مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/12/2003

السبيل إلى محبة الله عز وجل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


سؤالٌ ينبغي أن يخطره المسلم على باله وهو يتجه بسلوكه إلى مرضات الله سبحانه وتعالى، أيهما يقود المسلم إلى الآخر الحب يقود المسلم إلى طاعة الله عز وجل أم طاعة الله سبحانه وتعالى تقوده إلى محبته؟ سؤالٌ ينبغي أن يخطره كل مسلمٍ على فكره وأن يتبين الجواب منه ليعلم كيف السبيل الموصل إلى الله هل الحب هو السبيل إلى طاعة الله؟ أم طاعة الله عز وجل هي السبيل إلى محبته؟


الحق أن محبة الله عز وجل هي السبيل إلى طاعته سبحانه وتعالى، فمن كان قلبه فارغاً عن محبة الله عز وجل لن يجد سبيلاً يدفعه إلى طاعته. ويخطئ من يتصور العكس فيقول: إن طاعة العبد لربه عز وجل هي السبيل إلى محبته. إذا لم تكن محبة الله عز وجل مهيمنة على القلب فلن يقوى العبد على الصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى، لن يقوى على الثبات على تنفيذ أوامره، ولن يقوى على الثبات على الابتعاد عن النواهي التي حذره الله سبحانه وتعالى منها.


وهكذا فمحبة العبد لربه هي المحور وهي الأساس وهي المنطلق، ولكن العبد لابد أن يسأل عندما يسمع هذه الحقيقة فكيف السبيل إلى أن تُغرس محبة الله عز وجل في القلب حتى تقوده المحبة إلى الطاعة؟


سبيل محبة العبد لربه سبحانه وتعالى أيها الإخوة أن يتذكر النعم الكثيرة التي لا تحصى والتي يغدقها الله سبحانه وتعالى على عباده صباح مساء وفي سائر التقلبات والأحوال، فإذا تنبه العبد إلى نعم الله عز وجل المتواصلة المتنوعة والمختلفة التي تتوالى عليه وربط هذه النعم بالمنعم اهتاجت محبة الله سبحانه وتعالى في قلبه - ولا أقول وجدت - لأن محبة العبد للرب موجودة حتى ولو كان هذا العبد من أفسق الفاسقين، بل حتى لو كان هذا العبد من التائهين الملحدين، ولكنها قد تكون راقدة وإنما يوقظها تذكر نعم الله سبحانه وتعالى ثم ربط هذه النعم بالمنعم.


فتعالوا أيها الإخوة نوقع محبة الخالق عز وجل بين جوانحنا عن طريق التنبه إلى هذه النعم الكثيرة والتي لا تحصى والمتنوعة والتي لا تنقطع عن عباده أياً كانوا وكيف كانت أحوالهم، عندئذٍ إذا تذكرنا هذه النعم وربطناها بالمنعم سبحانه وتعالى وثبتنا على هذا النحو فلا شك أن القلب يتحول عندئذٍ إلى وعاءٍ لحب واحدٍ لا ثاني له، ألا وهو حب هذا المنعم جل جلاله.


يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم )أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني لحب الله عز وجل إياي[.


انظروا إلى نعم الله أيها الإخوة. انظروا إلى هذه النعمة التي تهمي من سماء الله سبحانه وتعالى والتي لا تنقطع وقارنوا بين ما يصل من الله إلينا من نعمه وهذه واحدة منها وبين ما يرقى من عندنا إلى الله سبحانه وتعالى من واجب شكره، من واجب العمل على تحقيق عبوديتنا له، قارنوا بين هذا وذاك تجدون أمراً يُخجل، تجدون أن واقع أكثر المسلمين اليوم يجعل الإنسان يذوب خجلاً من موقفه من الله عز وجل ومن معاملة الله سبحانه وتعالى له.


انظروا إلى واقع المسلمين اليوم في أي قطر من أقطارهم وفي أي بلدة من بلادهم، انظروا إلى واقع المسلمين في أكثر فئاتهم بدءاً من قادتهم وحكامهم إلى الفئات الأخرى التي تعيش في رحاب أرض الله سبحانه وتعالى، الغفلة هي السائدة والإعراض عن الله عز وجل هو الأمر المستمر، بل إن الأمر ليزيد على ذلك في كثير من الأحيان، الاستخفاف بحرمات الله، الاستخفاف بشرائع الله، الامتهان بشعائر هذا الدين العظيم. هذه هي الحال المتغلبة والتي يتقلب فيها المسلمون اليوم.


ولكن انظروا إلى معاملة الله عز وجل لعباده هؤلاء! هل انقطعت نعمة من نعمه سبحانه وتعالى عنا؟! هل انقطع فضلٌ من فضل الله سبحانه وتعالى عنا؟! هذه النعمة التي تهمي من سماء الله عز وجل ستعانق عما قريب النعم المختلفة التي تتفجر من أرضكم هذه أرزاقاً متنوعةً كثيرة مختلفة كلها تتجلى وتتفجر من هذه الأرض التي سخرها الله سبحانه وتعالى لكم وعما قريب يتقلب هذا الإنسان في هذه النعم المختلفة المتنوعة التي لا تحصى ينعم بأكلها، ينعم بشرب ما يُشرب منها، يتفكه بما يتفكه به منها، يتقلب منها في سعادةٍ لا توصف.


ولا يزيده ذلك إلا إعراضاً عن الله ولا يزيده ذلك إلا غفلةً عن الله سبحانه وتعالى، فهل تنقطع نعم الله عز وجل عن عباده بسبب ذلك لا تنقطع. تلك هي سنة الله عز وجل في عباده آل على ذاته العلية أن يكرمهم وأن لا يقطع إكرامه عنهم، آل ربنا عز وجل على ذاته العلية أن يعطيهم ولا يقطع عطاؤه عنهم، آل مولانا الأعز الأكرم أن يبقي مائدته مبسوطة مليئة بالنعم الكثيرة التي لا تحصى، وآل على ذاته العلية أن تبقى أبوابه إلى هذه المائدة مفتحةً لا تُغلق )كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورً[.


ألا يخجلكم هذا أيها الإخوة؟! أما ينبغي للعبد وهو يتأمل فيرى هذا الأمر العجيب كيف يعامل الله عز وجل لو أن الإنسان ربط هذه النعم بخلاقها بمنزلها بالمتفضل علينا بها وهو جالس لا يتحرك لا يرحل من مكان إلى مكان لانقدح من جراء ذلك حب المولى بين جوانحه ولفاض شعور من العشق لا أقول من الحب لهذا الإله المتفضل الوهاب المعطي، أفيعجزكم هذا!؟ أفيعجزكم أن تكونوا جالسين في بيوتكم لا تتحركون لكن توجهون قلوبكم إلى الله بهذا الشعور، بهذا التذكر، أفيعجز العبد أن يتذكر مولاه وخالقه، أن يستجيب لنداءه الحلو العذب الأخاذ )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[.


هذا هو السبيل إلى أن تستيقظ محبة الله عز وجل بين جوانحنا، فإذا استيقظت هذه المحبة قادت أصحابها إلى الطاعة، قادت أصحابها إلى السير الحثيث إلى مرضاة الله، سار العبد عندئذ إلى الله وهو يقول: وعجلت إليك ربي لترضى ... وعجلت إليك ربي لترضى.


بالأمس أيها الإخوة الدابر كيف كانت حالتنا؟ ذكرنا الله عز وجل بالبلاء لو أراد أن يبتلينا به جفت الأرض، جفت الينابيع، تراجعت الأرزاق، أطلت النكبات برؤوسها علينا، ولكن الله عز وجل تدارك عندما طرق المسلمون بابه طرقات ذل، طرقات اعتراف، طرقات تجديد بيقينٍ بالله سبحانه وتعالى أبدل الله عسرنا يسرا، أكرمنا الله سبحانه وتعالى بما غاب عنا لمدة قصيرة تنبيهاً لنا لا قطعاً للرفد، والتنبيه نعمةٌ من أجل النعم التي يكرم الله سبحانه وتعالى بها عباده ألا نشكر الله؟ ألا نشكر الخالق؟


وعندما أقول: ألا نشكر الله لا أتوجه بكلامي هذا إليكم أنتم فقط ولا إلى أمثالكم الذين تفيض بهم المساجد، لكنني أتوجه بهذا الكلام إلى عباد الله المؤمنين به الذين يرفعون فوق رؤوسهم شعارات الإيمان بالله عز وجل وأولهم قادة المسلمين، ألا ينبغي أن يكونوا هم أئمتنا في شكر الله، في حمد الله؟ أما ينبغي أن يكونوا هم قادتنا في إيقاظ محبة الله عز وجل بين الجوانج، أما ينبغي أن يكونوا هم السباقين إلى التأمل في قول الله عز وجل )وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[.


وما بكم من نعمة لاحظوا الاستقصاء في هذه العبارة، ما بكم من نعمة تخيل تخيل أي نعمة يكرمك الله عز وجل بها. اعلم أيها العبد أنها لم تأتك من شرق وغرب وإنما جاءتك من لدن الكريم الأوحد خالقك، مولاك جاءتك من عند الله سبحانه وتعالى )ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ[ إليه تجأرون ليكشف الضر عنكم، أليس كذلك؟  وكشف الضر بل التجاؤك إلى الله نعمة أخرى، التجاؤك إلى الله في أن يكشف عنك الضر ثم يستجيب الله عز وجل لدعائك نعمة من أجل النعم، ومن ثم فنعم الله عز وجل ظاهرة وخفية.


وهذه الحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نتبينها وينبغي أن نعرفها والحل عندئذٍ سيكون سهلاً لكل من يسأل، كيف أستسهل الصعب الذي كلفني الله عز وجل به؟ كيف أسلك الطريق إلى الله وهو طريق شاق يحتاج إلى صبرٍ ومعاناة؟


إنك تسأل هذا السؤال لأنك توجهت إلى طاعة الله قبل أن يوجد الوقود اللازم بين جوانحك، الوقود المحرك والوقود المحرك هو الحب، حب الله سبحانه وتعالى، أيقظ محبة الله بين جوانحك وسبيل ذلك سهل كما قلت أن تربط نعم الله عز وجل بذاته العلية، أن تعلم من أين جاءتك هذه النعمة صغرت أو كبرت، خاصةً كانت أو عامةً، اذكر أنها جاءتك من عند الله عز وجل والقاعدة تقول: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، عندئذٍ تستيقظ محبة الله عز وجل بين جوانحك وتهتاج مشاعر حبك له في قلبك فتندفع إلى طاعته، عندئذٍ ستستسهل الصعب ولسوف تجد الطريق الطويل قصيرا، محبة الله عز وجل هي التي تقرب البعيد وتلين الحديد وتقيم الاعوجاج وتصلح الحال وتزيل كل أسباب الفساد.


ويحكم والله إن ربنا هو الذي يُعشق وهو الذي يُحب، أسأله سبحانه أن يجعل أفئدتنا أوعيةً لحبه، لا لأي حبٍ آخر وأسأله سبحانه أن يذيق قادتنا وحكامنا لذة هذا الحب، اللهم أذقهم لذة حبهم لك، اللهم طهر قلوبهم من الشوائب والأدران، اللهم مزق الحجب مما بينك وبينهم ومزق الحجب المسدلة بيننا وبينك حتى لا نرى في هذا الكون غيرك، حتى لا نرى منعماً إلاك، حتى لا نرى متفضلاً سواك.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي