
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


حصن الوعي الإسلامي
حصن الوعي الإسلامي
خطبة الإمام الشهيد البوطي
تاريخ الخطبة: 12/03/2004
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله
لقد علمت الدنيا كلّها بكل ما فيها من مسلمين وغير مسلمين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم أن الطغيان الأمريكي والصهيوني، إنما يسعيان سعيهما اللاهث اليوم للوصول إلى هدف واحد لا ثاني له، ألا وهو القضاء على إسلام المسلمين، يقيناً منهم بأنه الحصن الأعتى الذي يقف جداراً منيعاً دون طمع الطامعين في هذه الأمة التي متعها الله سبحانه وتعالى بهذا الدين الشريف.
وهذا الأمر الذي لا خلاف فيه بين العقلاء يقتضي بالبداهة أن يكون المسلمون اليوم أكثر اعتزازاً بإسلامهم من أي وقت مضى، وأن يكونوا في هذا العصر بالذات أكثر يقيناً من أي عصر مضى بأن الإسلام لا غيره هو مصدر عزهم وموئل غناهم ومصدر انتصاراتهم.
ثم إن الطغيان الأمريكي والصهيوني يسعيان لتحقيق هذا الهدف بوسائل شتى مباشرة وغير مباشرة.
ومن أبرز هذه الوسائل – ولكنه ليس أخطرها – هذا الذي تفعله من لصق الداء الذي تعاني منه بإسلام المسلمين، يلصق الطغيان الأمريكي والصهيوني داءه الذي لا يجهله أحد في العالم، ألا وهو داء الإرهاب، يلصق كل منهما داءه بالإسلام والمسلمين. وإن هذا ليذكرنا بالمثل العربي القائل: ((رمتني بدائها وانسلَّت)). فالإسلام وليس الطغيان الصهيوني والأمريكي معين للإرهاب، والإسلام وليس الطغيان الأمريكي والصهيوني هو الذي يستلب الحقوق ويغتصب الأوطان ويقتل الأبرياء، تلك هي الوسيلة الأولى التي يمارسها هذا الطغيان، ولكنها ليست الوسيلة الأعتى، وليست هي الوسيلة الأخطر قط.
أما الوسيلة الثانية، وهي الوسيلة غير المباشرة، وهي الوسيلة الأخطر، فهي ما يمعن فيه كل من هذين الطغيانين في هذا المنعطف الذي نمر به، من العمل الدائب على تحويل الإسلام الواحد، الذي شرف الله عز وجل به هذه الأمة إلى مجموعة أفكار متصارعة متناقضة، مآلها إلى أن يأكل بعضها بعضاً، ثم إنه ينتهي إلى زوالٍ وضباب. تلك هي الوسيلة الثانية، الوسيلة غير المباشرة، وهي الوسيلة الأعتى والأخطر.
أقول إنها الوسيلة الأعتى والأخطر لأنها الوسيلة التي لا يشعر بها كثير من المسلمين، تمرر تحت أغطية شتى، وتحت عناوين مختلفة، ويكون رجالها وأبطالها المنفذون لها في الظاهر مسلمين من أبناء جلدتنا، ولعل المغفلين من المسلمين يخيل إليهم أن الحافز الدافع لهؤلاء المسلمين في الظاهر إلى ما يفعلونه ليس إلا غيرة على الإسلام، أن يتعرف الناس على دقائق ما فيه، وأن ينتهي المسلمون إلى الحق من الخلافيات الموجودة في داخله، هكذا يتصور كثير من المسلمين، الأمر الأخطر الذي يمارسه الطغيان الأمريكي والصهيوني اليوم للقضاء على الإسلام، منبع خطورته غياب الوعي الإسلامي عن أذهان كثير من المسلمين اليوم.
ديننا الإسلامي أيها الإخوة أشبه ما يكون بالشجرة، والشجرة لها جذع واحد، لا يمكن أن تجد شجرة قد انبثقت من الأرض بجذعين اثنين، إسلامنا له جذع واحد، يحتضن هذا الجذع الواحد أغصان شتى كلها منتمٍ إلى هذا الجذع، كلها داخل في غذاء هذا الجذع، كلها خاضع لسلطان هذا الجذع، وكلها يعطي الثمار الذي يقضي ويأمر به هذا الجذع. ولكن الطغيان الأمريكي والصهيوني يحاول أن يبعد المسلمين عن الجذع الإسلامي الواحد، وأن يزجهم منه في أغصان غير متحدة غير متواصلة، أملاً في أن يؤول الإسلام عما قريب إلى مجموعة أفكار متصارعة، يأكل كما قلت لكم بعضها بعضاً، وإذا بالطغيان الأمريكي والصهيوني قد تحرر عما قريب من الخوف من هذا البعبع الذي يتهدد الحضارة الغربية بشطريها الأمريكي والأوربي، بل أقول بشطريها الأمريكي والصهيوني.
