
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الشام محصنة ضد الفتن بطلبة العلم الشرعي
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعدُ فيا عبادَ الله:
لقد شاءَ اللهُ سبحانهُ وتعالى ببالغِ حكمته أن يفاوتَ بينَ الأزمنةِ في الفضل، كما شاءَ أن يفاوتَ بينَ الأمكنةِ أيضاً في الفضل. وللهِ عزَّ وجلَّ في ذلكَ حكمةٌ بالغة، هذا معَ العلم بأنَّ الأزمنةَ بحدِّ ذاتها لا تختلف، وبأنَّ الأمكنةَ أيضاً بحدِّ ذاتها لا تتفاوت، ولكنّهُ تجلٍّ من تجلّياتِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، يتّجهُ إلى بعضِ الأزمنة فتعلوا وتمتازُ عن غيرها، ويتّجهُ إلى بعضِ الأمكنة فتعلوا وتمتازُ هذه الأمكنةُ عمّا سواها.
ومن أفضلِ البقاع التي ميّزها اللهُ سبحانهُ وتعالى عن سائرِ بقاعِ الدنيا، أرضُ الشام. تلكَ التي نوّهَ البيانُ الإلهيُّ بفضلها، إذ قال: (سبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنها حوله).
تحدَّثَ البيانُ الإلهيُّ عنِ الأرضِ المحيطة بالمسجدِ الأقصى، ونبّهَ إلى البركة التي ميّزها اللهُ سبحانه وتعالى بها عمّا سواها، تلكَ هي الأرض التي قالَ اللهُ سبحانهُ وتعالى عن سيّدنا إبراهيم: (ونجّيناهُ ولوطاً إلى الأرضِ التي باركنا فيها للعالمين)، هيَ أرضُ الشّامِ هذه.
وانظروا أيها الإخوة إلى قولهِ: (وباركنا فيها للعالمين)، فهيَ ليست بركةً محصورةً لأهلها، وإنما هي بركةٌ متعدّيةٌ متجاوزة تشعّ بنورِ الهدايةِ والعرفان لسائرِ الوافدينَ إليها، ولا شكَّ أنَّ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم نوّهَ بأحاديثَ كثيرة عن فضلِ الشّام، بل تحدّثَ عن فضلِ دمشقَ هذه التي هي قلبُ الشام، ومن أصح ما وردَ في فضلِ الشّامِ قولُ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "بينا أنا نائم إذ استلبَ عمودُ الإسلامِ من تحتِ رأسي، فأتبعتهُ بصري فإذا هو نورٌ ساطعٌ في بلادِ الشام، ألا إنَّ الأمنَ والأمانَ عندما تكونُ الفتن: في الشام"، ولقد صحَّ عن المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ قوله: "فسطاطُ المسلمينَ يومَ الملحمةِ الكبرى على أرضٍ يقالُ لها الغوطة، إلى جانبها مدينةٌ اسمها دمشق، هي خيرُ منازلِ المسلمين يومَئذٍ".
ومن مظاهرِ هذه البركة التي نوَّهَ بها كتابُ اللهِ عزَّ وجل، ونبّهَ إليها سيّدنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم، أنَّ اللهَ عزَّ وجلّ جعلَ البلدَ الحرامَ مهوى قلوبِ المسلمين، وجعلَ الشّام مهوى عقولِ المسلمين، فإذا كانت عواطفُ المسلمين تتجه من مشارقِ الأرض ومغاربها إلى بيتِ اللهِ الحرام، لتكتحل بمرأى بيتِ اللهِ الحرام، فإنَّ عقولَ المسلمين مشرّقةً ومغرّبة، تتجهُ إلى بلادِ الشام لتنهلَ من علومِ الشريعة. لتنهلَ من معاني كتابِ الله سبحانهُ وتعالى، وجعلَ هذا معنىً من معاني قولِ اللهِ تعالى: (باركنا فيها للعالمين).
فهي ليست بركةً كما قلتُ لكم محصورة في أهل الشّام، وإنما هي بركةٌ تشعُّ بالعلم والعرفان، تشعُّ إلى العالمِ شرقهِ وغربه وشمالهِ وجنوبه.
