم يقرأ الدليل عليها من كتاب الله سبحانه وتعالى، وحسبكم من ذلك قوله عز وجل: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾ [البقرة: 2/165] ولا داعي إلى أقف بكم على المعنى الصريح الواضح لهذه الآية، فهذه من الآيات المحكمة التي لا مجال للتأويل فيها، ولا للشرود بها عن المعنى المبين الذي يتلألأ من خلال مضمونها.


وأما محبة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهي متفرعة عن محبة الله عز وجل، ولا يمكن لمن أحب الله ألا يحب رسوله، وحسبكم من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم على شرط الشيخين، من حديث عبد الله بن عباس: ﴿أحبو الله بما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب ا لله إياي﴾.


إذن لا تستقيم حياة العالم الإسلامي إلا إذا نهضت حياته على جذع من محبة الله عز وجل ومن محبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمحبة الله عز وجل هي الوقود الذي يشتعل بين الجوانح وفي طوايا القلب، فيدفع صاحبه إلى السلوك والاتباع، المحبة ليست عين الاتباع كما يتوهم البعض، وإنما المحبة الوقود الذي يشتعل في طوايا القلب فيدفع صاحبه إلى الاتباع، إلى ابتاع الله عز وجل واتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولو كانت محبة رسول ا لله صلى الله عليه وسلم أو محبة الله عز وجل متمثلة في جوهر الاتباع كما يقول اليوم بعض الناس، إذن لكان المنافقون في مقدمة من يحبون الله ورسوله، المنافقون في عصر المصطفى صلى الله عليه وسلم كانوا يشتركون مع سائر الصحابة في الاتباع، ويكادون يغطون نفاقهم بالاتباع، يصومون مع الصائمين، ويصلون مع المصلين، ويزكون مع المزكين، وربما خرجوا في كثير من الأحيان في الجهاد مع المجاهدين، فلئن كانت المحبة هي الاتباع فالمنافقون إذن ممن كانوا يحبون الله ورسوله، لا يمكن للعقل أن يصدق هذا الهراء، ما الفرق بيننا وبين أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم؟ لقد أحاطت بهم المشكلات التي أحاطت بنا اليوم، بل كانت المشكلات التي تتربص بهم أخطر وأطم وأكثر إحداقاً بهم من المشكلات التي نتأفف اليوم ونعاني منها. فما الذي جعلهم يتغلبون عليها؟ وما الذي جعلنا نقع تحت أسرها؟ وما الذي جعلها هي تتغلب علينا؟ فارق وحيد، ألا وهو أن أفئدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فياضة بحب الله وحب رسوله، أما أفئدتنا ففياضة في أكثر الأحيان بحب الدنيا وشهواتها وأهوائها، أو بحب السوى بكلمة مختصرة، لا فرق بيننا وبين أصحاب رسول الله في الإدراك العقلي بحقائق الإيمان، بل لعلنا نملك من الأدلة العلمية على عقائد الإسلام أكثر مما كانوا يملكون، ما أكثر ما كتبنا وفلسفنا، وتحدثنا عن الأدلة العلمية الكثيرة التي تثبت وجود الله، وتثبت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتثبت أن القرآن كلام الله، ولعل أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يمكلون هذه الفلسفات وهذه الأدلة العلمية، إذن ونحن وإياهم في الإدراك العقلي سواء، ولعلنا مثلهم في الاتباع، مساجدنا تفيض بالراكعين والساجدين، الحجيج إلى بيت الله الحرام يتزايد في كل عام، ولعله أكثر من العهد الذي كان فيه السلف الصالح مظهراً للارتباط بدين الله سبحانه وتعالى، والارتباط بشرعه، إذن ما الفرق بيننا وبينهم؟ الفرق هو هذا الذي أقوله لكم: قلوبهم كانت أوعية لحب الله، ومن ثم لحب رسول الله، أما قلوبنا فغدت في أكثر الأحيان أوعية لمحبة الدنيا، الشهوات، الأهواء، حب العصبية، حب الذات، إلى آخر ما تعرفون، هذا هو الفارق بيننا وبينهم.


إذن الحب حالة قلبية، بل وقود يشتعل في طوايا القلب، فيدفع صاحبه إلى الاتباع، يدفع صاحبه إلى التضحية، يدفع صاحبه إلى التعالي فوق الذات، فوق حظوظ النفس، فوق العصبية، الحب كما قال العلماء: هو ذاك الشعور القدسي الغريب العجيب، الذي إذا هيمن على القلب قرب البعيد، ولين الحديد، وجعل من العسير يسيراً.


أجل هذا ما نفتقده اليوم أيها الإخوة، وعندما أقول: هذا ما نفتقده اليوم أتحفظ، لأنني أعلم أن في المسلمين ولله الحمد في هذا العصر من لا يقلون عن أصحاب رسول الله حباً لله ورسوله، ولكنهم اليوم قلة.


وإذا اهتاجت مشاعر الحب لله ورسوله بين الجوانح، فإن الإنسان ينفعل بهذا الحب قسرياً، ولا يملك أمام هذا الحب فعلاً اختيارياً، الحب يدفع الإنسان إلى انفعال قسري، ولا يمكن أن يتركه إلى أفعال اختيارية، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابدَّ أن تهتاج بين جوانحه مشاعر تلهب كيانه، عندما تفوح رائحة ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم من حوله، وذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس محصورة في يوم ولادته، ولا في شهر ولادته، ما أكثر الذكريات التي تربطنا شعورياً بالمصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد وهم من قال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يحتفلون بذكراه من بعده، وهموا، وهِمَ من قال: إن التابعين لم يكونوا يحتفلون، أصحاب رسول الله لم يكونوا يحتفلون. أفكانوا يملكون اختياراً في هذا، إذا مر أحدهم بشجرة نام تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفوا أمامها وقد اهتاجت مشاعر الذكرى بين جوانحهم، وأنستهم دنياهم، وأنستهم أنفسهم، إذا مروا بمنطقة وقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى غزو أو عائداً من غزو، أو مروا بأرض الحديبية التي كانت المشهد للصلح الذي عقده المصطفى صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة وبين المسلمين، اهتاجت عوامل الذكرى بين جوانحهم، وألهبت نفوسهم، ووقفوا يتحدثون، وكم وكم من أبيات قيلت، وكم من مشاعر اهتاجت، وكم من زفرات انطلقت بها حلوق، ذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم ليست محصورة في يوم ولادته، كل ما هو مربوط ومفصل بحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من شأنه أن يثير ذكراه، لكن في قلب من؟ في قلب المحب، والمحب لا يملك خياراً في هذا بشكل من الأشكال أيها الإخوة!


قيل لي: ما الدليل الشرعي على مشروعية الاحتفال بذكرى محمد صلى الله عليه وسلم ؟


قلت: الدين كله دليل على ذلك، بل أقول كلمةً أدق: كل حقائق الدين وشعائر الدين ذكريات، كلها ذكريات، الطواف بالبيت استثارة لذكرى من أعز الذكريات، الصلاة عند المقام ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلَّىً﴾ [البقرة: 2/125] لماذا أمر من الله عز وجل في محكم تبيانه أن نحتفل بذكرى خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إذ كان يبنى البيت مع ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلَّىً} [البقرة: 2/125] السعي بين الصفا والمروة، هل هو إلا عمل يتمثل في استعادة ذكرى واحتفاء عظيم بها، الدين كله ذكرى، قيامي راكعاً ساجداً تالياً لكتاب الله عز وجل مناجياً الله عز وجل؛ احتفال بذكرى.


أجل أي ذكرى أحتفل بها إذ أناجي الله من خلال ترداد كتابه، من خلال السجود بين يديه، إنها احتفال قدسي بذكرى العهد القديم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ [الأعراف: 7/172] أجل.


ولكني أعود فأقول: محب لرسول الله، والحب كما قلت لكم ليس عين الاتباع، هو الوقود الذي يحمل على الاتباع، كيف؟ كيف يتأتى له أن يمر شهر ربيع، الشهر الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتفوح ذكرى ولادته أمامه، ثم لا يهتاج به الشوق والحنين إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، محب ولا يهتاج به الشوق، هذا لا يتأتى، احتفاء القلب بذكريات قدسية أمر فطري طبيعي لا يمكن إلا أن يكون جزءاً لا يتجزأ من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.


لما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم واستقر به المقام في المدينة المنورة؛ سمع أن اليهود يصومون يوم عاشوراء، يوم العاشر من المحرم، سأل لماذا يصومون؟ قالوا: لأنه ا ليوم الذي أنجى الله به موسى من فرعون، فنحن نحتفي بذكرى ذلك اليوم. قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ﴿نحن أولى بموسى منهم﴾ وأمر أصحابه أن يصوموا ذلك اليوم، وأمر من كان مفطراً أن يمسك ذلك اليوم. هذا هو الدليل، أجل.


ومع ذلك أيها الإخوة: الاحتفاء بذكرى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم له أشكال وألوان متطورة متنوعة، ليس حتماً أن تكون ترجمة الاحتفال بذكراه هذا الذي نراه في عصرنا اليوم، هذا يتطور قبل مئات السنوات لم تكن الاحتفالات بهذه الطريقة، وبعد سنوات ربما يتطور الأمر كذلك، المهم أن يحتفي الإنسان بذكرى من يحب، هذه حقيقة لا شك فيها.


وأقول لكم: الناس أحد رجلين: رجل آمن بالله ورسوله إيماناً عقلانياً ثم جعل قلبه وعاء لحب الدنيا والعصبية والأهواء وما إلى ذلك، فهذا الإنسان لن يعي ما أقول. وإنسان جعل من إيمانه حباً توج به إيمانه العقلي، وجعل قلبه وعاء لحب الله، ومن ثم لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كذلك الصحابي الذي أضناه النحول، وسأله المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ﴿إن الذي أضناني هو علمي بأن الناس إذا قاموا غداً إلى رب العالمين، فلسوف يكون لك مقام علي، ولن يستطيع واحد مثلي أن يناله، ومن ثم فلسوف أكون محجوباً عنك، وأنا اليوم لا أستطيع أن أصبر عن رؤيتك ساعة من نهار، فكيف السبيل؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت﴾ وهذا كقوله لذلك الصحابي الآخر الذي سأله عن الساعة، قال: ﴿ما أعددت لها)) قال: أما إني ما أعددت لها كثير صلاة ولا كثير صيام، ولكني أحب الله ورسوله، فقال: ((أنت مع من أحببت﴾.


ونحن أيضاً أيها الإخوة مقصرون في جنب الله عز وجل، ومقصرون في جنب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أرجو أن نكون صادقين. فقلنا: إننا نملك قلوباً تشهد بحبنا لله وحبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها، وأن نتمثلها، مشكلاتنا كثيرة ولا تحل إلا بالألفة والود، والألفة والود أغصان بجذع من الحب واحد، ألا وهو حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.


 


 

تحميل



تشغيل

صوتي