ولقد جُنِدت لهذه الغاية الخطيرة جداً، جُندت أقنية فضائية كثيرة، وهي اليوم لا تزال اليوم تتكاثر في كل أسبوع أو أسبوعين، تطالعنا أعيننا على مزيد من الشعارات لمزيد من هذه الأقنية التي تنطق بالعربية، والتي يلبس روادها ألبسة عربية، وتتحرك ألسنتهم باللغة العربية، ما هي الرسالة التي تحملها هذه الأقنية أيها الإخوة؟ إنها الرسالة التي حمّلهم إياها هذا الطغيان. أقول هذا، وكنت أتمنى لو أن المسلمين يتمتعون بالوعي المنسجم مع إسلامهم ليعلموا هذه البديهة، ولكي لا تغيب عن بصائرهم ولا عن أبصارهم، هذه الأقنية تتلقى الأوامر إن بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، التي توحي وتأمر باتباع خطة ترمي إلى تمزيق الإسلام، وإلى تمزيق المسلمين، خلال صراعات تختلقها، أمور من أدق المسائل العلمية الخاصة بأهل الاختصاص، أمور علمية ما ينبغي أن نطرح إلا بين جدران يكون فيها المتخصصون الذين ينهلون عن علوم الإسلام ما يجعلهم أصحاب اختصاص، ما يرقى بهم إلى مستوى الاجتهاد، يؤتي بهذه المسائل العلمية الدقيقة لتطرح على الملأ، ولكي يدعى إليها المتحاورون من اتجاهات مختلفة شتى، ولكي يقال بشكل مباشر أو غير مباشر لعامة المسلمين ذكوراً وإناثاً على اختلاف مستوياتهم العلمية لعامة المسلمين: تعالوا فانظروا إلى إسلامكم، إن هو إلا صراعات بين مسائل وأفكار تافهة لا علاقة لها ببنيان اقتصادي للمجتمع، ولا علاقة لها بنسيج اجتماعي إيجابي أو سلبي للمجتمع، ولا علاقة لها بعلاج لحضارة مريضة، أو بسلم ترقى به الأمة إلى المستوى الحضاري الذي تحلم به. تعالوا فانظروا إلى إسلامكم، إن هو إلا صراعات حول مسائل تثير الضحك، وأي ضحك؟ ضحك يترجم الحزن والأسى في الفؤاد.
هذه الأقنية تلبي الطغيان الأمريكي والصهيوني لتنفيذ هذه الخطة، وللوصول بالمسلمين إلى هذه الغاية، ولكن هنالك يعالج بقية الأمة من هذا النظر مهما كان خطورته بادية، ومهما كانت آثاره السيئة قريبة، إنه الوعي الإسلامي، لو أن المسلمين قادة وشعوباً تمتعوا بالوعي الإسلامي الذي يهيب بيان الله عز وجل الأمة بالتمتع به دائماً، لو أنهم تمتعوا بهذا الوعي لبصقوا على هذه الأقنية، ولأعرضوا عنها، ولوضعوا كل أنشطتها التافهة تحت أقدامهم، ولما رعوها أي التفاف، وعندما تمتد خطوط ساخنة من الاتصال بها ينبغي ألا تكون هذه الخطوط إلا رسائل تعبر عن تفاهة هذه الأقنية وعن عمالتها، وتفضحها، وتمزق عنها رداء الغيرة الإسلامية الزائفة المكذوبة. لو أن المسلمين تمتعوا بالوعي الإسلامي الثاقب، إذن لاتخذوا هذا الموقف من القناة الأم التي تقود هذه الأقنية الأخرى في هذا السبيل ونهاية بهذه الأقنية الأخرى التي تتوالد كل يوم كما تتوالد الثآليل القذرة على الجسم السوي الصحيح.
إسلامنا أيها الإخوة كان ولا يزال جامعاً، فهل يمكن لهذا الإسلام ذاته أن يصبح اليوم مفرقاً، كان الإسلام لهذا اليوم جامعاً لأن الذين احتضنوه، احتضنوه عن وعي، احتضنوه عن رشد، تمسكوا منه بالجذع، ثم إن الأغصان الخلافية كانت كلها تأخذ غذاءها وسلطانها وتوجهاتها من هذا الجذع، ومن ثم فإنهم لم يقضوا عنه هذه الأغصان أي وقفة مفرقة، لم يقفوا من هذه الأغصان أي وقفة تثير شقاقاً أو تثير خصاماً، فضلاً عن أن تثير تفرقة بين الإخوة المؤمنين والمسلمين، ودونكم فتذكروا المذاهب الإسلامية ذات الاجتهادات المختلفة، هل أورثها ذلك الاختلاف إلا مزيداً من التلاحم؟ إلا مزيداً من الحب؟ إلا مزيداً من الألفة؟ لماذا؟ ذلك لأنهم كانوا يتمسكون بالمحور، والمحور ذلك هو الجذع الواحد.
أما اليوم فلأن الوعي الإسلامي قد غاب وانحصر وأصبح انتماء أكثر المسلمين قادة وشعوباً إلى الإسلام في أكثر الأحيان انتماءاً شكلياً، انتماءاً تراثياً، انتماءاً يذكر المسلمين اليوم بحضارة الآباء والأجداد بالأمس لأن انتماء أكثر المسلمين اليوم عاد إلى هذه الشاكلة التقليدية، وانحسر الوعي الحقيقي بالإسلام، فقد استطاع عملاء الطغيان الأمريكي والصهيوني أن يلعبوا بعقول المسلمين، وأن يجعلوا من هذه المسارح التي يدعون إليها عامة المسلمين على اختلاف فئاتهم واختلاف ثقافاتهم، استطاعوا أن يجعلوا من المسائل العلمية الفكرية العويصة الاجتهادية، مسائل يدعى إليها عامة المسلمين: تعالوا فانظروا إلى إسلامكم، إن هو إلا مجموعة أفكار متناقضة متصارعة، لا يمكن أن يخرج العاقل منها إلا مترنحاً، إلا تائهاً، إلا متطوحاً.
لما غاب الوعي الإسلامي السديد، وجد من تتبع هذه الأقنية فتأثر بها، وأنا اليوم أيها الإخوة؛ أهيب بكم أن تعودوا إلى معين الإسلام، فتنهلوا من الوعي إن لم تشاؤوا أن تنهلوا من معارفه الحقيقية، من جذعه الواحد الموحد، أقل ما ينبغي هو أن تتمتعوا منه بالوعي، وكتاب الله عز وجل معين لهذا الوعي، هل وقفتم أم هل وقف قادة المسلمين اليوم وقفة تأمل واعية عند قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 3/118-120] كتاب الله عز وجل من تأمل في معانيه حُصِّن بحصن من الوعي لا يستطيع مكر الماكرين ولا طغيان الطغاة أن يخترقه ليصل من ورائه إلى شيء مما يخترقه، ولكن الله هو المستعان أن يعيد هذه الأمة إلى معين وعيها السابق والثابت والثاقب، أجل أيها الإخوة.
أعود فأقول: علمت الدنيا كلها بالقادة والشعوب المسلمين، الملاحدة، العلمانيين، الحداثيين، التائهين في المبادئ والعقائد والمذاهب المختلفة الأخرى، هذه الدنيا كلها تعلم اليوم أن كلاً من الطغيان الأمريكي والصهيوني يسعى سعيه اللاهث للقضاء على شيء واحد ألا وهو الإسلام، لأنه علم أن الإسلام هو أخطر حصن يمنع هذا العدو الذي تحدث عنه بيان الله سبحانه وتعالى من أن يخترق هذا الحصن، طالما كان حصناً فعالاً، وطالما كان حصناً قوياً، وهو اليوم وإن لم يكن حصناً فعالاً، وإن كان كالإنسان الذي سقي مخدراً فنام في نوم غليظ طويل، ثقيل طويل، لكنهم يتصورون أن هذا النائم يوشك أن يستيقظ، وأن هذا الذي هيمن عليه المخدر يوشك أن يتمطى ويقوم، فيقود إلى مهامه، يعود فينفذ وصيته، هكذا قرأنا، هكذا قرأنا تقارير خفية كانت بالأمس ولم تعد خفية اليوم، عندما يعلم قادة المسلمين هذه الحقيقة ألا يقتضي المنطق والعلم والوطنية والدم الذي يفور غيرة على الأمة وعلى الحقوق، ألا يقتضي ذلك كله أن يعودوا إلى دينهم فيمسكوا به أكثر من تمسكهم بأي عصر مضى؟ ألا يقتضيهم هذا المنطق أن يعودوا فيصطلحوا مع الله من جديد، وأن يبايعوه بيعة جديدة على أن يكونوا حراساً لهذا الحصن الذي أعزهم اليوم، والذي هو مناط عزتهم اليوم أيضاً؟
ترى لماذا لا يعودون؟ لماذا لا يصطلحون مع الله من جديد؟ أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا ويعيدهم عوداً حميداً إلى ديننا الذي شرفنا الله عز وجل به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.