
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


أهمية التربية الدينية في المجتمعات الإسلامية
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
ليس في الدنيا كلها من لا يثني على الأخلاق الإنسانية الفاضلة ويتبرم بالأخلاق السيئة المرذولة. ليس في الدنيا كلها من لا يعجبه الصدق ومن لا يحذر من الكذب. ليس في الدنيا كلها من لا يدعو إلى الإخلاص ويحذر من النفاق. ليس في الدنيا كلها من لا يُعجب بالنصح ويحذر من الغش والخداع. ليس في الدنيا كلها من لا يُعجب بالاستقامة في السلوك ويحذر من الانحراف والفساد. تلك هي حقائق الأخلاق الإنسانية الفاضلة وما يقابلها من الأخلاق المرذولة السيئة. ولكن ما هي الضمانة التي يمكن أن يتجمل بها الإنسان بالأخلاق الفاضلة؟
الضمانة الوحيدة أيها الإخوة لتجمل الإنسان بالأخلاق الإنسانية الفاضلة شيءٌ واحد ألا وهو التربية الإسلامية إذ يتلقاها الإنسان منذ نعومة أظفاره حقائق علمية تغرس في ذهنه ومشاعر عاطفية ووجدانية تهيمن على فؤاده. تلك هي الضمانة لتحقيق الأخلاق الإنسانية الفاضلة الحميدة التي عليها تنتهض المجتمعات الإنسانية الفاضلة والتي بها يتعاون أفراد المجتمع الإنساني فيسيرون إلى الحق ويسعدون في دنياهم وآخرتهم. لا ضمانة لتحقق الفرد والمجتمع بالأخلاق الإنسانية الفاضلة إلا عن طريق الدين، وإنما يكتسب الإنسان الدين عن طريق التربية إذ يتلقاها كما قد قلت لكم منذ نعومة الأظفار إلى أن يتمكن من حقائق الدين وإلى أن يتشبع بمحبة الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، ومن ثم يجعل من الأخلاق الإنسانية الفاضلة ديدناً له.
وإنكم لتعلمون أنه حتى الملحدون التائهون عن صراط الله عز وجل وحقائق هذا الدين يقدرون الأخلاق الإنسانية المثلى، ولو أن واحداً من الملاحدة احتاج إلى أن يوظف عاملاً له ليضعه على صندوقه أو ليسلمه أمراً خطيراً من ممتلكاته إنما يبحث عن إنسانٍ صادقٍ في تدينه قد تلقى التربية الدينية المثلى منذ نعومة أظفاره، ولا يعجبه إلا أن يستعين بمثل هذا الإنسان، وهو رجلٌ ملحد نظرياً عندما يناقش ويجادل. فعلامَ تدل هذه الظاهرة؟
تدل على أن المجتمع الإنساني مهما تقلب ومهما تطور لا بد أن يظل بحاجة ماسة إلى الأخلاق الفاضلة، والأخلاق الفاضلة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الدين، والدين لا يتم غرسه في كيان الإنسان إلا عن طريق التربية الدينية المثلى إذ يتلقاها كما قلت لكم من المهد بدءاً من نعومة أظفاره.
وأقول لكم بحقٍ أيها الإخوة: إن البوابة الوحيدة التي ينبغي أن يجتازها الإنسان إلى سائر العلوم والمعارف المفيدة المختلفة إنما هي بوابة الدين، ومن ثم فهي بوابة التربية الدينية. كل العلوم التي يتلقاها الإنسان أو التي ينبغي أن يقبل إليها الإنسان كلها علومٌ مفيدة وكلها مما ندب إليها الإسلام وأمر بها، ولكن لا يمكن لهذه العلوم أن تفيد أصحابها وأن تفيد المجتمع الذي تزدهر فيه هذه العلوم إلا إذا اجتازه الناس عبر بوابة التربية الدينية، وإلا فإن العلوم ما أيسر أن تتحول إلى قنابل موقوتة إلى أسبابٍ للدمار، إلى وسائل للإفساد، إلى وسائل للغش والخداع، العلوم أسلحة ذات حدين. ورحم الله العلماء الذين قالوا: زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً ازداد مرارة.
هذه الحقيقة أيها الإخوة لا يجهلها عاقلٌ قط، ومن ثم أهاب بنا بيان الله سبحانه وتعالى في أكثر من موقف في كتابه المبين أن ننهض بواجب التربية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمرنا أن ننشئ الجيل في ظلال معرفة الله، في ظلالٍ من محبة الله عز وجل، أمرنا كتاب الله سبحانه وتعالى أن نلقن الفرد منذ أن تتفتح عيناه على هذه الحياة الدنيا، أمرنا أن نلقنه حقائق هذا الكون التي تتوج بحقيقة واحدة ألا وهي وجود الخالق سبحانه وتعالى. أمرنا أن نوجه أفئدة هؤلاء الأفراد إلى محبة الله، إلى تعظيم الله، إلى المهابة من الله سبحانه وتعالى، وجماع ذلك كله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك هو محور التربية )وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[.
المجتمع الذي تجتمع فيه هذه التربية هو المجتمع المفلح، هو المجتمع المتماسك، هو المجتمع الذي لا يمكن لخطط البغي أن تخدعه، لا يمكن لخطط الطغيان أن تهيمن عليه بشكل من الأشكال. وقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عالمٍ وعابد فقال: )فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم[ ثم قال له عليه الصلاة والسلام: )إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النمل في جحره وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير[ أي ليدعون لمعلم الناس الخير أي للمربي.
ترى لماذا كانت هذه الأهمية القصوى لمن يقوم بواجب التربية الإسلامية ينتشل بها الجيل من وهدة الضياع؟ يرفع بهذه التربية الجيل إلى مستوى الصعيد الذي يضمن للفرد وللمجتمع السعادة فيم كانت هذه الأهمية القصوى؟ الأهمية القصوى تكمن في أن هذه التربية هي المفتاح الذي يوصل الأمة إلى كل خير. هذه الأهمية تكمن في أن التربية الإسلامية هي كما قلت لكم البوابة التي لابد منها للاجتياز إلى سائر المعارف، للاجتياز إلى سائر العلوم التي ينبغي أن يتجمل بها المجتمع وينبغي أن يرقى إليها الأفراد، بوابة هذه المعارف والعلوم الوحيدة إنما هي التربية الإسلامية، ألا ترون إلى العلوم والمعارف التي يقفز إليها كثير من الناس اليوم كيف تتحول إلى أسباب للدمار؟ كيف تتحول إلى أسباب للفساد، للتخريب، للخداع والعلوم هي هي؟ لماذا؟ لأن هؤلاء الذين قفزوا إلى هذه العلوم لم يمروا إليها إلى هذه العلوم عبر بوابة التربية الإيمانية التربية الإسلامية المثلى.
أيها الإخوة الأمة الإسلامية اليوم تذهب ضحية الخداع، تذهب ضحية الغش، عندما ننظر إلى العدو الأرعن الذي رفع لواء الطغيان فوق رأسه يتهم إسلامنا بما هو بريء منه، يتهم حضارتنا الإسلامية بما هي بريئة منه، يشوه ويغير ويزيف، ترى لو أن التربية الإسلامية المثلى كانت موجودة وكان الجيل المسلم يتلقاها منذ نعومة أظفاره كما ينبغي في سائر مؤسساتنا التربوية، أفكان من الممكن أن ينطلي هذا الغش، هذا الخداع من أعداء هذه الأمة الإسلامية على المسلمين؟! أفكان لهذا الغش والخداع أن ينجح عندما يسري إلى أفكار المسلمين، يتهم الإسلام بالإرهاب، يتهم الإسلام بالجنوح، يتهم الإسلام بالتخلف، تتهم الحضارة الإسلامية بأنها حضارة بائدة ينبغي أن نبني على أطلالها حداثة جديدة؟ ما الذي يجعل الجيل الصاعد يتسقبل هذا الزيف الكاذب بجهالة تجعله يتطوح لا يدري ماذا يقول لا يدري بماذا يجيب؟
السبب أن هذه الأجيال لم تتلق التربية الإسلامية المثلى علماً يُغرس في العقول وعاطفة ووجداناً يهيمنان على النفوس. لو أن هذه التربية كانت قد تحققت لما استطاع أفانين الغش أن تسري إطلاقاً إلى مجتمعاتنا ولمزقها العلم الذي جاء عن طريق التربية، لمزقها شر ممزقٍ أيها الإخوة.
أقول لكم هذا الكلام وأركز على هذا المعنى لسبب، ألا وهو أن هذا العدو الأرعن الذي رفع فوق رأسه لواء الطغيان آتياً من وراء العالم المعمور ليقتنص الحقوق ويحطم المبادئ وليهيمن على الأوطان، يريد الآن أن يتجاوز ذلك كله ليستلب القيم وليستلب المبادئ نعم، لأن هذه القيم هي التي تقض مضجعه، ولأن المبادئ التي جعلت لهذه الأمة عز تليداً يزعن له التاريخ ويخفض الدهر رأسه له، هذه الأمة إنما اكتسبت هذا المجد إنما نسجت لها هذه الحضارة عن طريق هذه المبادئ، مبادئ هذا الدين الحق الذي توج الله عز وجل به رأس هذه الأمة، هذا العدو الأرعن يريد الآن أن يمتلخ هذه المبادئ وهذه القيم من رؤوس أفراد أمتنا الإسلامية والعربية كيف؟ كيف السبيل إلى ذلك ما هو معين مبادئنا الدينية؟ التربية. ما هو معين إسلامنا الحق الحنيف؟ التربية. ما هو معين إسلامنا الحضاري؟ التربية. ما هو معين أخلاقنا الراشدة؟ التربية. إذاً ينبغي أن تمتلخ التربية، ينبغي القضاء عليها.
أن يطغى هذا العدو فيطمع بأرضٍ يمتلكها، يحصل هذا ثم إن الله سبحانه وتعالى ينتقم، وأن يطمع العدو فيسيل لعابه على كنوز في أرضٍ هنا وهناك، يحصل هذا ثم إن الله سبحانه وتعالى ينتقم منه لكن أن يحاول هذا العدو أن يسير وأن يتجه خطوة إثر خطوة إثر خطوة إلى أن يستلب من هذه الأمة دينها، فهذا شيء جديد في التاريخ.
وأقول لأمتنا الإسلامية الراشدة كل شيءٍ جلل إلا أن تمتد اليد إلى ينابيع ديننا، إلا أن تمتد اليد إلى ينابيع تربيتنا الإسلامية المثلى، ماذا بقي لنا؟ كل عز نعتز به إنما مصدره هذا الدين، ومن أين جاء نسيج الدين؟ كيف ارتدى الفرد المسلم لبوس هذا الدين واعتز به؟ عن طريق التربية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.