وإنَّ من مظاهرِ هذه البركة، بل من مظاهرِ هذه المزيّة التي ميّزَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها شامنا هذه، بل هذه البلدة بذاتها: ما ترونهُ جميعاً، من أنَّ هذه الأرض غدتْ ملتقىً للمسلمينَ من أقطارِ الأرضِ جمعاء، تجدُ فيها من جاءَ من الصّين، من جاءَ من مختلفِ بقاعِ جنوب شرقيّ آسيا، تجد فيها من جاءَ من مختلف بقاع أفريقيا، تجد فيها من جاء من شمالِ أفريقيا، تجد فيها الوافدين إليها من أوروبا، ومن أمريِكا، كلّهم جاؤوا لغرضٍ واحد، جاؤوا ينهلونَ علوم الشريعة، جاؤوا يتعرّفونَ على دينِ الله سبحانهُ وتعالى، ولماذا إلى الشامِ دونَ غيرها؟ ولماذا ننظر فنجد أنَّ أرضَ الشّامِ غدت وعاءً لهذه العقول الجائعة، المتعطّشة لمعرفةِ دينِ اللهِ عزَّ وجل؟ هنالكَ السّر، جذبهم إلى هذه الأرض، إنّهُ البركة التي نوّهَ بها بيانُ اللهِ تباركَ وتعالى، إنّهُ المعنى الذي أوضحهُ لنا المصطفى صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلّم.
أقولُ هذا أيها الإخوة، لأهنئَ نفسي، وأهنئَ أهل الشام بهذه المزيّة، التي ميّزَ اللهُ سبحانهُ وتعالى بها هذه الأرض، وكرّرَ التّنبيهَ إلى ذلك في محكم تبيانه، ولا شكّ أنَّ السّبب الذي جعلَ الأمنَ والأمان يكونان موفورين في أرضِ الشام عندما تدلهمُّ الفتن، إنما سببُ ذلكَ هذا الذي أقولهُ لكم، كيف يمكن لأرضٍ تحتضنُ الوافدين الذينَ جاؤوا ينتجعون معرفةَ الدّين؟ جاؤوا عطاشاً ظامئين يريدونَ أن يتعرّفوا على كتابِ الله، يريدوا أن يدرسوا شريعةَ الله سبحانهُ وتعالى، كيفَ يمكنُ لهذه الأرض إذ تستقبلهم بتكريم، وإذ تحتضنهم، وإذ تهيّءُ لهم سبلَ المعرفة، وإذ تهيّءُ لهم طمأنينةَ العيش، كيفَ يمكنُ لهذه الأرض أن تغدوَ مكاناً للفتن؟ لا، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أرحمُ بأهلِ الشّامِ من ذلك.
هذا هو السّبب، أرأيتم إلى الأرض التي قضى اللهُ عزَّ وجلَّ أن يربّى فيها حبيبنا المصطفى رضيعاً، كيفَ غدت تلكَ الأرض التي احتضنت حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلّم مخضرَّةً يانعةً ممرعة بعدَ أن كانت قاحلة، لأنها حنت على المصطفى صلّى اللهُ عليه وسلّم، أرضُ الشّام هذه، التي شاءَ اللهُ سبحانهُ وتعالى أن تكونَ ملتقىً للوافدينَ لطلبِ العلم الشّرعيّ المقرِّب إلى الله عزَّ وجل، لا بدَّ أن يكافئَ اللهُ أهلها بهذا الذي قالهُ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلّم: "ألا إنَّ الأمنَ والأمان عندما تكونُ الفتن: في الشّام".
وانظروا أيها الإخوة إلى أهميّةِ طلبِ العلم، وإلى فضيلةِ طالبِ العلم، وإلى النّورِ الذي يشعُّ معهُ أينما وُجد وحيثما ارتحل. يروي أبو الدرداء عن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّهُ قالَ فيما رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجه وأبو داوود والبيهقيّ بأسانيدَ صحيحة: "من سلكَ طريقاً إلى العلم، سهَّلَ اللهُ بهِ طريقاً إلى الجنّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالبِ العلم رضاً بما يصنع".
وانظر إلى موقفِ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلّم ممّن جاءَ وافداً يطلبُ العلم، وانظروا كيفَ كان يوصي حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلّم باستقبالِ طالبِ العلمِ خيرَ استقبال، يقولُ صفوانُ بنُ عسّال رضي اللهُ عنه فيما رواهُ الإمامُ أحمد وابنُ حِبّان والحاكمُ في مستدركه: "جئتُ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم وكانَ متكئاً على بردٍ لهُ أحمر، فقلتُ لهُ: يا رسولَ الله جئتُ أطلبُ العلم"، فقال: "مرحباً بطالبِ العلم، مرحباً بطالبِ العلم، إنَّ الملائكةَ لتحفُّ بأجنحتها طالبَ العلم".
وانظروا أيها الإخوة إلى هذا الذي يقولهُ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلّم مؤكّداً لهذه الحقيقة فيما يرويهِ أبو أمامة عن المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنّهُ قال: "فضلُ العالمِ على العابد، كفضلي على أدناكم، وإنَّ الملائكةَ وأهلَ السّماواتِ وأهلَ الأرض، حتّى النّملةَ في جحرها، وحتّى الحيتان، لتصلّي على معلِّمِ النّاسِ الخير".
فليهنأ أهلُ الشّام، الذينَ شاءَ اللهُ عزَّ وجلّ أن يوفِدَ لهم أو إليهم هؤلاء الظّامئونَ لدراسةِ الدّين، هؤلاء الظامئون لدراسةِ الشّريعة، ليهنؤوا باستقبالهم لهم، وبتعليمهم الخير الذي جاءَ بهِ كتابُ اللهِ سبحانهُ وتعالى، والذي جاءت بهِ سنّةُ المصطفى صلّى اللهُ عليه وسلّم.
بلادُ الشّامِ هذه، كانت ولا تزالُ إن شاءَ الله وبحمدِ الله تستقبلُ هؤلاءِ الوافدين، على ثلاثِ درجاتٍ من التأكيد، تقدّمُ لهُم المعونةَ المادّيّة، ليعيشوا مطمئنينَ آمنين، لا يهمهم إلا أن يتّجهوا بأفكارهم إلى الشّريعةِ التي جاؤوا ليتعلّموها، وتتفتَّحُ لهم أبوابُ المعاهدِ الشّرعيّة لتقولَ لهم مرحباً كما قال المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "مرحباً بطالبِ العلم"، وتيسّرُ لهم الدّولة الإقامةَ الآمنةَ المطمئنّة، كلٌّ يعبّرُ بهذا عن ترحابهِ سيراً وراءَ حبيبنا المصطفى، واتّباعاً لترحيبِ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلّم بهؤلاء الذين شاءَ اللهُ أن يميّزَ أهل الشّامِ بهم.
وهنا أقولُ لكم شيئاً: أعلمهُ وأعلمُ دلائله، عرفَ ذلكَ من عرف وجهلَ ذلكَ من جهل، إنَّ هذه الشّام محصّنةٌ ضدَّ الفتن، وضدَّ كلِّ الخطط التي يرمي بها أعداءُ اللهِ سبحانهُ وتعالى إلى الإساءةِ لأهلها، شامُنا هذه محصّنةٌ بحصنٍ غيرِ مرئيّ، وهوَ أجلُّ وأهمُّ بكثيرٍ من كثيرٍ من الحصونِ المرئيّة، أتعلمونَ ما هو هذا الحصن؟
إنّهُ الحصنُ الذي يتمثّلُ في هذا الذي قلتهُ لكم، عندما شاءَ اللهُ عزَّ وجلّ أن تكونَ هذه الأرضُ مباركةً، وعندما جاءَ تفسيرُ البركةِ هذه بهذا الذي قلتهُ لكم، جعلها اللهُ منتجعاً لطلبِ العلم، جعلها اللهُ معيناً للظامئينَ لدراسةِ الشّريعة، جعلها اللهُ معيناً للوافدينَ المتشوّقين إلى معرفةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، ثمَّ إنَّ هذه البلدةَ أخذت تفيضُ وتفيضُ وتفيض، بهؤلاءِ الشّباب الذينَ رحلوا تاركينَ أوطانهم، تاركينَ أهليهم، تاركينَ ربّما زوجاتهم، تاركينَ دنياهم، ليعانقوا دينَ الله متعلّمين، وليجدوا الأملَ المزدهر في هذه البلدة.
بلدةٌ تستقبلُ هؤلاءِ الوافدين، وتعطيهم الحقائقَ التي جاؤوا من أجلها، لا يمكن أن تتسرّبَ إليها الفتن، هذا هو الحصن الغيرُ المرئيّ، وإنّي لأسألُ اللهَ عزَّ وجلّ أن يبقى هذا الحصنُ قائماً، وإنّي لأحذّر من أن يُزهَقَ هذا الحصن فتتسرَّبَ الفتن، ولقد كانت شامنا هذه ولا تزالُ بحمدِ الله سبحانهُ وفضله مكلوءةً بعينٍ متميّزة من عنايةِ الله عزَّ وجلّ، وأقولُ باسمي وباسمِ أهلِ الشّامِ جميعاً على جميعِ المستويات، ما قالهُ المصطفى صلى الله عليه وسلّمَ لصفوانَ بنِ عسّال رضي اللهُ عنه، أقولُ لخلفائه مرحباً بطلبةِ العلم، مرحباً بطلبةِ العلم، مرحباً بطلبةِ العلم الشّرعيّ. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم.