مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/11/2003

إياكم والملل .. الأمور بخواتيمها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يبدو أن أكثر المسلمين الذين يحتفلون بقدوم شهر رمضان المبارك إنما يحتفلون بمقدمه ويستقبلونه كما يستقبل إنسانٌ جائعٌ اشتاق إلى طعامٍ بعينه، فلما رآه على المائدة أقبل إليه إقبال النهم المشتاق حتى إذا تناول منه لقيمات بدأ يتبرم منه وبدأ يمل، وبعد قليلٍ أعرض عن الطعام وقام وأدبر عنه ناسياً.


يُخيل إلي أن استقبال كثيرٍ من المسلمين لشهر رمضان المبارك إنما هو استقبال مزاجي من هذا القبيل تماماً، إذا أقبلت الليالي الأولى منه فاضت المساجد بالمصلين وتزاحم الناس وربما لم يبق لهم مكان، ثم إن العدد يقل والازدحام يتراجع ولا يزال يتراجع، حتى إذا أقبل العشر الأخير منه وهو أفضل ما في هذا الشهر المبارك وفيه تُتوقع ليلة القدر التي هي خيرٌ - كما قال الله سبحانه وتعالى - من ألف شهر، تنظر إلى المساجد وإنها لتكاد تصبح فارغة. المسألة ليست مسألة إقبالٍ على الله عز وجل بسائق من العبودية وبسائق من الرغبة في الاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى، وإنما هو موسم اشتاق إليه الناس بعد غياب عام فأقبلوا إليه إقبال الإنسان الذي حُرم من مظهر من المظاهر كان قد اشتاق إليها وله فيها ذكريات ربما، ثم إنه بعد ذلك يمل ويزداد الملل، ويعود فيعرض بعد أن كان مقبلاً ومشتاقاً.


أيها الإخوة إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن القلب فارغٌ عن الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن هؤلاء الناس لا يبتغون فيما يقدمون عليه مرضاة الباري والخالق سبحانه وتعالى. ها هو ذا العشر الأخير من هذا الشهر المبارك قد أقبل وكان من المفروض أن يكون الناس أكثر إقبالاً إلى مرضاة الله عز وجل وإلى قيام هذا الشهر في هذا العشر الأخير منهم في أوائله، ولكنك لدى المقارنة تنظر فتجد ما يؤسف له مما ذكرته لكم ومن الشبه الذي عقدته بين هذا الأمر وبين ما يُخيل إلي أنه حقيقةٌ واقعة. العشر الأخير فيه الليلة التي تحدث عنها بيان الله عز وجل في سورة مستقلة  )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(.


تأملوا في هذا الوصف الرباني لهذه الليلة وتأملوا في قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) . هل تصورتم خطورتها وأهميتها؟ المظنون أنها تكون في هذا العشر الأخير ولقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" وفي روايةٍ: "غُفر له ما تقدم من ذنبه وتأخر". وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة ابن الصامت قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال (التمسوها في ليلة الواحد والعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبعٍ وعشرين أو تسعٍ وعشرين أو آخر رمضان من قامها احتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أي غُفرت له ذنوبه كلها.


وقيام هذه الليلة أقله يتم بحضور صلاة التراويح كاملة في المساجد، أما أتمه فهو أن يجافي نفسه عن مضجعه في تلك الليلة وأن يقبل إلى مولاه وخالقه سبحانه وتعالى مستغفراً آيباً نادماً يطرق باب الرضى الإلهي، يطرق باب الصفح، أن يصفح مولاه عن ذنوبه كلها.


وفي الناس من يتصورون أن ليلة القدر محصورة ومخبوءة في ليلة السابع والعشرين وهي رقية من رقى الشيطان أيها الإخوة، هذا الهاجس استقر في أذهان كثير من  الناس لكي يعرضوا عن الإقبال إلى الله عز وجل في الليالي الأخرى ظناً منهم بأن ليلة القدر محصورةٌ في ليلة السابع والعشرين إذاً لا داعي إلى أن نحتفي بها في ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين، بل إن في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن شهر رمضان كله مظنة لهذه الليلة المباركة ولقد أخفاها الله عز وجل عنا لحكمة من أجل أن يتصيدها الإنسان في كل ساعة من ساعات هذا الشهر المبارك، أخفاها الله ولكن في الناس من نسخوا هذا الإخفاء الإلهي بإعلانهم أنها في ليلة السابع والعشرين حصراً، إذاً فما معنى إخفاء الله سبحانه وتعالى لها؟ هذا شيء.


شيءٌ آخر يتسرب به التائهون عن صراط الله سبحانه وتعالى ويدسه الحاقدون على دين الله عز وجل وأسأل الله عز وجل لنا ولهم الهداية، يقول أحدهم: لو كان هذا الكلام صحيحاً ولو كان هذا الأمر نازلاً من عند الله عز وجل إذاً لتاه الناس في حقيقة ليلة القدر، لأن الليلة التي هي ليلة الحادي والعشرين من رمضان هنا ربما كانت بياض نهارٍ يتلألأ في مكانٍ آخر، ومن ثم فكيف يصدق أن تكون ليلة القدر في العالم كله في ميقات واحد في حين أن الليالي والأيام تتوازعها الكرة الأرضية، وهذه حقيقة معروفة.


هذا الكلام يدسه بعض التائهين أيها الإخوة فاسمعوا الجواب وتبينوه: هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام يُخيل إليهم أن فضل هذه الليلة نابعٌ من طبيعتها، نابعٌ من تلك الساعة التي نرصدها والتي يكون الوقت فيها ليلاً أو أن يكون الوقت فيها نهاراً أو غير ذلك، يُخيل إليهم أن سر هذه الليلة نابعٌ من طبيعة الزمن، من طبيعة الشمس أو الهلال الذان يسريان في ملكوت الله عز وجل فهل الأمر كذلك؟


الأزمنة كلها واحدة والأمكنة كلها واحدة، أرض عرفة من حيث الطبيعة كأي أرضٍ من أرض الله الواسعة في جنبات الأرض، لا فرق ولكن المكان يفضل في تجليات الله عليه والأزمنة تفضل في تجليات الله سبحانه وتعالى عليها. فعندما تكون ليلة الحادي والعشرين مثلاً في هذه المنطقة من بلاد الله الواسعة في ساعة محددة معينة من هذا الشهر المبارك، فإن الله عز وجل يتجلى على أهل تلك المنطقة في تلك الساعة فيتوب عليهم ويغفر لهم ويصفح عنهم، وعندما تصبح هذه الليلة ذاتها في مكان آخر بعد ذلك في ساعات يتجلى الله عز وجل عليهم هناك في تلك الساعات ذاتها، مصدر الفضل من عند الله عز وجل وليس مصدره نابعاً من الأرض وليس نابعاً من طبيعة الأرض، ولكن الجهل يُعمي، ولقد عرفتم أن الإلحاد لم يكن مصدره في يوم من الأيام إلا مرضاً هو مرض الجهل أو المرض العقد النفسية المتنوعة المختلفة فتبينوا الجواب واعرفوه.


الأمكنة كلها في طبيعتها متساوية ولكن الله يتجلى على من يشاء منها بفضلٍ منه وإحسان، والأزمنة كلها بالمعنى الفلكي واحدة ولكن الله عز وجل يتجلى في الوقت الذي يشاء منها على عباده في أي بقعة من البقاع، فليلة القدر قد تكون ليالي شتى متوازعة منقسمة في جنبات الأرض.


أيها الإخوة ينبغي أن أعود فأبين لكم إن الأمور بخواتيمها وإذا أقبلنا نحتفي بهذا الشهر المبارك فما ينبغي أن يكون إقبالنا إليه كإقبال إنسانٍ نهمٍ اشتاق إلى طعام حتى إذا تناول منه لقيمات وشعر بالشبع أعرض منه وقام عن المائدة لا إنما نعبر عن احتفالنا بهذا الشهر المبارك، نعبر بذلك عن إقبالنا إلى الله، عن سيرنا إلى الله، والرحلة إلى الله مستمرة، الرحلة إلى الله لا تنقطع (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ) وما اليقين أيها الإخوة؟ اليقين هو الموت، سر إلى الله، ضع منهاج الرحلة بينك وبين الله عز وجل لا تمل نعم (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).


لا تتراجع إياك لعل قائلاً يقول ما الحادِ الذي يشدني إلى الرحلة؟ ما السائق الذي يدعوني إلى الاستمرار؟ السائق أو الحادي منهاج الرحلة الذي بين يديك لعلك لا تعلم أو لعلك نسيت أنت سائر إلى الله ستموت غداً والموت ليس عدماً، الموت يضعك في دهليزٍ بين يدي حساب الله سبحانه وتعالى، والقبر سيكون انعكاساً لطبيعة رحلتك إلى الله فإن كانت رحلة إقبال كان القبر روضة من رياض الجنة، وإن كانت رحلتك إلى الله رحلة إعراضٍ وتأففٍ وتبرمٍ بأوامره فاعلم أن قبرك سيكون حفرة من حفر النار كما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وإياكم أن تتأثروا بالتائهين، بالشاردين بأولئك الذين تكون كلماتهم سمجة على الآذان ثم على القلوب، يتبرم الواحد منهم إذا سمع من يتحدث عن منهاج الرحلة الإنسانية إلى الله، يتبرم أحدهم بالحديث عن عذاب القبر، وعما بعد الموت ويضيق ذرعا ًبذلك، شيء طبيعي أن يضيق ذرعاً بذلك لأنه مكبلٌ بأصفاد شهواته، لأنه مكبل برغائبه الحيوانية القذرة المنحطة فهو لا يريد من يحدثه عن الموتى وعن المآل.


أجل أيها الإخوة، تلك هي القصة إنسانٌ يسير في نفق مظلم ذي اتجاه واحد لا قبل له بأن يعود إلى الوراء واعلم أن هذا الاتجاه لن ينتهي إلا إلى سد، ما الذي يحدث؟ كلما أوغل سيراً في هذا الطريق اشتد الظلام عليه وأخذ منه بالخناق ولعله ينفجر بعد ذلك غيظا. تلك هي سيرة هؤلاء الناس. أما العاقل الذي يجد نفسه قد ركب أو أُركب قطاراً لابد أن يتسائل عن منهاج رحلته في هذا القطار، عن محطاته، عن آخر محطة ما الذي سينتظره، ما الذي سيقع لكي يأخذ العدة؟ أجل بالأمس ربما سمعتم كلام من يتأففون من كلام الله عن عذاب القبر ولا أقول من كلام رسول الله ولا من كلام زيد من الناس، الله هو الذي يتحدث، ألم تقرأوا قول الله عز وجل عن آل فرعون (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).


ربنا هكذا يقول لنا ربنا يحدثنا عن منهاج رحلتنا، أما ينبغي أن نصغي السمع حتى نأخذ العدة؟ وما فائدة الإعراض؟ ما فائدة أن أكون وريث النعامة الغبية تضع رأسها في الرمل حتى لا تتبين ما حولها وحتى لا تتبين الخطر المحدق بها وحتى لا ترى الصياد الذي يتربص بها، غباء كان مضرب المثل ولا يزال في العالم أفنتخذ من النعامة قدوة لنا يا هؤلاء؟! رحلةٌ نحن مسيرون فيها وصائرون إليها أعرضت اليوم وأعرضت غداً ثم أعرضت بعد غد وانقدت لهؤلاء الذين يتأففون من حديث الله عما يجري بعد الموت ولكن ما الذي سيحصل؟ بعد حينٍ تأتيني منيتي وتأتيني الساعة التي يطلب إلي فيها الرحيل من هذه الدنيا إلى الله. هل أستطيع أن أغض الطرف آنذاك أيضاً؟ هل أستطيع أن آخذ بنصيحة هؤلاء الأغبياء؟ هل أستطيع أن أقول دعك فأنا دعني من كلامك هذا فإنني لن ألقي بالاً لهذا الذي تتكلم عنه. رحلة ٌأنا مسوقٌ إليها سيقول لي لقد حانت ساعة الرحيل (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) لابد في تلك الساعة أن أعود إلى الماضي فأجتر الندم، أجتر الألم ويحي لماذا لم أستعد؟ لماذا لم آخذ العدة؟ لماذا لم أتهيأ لهذا اليوم حتى ألقى الله سحبانه وتعالى وهو عني راض؟. أيها الإخوة أسأل الله عز و جل أن لا يجعل مصيرنا اتباع الأغبياء، أن لا يجعل مصيرنا اتباع الثقلاء على النفوس وعلى العقول فضلاً على الآذان. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .     

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة