مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/04/2004

وحدة الأمة بين الشعار والتطبيق

وحدة الأمة بين الشعار والتطبيق


(وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ)


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 02/04/2004


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


لقد إنكم لتعلمون أن كلمة الوحدة هي الشعار الأكثر تألقاً والأكثر إشعاعاً في حياة الأمة العربية والإسلامية اليوم، هي الشعار الذي يستنطق به الصغار هتافاً كل يوم في مدارسهم، وهو الشعار الذي يكتب بكلمات وحروف وضيئة على اللوائح في جبهة كل مؤتمر وندوة، وهو الشعار الذي يرسم بأطر زاهية في صدر كل مؤسسة وعلى جبهة كل بنيان رسمي.


وهذا لا شك أنه أمر حق، فالوحدة - وحدة هذه الأمة- كانت ولا تزال مصدر عزها ولا مصدر لها إلا ذلك، وكانت ولا تزال مصدر قوتها وليس لقوتها مصدر إلا ذلك، وكانت ولا تزال مصدر غناها ولا مصدر لذلك إلا هذا الشعار، فأمتنا على حق في رفع هذا الشعار في كل مناسبة، وفي وضعه إطاراً أمام كل عين، وفي استنطاق المدارس به هتافاً في كل صباح.


ولكنّ العجب الذي لا ينتهي، هو أن أمتنا هذه بمقدار ما تستعلن هذا الشعار، وبمقدار ما تنادي به، تتنكب في الطريق المناقض له، فهي في هذا كشأن الغريق في الرمال، كلما أراد أن يتحرك ليستنقذ نفسه من بحر الرمال، إذا به يغوص أكثر فأكثر.


ترى ما السبب؟ ما السبب الذي يضعنا أمام هذا التناقض بين شعار يرتفع متألقاً ذات اليمين وذات اليسار، وفي كل مناسبة، وبين هذا الواقع المناقض لهذا الشعار؟


السبب أيها الإخوة أن الوحدة – وحدة الأمة – مستوىً باسق، والمستوى الباسق الذي تحلم به الأمة لا يتم لها إلا بالصعود إليه، لابدَّ من الصعود إليه، وأمتنا هذه تحلم بهذا المستوى الباسق دون أن تضع منهاجاً للصعود إليه، هذا هو السبب باختصار أيها الإخوة.


لكي تتحقق وحدة الأمة لابدَّ أن يتحقق في حياتها الهدف الأوحد، يوضع الهدف الأوحد محوراً، ومن ثمّ تتحقق دائرة الوحدة من حول هذا المحور، عندما تعيش الأمة وليس لها هدف قدسي واحد يملأ كيانها ويملأ فراغ فكرها؛ فهيهات لشعار الوحدة أن يتحقق. أجل أيها الإخوة، عندما تكون الجماعة أياً كانت تتقاسمها وتفرقها أهداف شتى وأفكار مختلفة متناقضة شتى، كيف السبيل إلى أن تتحد؟ وكيف السبيل إلى أن ترقى صعداً إلى المستوى الباسق؟ إلى هذه الوحدة؟ لا يتأتى ذلك، المنطق ينكره، وقانون الهندسة ينكره، ضع المحور تتحقق لك منه الدائرة، والمحور هو الهدف، وانظروا إلى هذه الحقيقة كيف تتمثل ناصعةً في كتاب الله سبحانه وتعالى. إذ يخاطبنا في الآية التي ما أظن أن في المسلمين من لم يقرأ، بل لا أظن أن في عباد الله العرب من لم يقف عند هذه الآية، وتبينها، ولم يتبينها ذات يوم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾.


لو أن البيان الإلهي بدأ فقال: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾. قبل أن يضع المحور المتمثل في هذا الحبل، حبل الله سبحانه وتعالى، إذن لما كانت ثمة فائدة لهذا الأمر، ولما انقاد الناس، ولا يستطيعون أن ينقادوا لقوله عز وجل: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ لكي لا نتفرق لابدَّ من محور يجذبنا إلى عدم التفرق، والله عز وجل حكيم بمقدار ما هو عليم، ولذلك وضع المحور أولاً فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} أمرنا بالتلاقي على هذا المحور، أمرنا بالتلاقي على هذا الهدف القدسي، ومن ثم قال: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ مشكلة أمتنا اليوم.


وأقول أمتنا العربية حصراً، مشكلة أمتنا العربية أنها تنشد الوحدة ولا تبحث عن المحور، لا تبحث عن الهدف، ومن ثم فإن هتافها يذهب أدراج الرياح، وإنه لشعار خُلَّبٌ أشبه ما يكون بالسراب الذي يلتمع أمام الإنسان الظمآن، ثم ينظر فلا يجده شيئاً، تلك هي الحقيقة أيها الإخوة، غاب هذا المحور الذي كان ذات يوم فعّالاً في حياة هذه الأمة، بعد أن كانت مضرب المثل في التفرق والتشرذم، أدى هذا المحور دوره، حقق الكثير والكثير، نسج وحدة ما مثلها لهذه الأمة، بعد أن كانت - كما قلت لكم - مضرب المثل في التفرق، أصبحت مضرب المثل في الوحدة والاتفاق والتضامن، لماذا؟ لأن سائر الأهداف المتناقضة الفرعية تساقطت من أفكارها وأصبحت أفئدتها وعقولها وعاءً لهدف واحد تمثل في حبل الله عز وجل، في المبدأ الذي خاطبنا الله عز وجل به، وأمرنا بالانقياد إليه، وأمرنا بالسير على نهجه، تلاقت الأمة على هذا الهدف، ومن ثم ازدهرت الوحدة في كيانها، ومن ثم تحقق من خلال هذه الوحدة عزها، تحقق غناها، تحققت قوتها.


أما اليوم فالمشكلة أن هذا الهدف الأقدس انطوى من حياة أمتنا، وأصبح هدفاً فردياً جزئياً، يعتنقه هذا وذاك والآخر.


أما الأمة التي تتمثل في قادتها فقد توازعتها الأفكار الأخرى، توازعتها الأهداف المختلفة الأخرى، وأقول لكم قانوناً علمياً منطقياً عقلانياً أيها الإخوة، إذا غاب سلطان الله عز وجل عن كيان الأمة فلا يمكن أن تخضع الأمة بعد ذلك لسلطان واحد، نحن - ومرة أخرى أقول - نحن الأمة العربية، فمن ماذا؟ مجموعة أناس، مجموعة أشخاص، كلنا له حظ في الثقافة، في المعرفة، في الفكر، في التوجيه لا يمكن أن تلتقي هذه الأمة على الخضوع لسلطان رجل واحد، ومن الذي يفضله على الآخرين، لا يمكن للأمة قاطبة أن تلتقي على فكر أضع منهاجه أنا، ومن أنا؟ ولا يمكن لزيد ولا لعمرو ولا لفلان من الناس أن يقود الأمة كلها على نهجه، ما الذي يفضل زيداً على عمرو؟ ما الذي يفضل إنساناً على إنسان؟ بعد أن غاب سلطان الله، سلاطين الناس كلها تصبح متساوية، كلها تصبح أنداداً، قد تتشاكس ولكنها لا يمكن أن تلتقي خاضعة لسلطان واحد أبداً. غاب سلطان الله عز وجل عن أفئدة هذه الأمة، وعن عقولها، إلامَ آل أمرها، ظهرت فكرة القومية، ظهرت فكرة الليبرالية، ظهرت فكرة الاشتراكية، ظهرت فكرة الحداثة، ظهرت فكرة العلمانية، ظهرت أفكار شتى، وأصبحت هذه الأمة كرجل يغلي بهذه الأفكار المتناقضة المختلفة، فيما وجدت فيها هذه الأفكار الكثيرة التي تشبه الثآليل الموجودة على ظاهر الجسم السوي، لماذا؟ للفراغ الذي زجت فيه. وهذا الفراغ من أين جاء؟ من غياب سلطان الله سبحانه وتعالى.


على هذه الأمة قرار منطقي لا يمكن لأمة أن تتجاهله، ولا يمكن لفكر أو متفلسف أو أي إنسان يتحدث عن الاجتماع وعلم الاجتماع أن يتجاهله بشكل من الأشكال، وانظروا إلى كتاب الله، وانظروا إلى هذا الكلام كم يُنبئ عن حكمة الله، بل كم ينبئ عن لطف الله بهذه الأمة، يضعنا أمام المنهاج الواحد الموحد، أمام الهدف، أمام المحور الذي يحقق الوحدة، ثم ماذا يقول البيان الإلهي في أعقاب ذلك. يقول: ﴿وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.


هل دعيتم هذا الكلام؟ ترى هل دعى قادة أمتنا العربية الإسلامية هذا الكلام؟ يرسم البيان الإلهي المنهج الواحد الهابط من علياء الربوبية، ليس منهاجاً وضعه زيد لعمرو، ولا فلان لفلان، ولكنه منهج رب العالمين، يدعونا إليه لتتحقق من خلال اجتماعنا عليه وحدتنا، ثم يقول لنا محذراً، بكلام مغموس في معاني اللطف، مغموس في معاني الرأفة – الرحمة - ﴿وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ أي إنكم إن أعرضتم عن هذا الصراط لن تجدوا أنفسكم أمام صراط واحد بديل عنه، لن تجدوا أنفسكم أمام سبيل واحد بديل عنه، بل ستجدون أنفسكم أمام سبل شتى، وستتوازعكم هذه السبل، ومن ثم فإن وحدتكم تتبدد، وإن ريحكم تذهب، وإن الفرقة ستكون هي مصيركم، ومن ثم فإنكم مهما كان الغنى الذي تتمتعون به، ستتحولون إلى فقراء، ومهما كان العز الذي أورثكم الله إياه، فإنه سيتحول إلى ذل، ومهما كانت القوة التي متعكم الله بها، فإن القوة ستتحول إلى ضعف.


تلك هي قصة أمتنا العربية، وتلك هي أسباب ما آلت إليه، وذلك هو تفسير التناقض، التناقض المثير للضحك، المبكي، بين شعار يرتفع في كل مناسبة، في كل مناسبة، وبين واقع مخزٍ يناقض هذا الشعار.


ولا داعي للإطالة، فإن آخر الكلام ينسي أوله، وأنا لا أريد لهذه الأمة أن تنسى هذه الحقيقة لا أريد لأمتنا العربية التي تزعم أنها إسلامية، لا أريد لها أن تنسى هذه الحقيقة، عندئذ ستعلم أن سبب المهانة التي نزداد استغراقاً فيها يعود إلى هذه الحقيقة، وأن سبب الفقر على الرغم من غنانا يعود إلى هذه الحقيقة، وأن سبب النكبات التي تتلاحق في سلسلة لا تنتهي مردها إلى هذه الحقيقة، وأن الخزي الذي سمعتموه عما كان يهيأ من أجل مؤتمر القمة؛ ثم المفاجئة التي فوجئت أمتنا بها هذه سببها هذه الحقيقة.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم.


 


تحميل



تشغيل

صوتي